بين سليمان الحلبي والمعلم يعقوب

بين سليمان الحلبي والمعلم يعقوب



المعلم يعقوب
عناصر الخضوع وعناصر المقاومة
شكيب أرسلان وطلعت حرب

(إذا أردت أن يكون قرارك من رأسك, فلابد أن يكون رغيفك من فأسك).. طلعت حرب

كان الفتى سليمان الحلبي في مطلع العشرينيات من عمره عندما أرسله والده من قرية "عفرين" الواقعة شمال غرب "حلب" في أقصى الشمال السوري إلى "القاهرة" لتلقي العلوم الإسلامية في جامعة الأزهر الشهيرة عام 1797م، وقد فاجأته حملة "نابليون بونابرت" العسكرية على مصر عام 1798م كغيره من المصريين والعرب المقيمين.

وكان سليمان محبا للشيخ أحمد الشرقاوي قائد انتفاضة "القاهرة" الأولى ضد الغزاة في أكتوبر/تشرين الأول 1798م والتي انتهت بدخول الخيالة الفرنسيين إلى الأزهر وتدمير محتوياته ومن ثم اعتقال الشيخ الشرقاوي وقطع رأسه، فأصيب الحلبي بصدمة كبيرة وغادر مصر إلى "حلب"، لكنه رجع إلى "القاهرة" مجددا عام 1800م بعدما عرج على "القدس" ثم على "غزة" حيث التقى ياسين آغا الذي أعطاه أربعين قرشا هي كلفة السفر إلى مصر، فاشترى خنجرا من متجر غزاوي وتوجه إلى الأزهر ومنه انطلق لاغتيال الجنرال" كليبير" قائد الحملة العسكرية المعين بعد رحيل "بونابرت" خفية إلى فرنسا.

"
نجح الحلبي في طعن كليبير ست طعنات قاتلة، وقد ألقي القبض عليه وأعدم بواسطة الخازوق وتركت جثته معلقة أياما لتنهشها الطيور الكاسرة، ومن ثم جمعت عظامه وأرسلت إلى فرنسا حيث ما زالت حتى اليوم محفوظة في أحد متاحفها
"

نجح الحلبي في طعن "كليبير" ست طعنات قاتلة، وقد ألقي القبض عليه وأعدم بواسطة الخازوق وتركت جثته معلقة أياما في" تل العقارب" لتنهشها الطيور الكاسرة، ومن ثم جمعت عظامه وأرسلت إلى فرنسا حيث ما زالت حتى اليوم محفوظة في أحد متاحفها.

يمكن اعتبار الحلبي دون تردد مقاوما بارزا إن لم يكن الأبرز في أول صدام بين العرب والغرب في العصر الحديث، ذلك أن ما فعله ليس أقل من تغيير وجه الغزوة العسكرية الفرنسية لمصر. فقد تسلم الحملة بعد "كليبير" الجنرال "جاك (عبد الله) مينو" الذي أخفق في الاحتفاظ بمصر تحت سيطرة الفرنسيين، وعنه قال بونابرت "لو تسلم قيادة الحملة جنرال آخر غير مينو لربما بقيت مصر حتى اليوم ضمن الممتلكات الفرنسية".

سيسير على رسم الحلبي آخرون في عالمنا العربي الواسع وسيلعبون أدوارا باهرة في طرد المستعمرين من بلداننا، فبعد مضي عقود قليلة سيقاتل الأمير عبد القادر الجزائري القوات الفرنسية المحتلة ببسالة ولسنوات طويلة مستندا إلى أهله ومخذولا من العثمانيين حلفاء فرنسا في حينه، وسيلتقط الراية آخرون من بعد حتى تحطيم أسطورة الجزائر الفرنسية وإعادتها إلى أهلها العرب والمسلمين بعد قرن وثلث القرن من الاستعمار الاستيطاني، وستظهر من بعده أعلام في المقاومة الجزائرية من طراز ديدوش مراد والعربي بن مهيدي وجميلة بوحيرد وآخرون، وكان كلما سقط عدد منهم تزغرد نساء الجزائر يوم دفنه.

وفي شمال أفريقيا أيضا سيقاتل الشيخ الليبي الكهل عمر المختار(73 عاما) حتى الرمق الأخير، وهو يقول للمستعمر الإيطالي الذي دعاه للاستسلام "نحن لن نستسلم.. ننتصر.. أو نموت".

وسيقاتل شبان يمنيون الجيش البريطاني في عدن حتى فوزهم بالاستقلال عام 1967 بعد استعمار طال أكثر من قرن وثلث القرن، وسيقاتل مقاومون في سوريا ومصر وفلسطين في القرن العشرين حتى تحرير بلدانهم من الاستعمار، وسيسير على خطى سليمان الحلبي مواطنه السوري الأرثوذكسي "جول جمال" في غزو السويس عام 1956 عندما هاجم المدمرة جان دارك بطراد صغير، وكان والد "جمال" الطبيب البيطري يحفظ القرآن غيبا مع التمسك الصارم بإنجيله.

وحتى اليوم يواصل فلسطينيون وعرب القتال والمقاومة في حركة متواصلة ومتوارثة منذ أواخر القرن الثامن عشر وصولا إلى مقاومي غزة ولبنان والعراق الذين سطروا صفحات مشرفة في المقاومة والنضال ضد الاحتلال الصهيوني والأميركي، وهم اليوم -كما الحلبي بالأمس- الأكثر شعبية والأكثر مدعاة للفخر بين أهاليهم، في حين تنطوي ذليلة صفحة المتخاذلين والمتعاونين مع المحتلين الأجانب المتعددي الجنسيات.

المعلم يعقوب
في سياق المقاومة المستمرة للمحتلين الأجانب كانت تتشكل في بلداننا مجموعات موالية لهم تؤيدهم أو تقاتل معهم، ومثلما كان الحلبي رمزا للمقاومة في الحملة الفرنسية كان "المعلم يعقوب" رمزا للتعاون والقتال مع المحتلين.

"
رغم انتماء المعلم يعقوب المسيحي وتشكيل مليشيا قبطية موالية للمحتل فإنه لا يعكس موقف غالبية الأقباط من الحملة الفرنسية، فهم قاوموا المحتل إلى جانب المسلمين فضلا عن تبرؤ الكنيسة القبطية منه
"

وعنه يقول الجنرال "جاك (عبد الله) مينو" في رسالة إلى بونابرت "إني وجدت رجلا ذا دراية ومعرفة واسعة اسمه المعلم يعقوب، وهو يؤدي لنا خدمات باهرة منها تعزيز قوة الجيش الفرنسي بجنود إضافيين من القبط لمساعدتنا". وقد تولى يعقوب وظائف عديدة في خدمة المحتل، من بينها جمع الضرائب لمصلحة الفرنسيين بأبشع الوسائل من المسلمين والمسيحيين على حد سواء. وكان أهالي الصعيد يسمون جيش الحملة الفرنسية على أراضيهم جيش "المعلم يعقوب" الذي كوفئ على خدماته بأن عين جنرالا على رأس فرقة من المتعاملين الأقباط يختلف المؤرخون في تقدير حجمها بين ألف وألفي مقاتل.

وعندما هزم البريطانيون والعثمانيون الحملة الفرنسية عام 1801م، اختار "المعلم يعقوب" السفر مع المحتلين وركب إحدى البواخر الإنجليزية لهذه الغاية، لكنه أصيب بالحمى ومات بعد يومين من الإبحار، وقد أوصى بأن ينقل إلى فرنسا ويدفن إلى جوار صديقه الجنرال "ديزيه". غير أن بعض المؤرخين يرجحون أن تكون جثته قد ألقيت في البحر ولم تصل إلى البر الفرنسي، في حين يرى آخرون أن جثته حفظت في برميل من النبيذ ودفنت في مرسيليا وسط احتفال رسمي تنفيذا لوصيته.

وعلى الرغم من انتمائه المسيحي وتشكيل مليشيا قبطية موالية للمحتل، فإن "المعلم يعقوب" لا يعكس موقف غالبية الأقباط من الحملة الفرنسية، فهم قاوموا المحتل إلى جانب المسلمين فضلا عن تبرؤ الكنيسة القبطية منه والحكم عليه "بالحرمان" الديني.

ونجد أمثال "المعلم يعقوب" في كافة الحملات الأجنبية على بلداننا، ففي الجزائر قاتل جيش من الحركيين المسلمين إلى جانب المحتل الفرنسي وخرجوا معه، وفي عدن هرب الموالون للمحتل مع الجنود البريطانيين، وصولا إلى لبنان عام 2000 حيث شهدنا بأم العين هروب "جيش لبنان الجنوبي" وأنصاره إلى إسرائيل مع المحتل الصهيوني الذي لم يتجشم عناء إخطارهم بموعد انسحابه إمعانا في إهانتهم والعبث بمصيرهم.

عناصر الخضوع وعناصر المقاومة
تحيل ثنائية المقاومة والتعاون مع المحتلين الأجانب في مثالي الحلبي والمعلم يعقوب إلى عناصر الممانعة والخضوع في ثقافتنا السياسية العربية الحديثة منذ الصدام الأول مع الغرب الذي أخذ يسود العالم مع انطلاق الثورة الصناعية بأوروبا في القرن السابع عشر.

وهنا لابد من التمييز بين الحملات العسكرية الغربية الحديثة على بلداننا ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر وبين الحملات الصليبية التي بدأت أواخر القرن الحادي عشر واستمرت إلى أواخر الثالث عشر، وقد تمت في ظل سيادة العرب والمسلمين بينما تمت الثانية في سياق خضوعهم وتراجع سيادتهم على القسم الأكبر من أراضيهم وانحسار تأثيرهم على المسرح الدولي.

وإذ نصنف عناصر المقاومة والخضوع في سيرتنا السياسية الحديثة فإننا لا نعتبرها اختصاصا عربيا حصريا، ذلك أن مجمل الشعوب والحضارات عرفت خلال تاريخها الطويل ما يشبه هذه العناصر، ولعل حضارات انهارت وذوت بفعل تغلب عناصر الخضوع في ثقافتها السياسية، في حين صمدت حضارات أخرى ودامت بفعل غلبة عناصر الممانعة والمقاومة في ثقافتها. وإذ تنهض الحضارة العربية والإسلامية أو تسعى للنهوض، فإنها تدين بذلك إلى انحسار تيار الخضوع في ثقافتها لصالح تيار الممانعة والمقاومة، ولعلنا اليوم نعيش لحظة باهرة في هذه السيرورة مع انتصارات المقاومة وتنامي قوتها في المشرق العربي.

"
عندما ترد الأقوال المهينة للعرب على لسانهم وعلى ألسنة غيرهم فإنها تعكس قدرا مهولا من السذاجة والاستخفاف بالذات العربية، وتقديرا بائسا يملي رؤوسا مطأطئة يسهل تحريكها في الاتجاهات الهابطة وبالتالي الخضوع لمشيئة الأجنبي
"

أما عناصر الخضوع فيمكن الإشارة إلى بعض مظاهرها وتشخيصها من خلال أحكام استصغارية مهينة نرددها عن أنفسنا أو يرددها الآخرون عنا ونأخذ بها ونتبناها في لحظة غضب مثل "العرب جرب" أو "اتفق العرب على ألا يتفقوا" أو ".. العرب يدمرون العمران". وقد نسمع أيضا ونردد أحكاما من غير العرب لا تقل استخفافا بهم من نوع "العرب يهربون لحظة إطلاق الرصاصة الأولى في الحرب مع أعدائهم" أو "لسنا كالعرب حتى نهرب قبل بدء المعركة" أو ".. العرب لا يفهمون إلا لغة العصا" كما يردد المستشرق برنار لويس، أو "العرب كالصراصير يجب التصدي لهم بالمبيدات" بحسب حاخام صهيوني، أو "يتوجب منع الرقص الشرقي العربي لأنه ينتمي إلى ثقافة منحطة" بحسب حاخام آخر هو موشيه عامي، أو "العرب ينتمون إلى حضارة متخلفة" بحسب سيلفيو برلسكوني ..إلخ.

عندما ترد هذه الأقوال على لسان العرب وعلى ألسنة غيرهم فإنها تعكس قدرا مهولا من السذاجة والاستخفاف بالذات العربية، وتقديرا بائسا يملي رؤوسا مطأطئة يسهل تحريكها في الاتجاهات الهابطة وحمل أصحابها على الرضا بمرتبة دونية بين البشر، وبالتالي الخضوع لمشيئة الأجنبي القوي المسيطر والمتحكم عن بعد أو المحتل مباشرة كما هي حال الصهاينة في فلسطين والولايات المتحدة في العراق.

ولعل هذا النوع من الأحكام الاستصغارية التي نستنبطها ونرددها هو الذي يعين تيار الخضوع في صفوفنا على تولي زمام الأمور في القسم الأكبر من بلداننا تحت سقف السيطرة الأجنبية، فعندما نرى أن العرب لا يتفقون وأن خلافاتهم أبدية وبالتالي لا يعول عليهم، فهذا يعني أنهم جديرون بالخضوع لمشيئة الأجنبي الغالب وللرسم الذي يرسمه لهم وبالتالي الانتظام في هرمية يحددها الغالب الأجنبي للمغلوب العربي، والاستجابة لما تمليه هذه الهرمية من قناعات وحجج سياسية غالبا ما تستخدم لشيطنة التيار المقاوم والممانع والنيل من عزمه والحد من انتشاره.

بالمقابل، ما انفك التيار المقاوم يدافع عن خطاب سياسي رافض للخضوع وباحث عن نهضة تسترجع الحلقة المفقودة بين ماضي العرب المجيد وحاضرهم ومستقبلهم الذي يرونه في الشراكة مع الأمم المسيطرة على عالمنا وليس عبر التبعية لها، وهنا نتوقف مع نموذج للخطاب المقاوم لدى الأمير النهضوي شكيب أرسلان، وهو خطاب يختصر إلى هذا الحد أو ذاك قيم الممانعة التي يعتمدها عرب المقاومة منذ المجابهة الأولى مع الحملة الفرنسية الغربية في القرن التاسع عشر.

شكيب أرسلان وطلعت حرب
في العام 1930 تلقى العلامة النهضوي محمد رشيد رضا رسالة يقترح صاحبها أن يرد الأمير النهضوي أيضا شكيب أرسلان في مجلة "المنار" على سؤال مصيري: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ مختصر الرد الأرسلاني أن المسلمين تقدموا بواسطة الإسلام وتخلفوا عندما أهملوا واسطة تقدمهم.

هذا الإهمال ماثل في وجوه عديدة من بينها أن رهطا من نخب المسلمين وحداثييهم بخاصة كانوا وما زالوا يعتبرون التخلي عن الإسلام شرطا للتقدم. لدحض هذا الاعتقاد يبرهن الأمير الدرزي اللبناني على أن كل المتقدمين في الغرب لم يتخلوا قيد أنملة عن أديانهم ومعتقداتهم التي شكلت خلفية لهذا التقدم، ويقارن حضور الإسلام بين المسلمين -كوسيلة حضارية وليس كواجبات دينية فحسب- بعجز شعري لطرفة بن العبد ".. كباقي الوشم في ظاهر اليد"، وذلك للقول إن ضعف الحضور الإسلامي في ثقافة العرب والمسلمين يفسر منطقيا تخلفهم عن غيرهم، طالما أن الإسلام نفسه يقدم تفسيرا لتقدمهم على غيرهم خلال قرون طويلة.

"
كان مختصر الرد الأرسلاني على سؤال: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ أن المسلمين تقدموا بواسطة الإسلام وتخلفوا عندما أهملوا واسطة تقدمهم
"

كان العرب في عصر الأمير الأرسلاني يكافحون من أجل البقاء، حيث تتعرض أراضيهم للاستيطان الأجنبي والتنصير في الجزائر بخاصة وشمال أفريقيا عموما والتهويد في فلسطين، وكان مصيرهم في عرف المستوطنين محكوما بمصير الهنود الحمر من سكان أميركا الأصليين، وكان لا بد من مواجهة هذا المصير بنهضة جديدة كانت دفاعية.

ورأى أرسلان بشائرها في مشروع سكة الحديد بين الشام والحجاز وفي النظام الأمني الذي أقامه الملك عبد العزيز في المملكة العربية السعودية وفي مبادرة بنك مصر والمشاريع الرائدة التي أطلقها طلعت حرب في القاهرة وامتدت إلى سوريا ولبنان وفلسطين والحجاز، فضلا عن مبادرات أخرى مماثلة.

وعلى الرغم من أهمية الأمثلة النهضوية التي يشير إليها فإن التجربة المصرية تستحق وقفة قصيرة لما تسلطه من أضواء على واقعنا الراهن.. (بقية المقال)

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.