عشر سنوات من حكم الملك محمد السادس

عبد الإله المنصوري



ملف حقوقي مثقل بالانتهاكات
مشهد سياسي متحكم فيه
اقتصاد ريعي وهشاشة اجتماعية مخيفة
خلاصات

جرت العادة في البلاد الديمقراطية أن يتوقف المراقبون والمحللون والهيئات السياسية والمدنية عند دلالات بعض اللحظات لتقويم تجربة حكومية أو مرحلة رئاسية، أو تطبيق برنامج من البرامج يهم المجتمع والدولة، إذ بعد مرور مائة يوم أو سنة مثلا على تولي حكومة أو رئيس زمام تدبير أمور الدولة، تتبارى مختلف الجهات لإبراز الإيجابيات أو الوقوف عند السلبيات، مقارنة ببرنامجه الانتخابي قبل الوصول إلى السلطة.

إننا أمام تقليد ديمقراطي يخضع بمقتضاه من يتحمل شؤون الدولة لاختبار يأخذ شكل نقاش داخل المجتمع، في ظل منظومة ديمقراطية منفتحة تتوخى ترشيد سلوك الفاعل السياسي الممارس للسلطة، استعدادا لاستحقاق الانتخابات التي يقرر فيها الشعب حكمه النهائي على التجربة قبولا أو رفضا.

وإذا كان مجال المقارنة بين البلاد الديمقراطية والوطن العربي بأقطاره المختلفة يقتضي احترام مبدأ القياس مع وجود الفارق، فإن إخضاع تجربة في الحكم مثل تجربة الملك محمد السادس لمبضع التشريح والتقويم بعد مرور عشر سنوات عليها يعد ضرورة للوقوف على نجاحات التجربة وإخفاقاتها بهدف تلمس طريق نحو المستقبل يتجاوز سلبيات الماضي ويفتح أمام المجتمع آفاقا نحو التقدم والنهوض.

"
رغم الخطوات الأولى التي اتخذها محمد السادس في بداية عهده ووصفت بأنها جريئة في مقاربة ملفات الماضي، إلا أن الممارسة أفرزت واقعا مخالفا للآمال التي عقدت على الشعارات المرفوعة، سواء في مجال حقوق الإنسان أو معالجة قضايا الماضي أو حرية الإعلام
"

ملف حقوقي مثقل بالانتهاكات
لعب الإعلام الرسمي المغربي دورا أساسيا في تلميع صورة الملك الجديد وتقديم أوصاف وشعارات تحمل بشائر للمجتمع بتغير الأوضاع من قبيل: "العهد الجديد" "المفهوم الجديد للسلطة" "دولة الحق والقانون" "المشروع الحداثي الديمقراطي"… واكبتها خطوات بدا للوهلة الأولى أنها جريئة في مقاربة ملفات الماضي، أبرزها تأسيس "هيئة الإنصاف والمصالحة" لمعالجة مآسي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في عهد الحسن الثاني، وأضفى نوعا من المصداقية على كل ذلك أن من تحمل مسؤولية الإشراف عليها مجموعة من ضحايا العهد السابق الذين قضوا زمنا غير يسير في المعتقلات.

لكن الممارسة أفرزت واقعا مخالفا للآمال التي عقدت على الشعارات المرفوعة، حيث باشرت الهيئة عملها في أجواء انتهاكات أخرى لحقوق الإنسان مست التيار السلفي عقب أحداث 16 مايو/أيار2003، التي راح ضحيتها ما يربو على العشرة آلاف شخص (اختطافا وتعذيبا واعتقالا) عقب تمرير قانون "مكافحة الإرهاب" سيئ الذكر، الذي أقرت كل المنظمات الحقوقية بخطورته على حقوق الإنسان واستجابته لاستحقاق انخراط الدولة المغربية آنئذ في النادي الأميركي الرافع لشعار "محاربة الإرهاب" في عهد إدارة المحافظين الجدد.

وبانتهاء تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة تأكد للجميع أنها لم تكن إلا جزءا من حملة علاقات عامة لتحسين صورة النظام السياسي وطي صفحة الارتباط بالصورة السيئة لنظام الحسن الثاني دون استحقاق دفع ثمن القطيعة معه عبر تحقيق انتقال ديمقراطي كامل. فلا الملفات العالقة تم حلها، إذ لا يزال مصير العديد من رموز المعارضة السابقين مجهولا، أبرزهم الزعيم المهدي بن بركة والحسين المانوزي… كما لم يكتب لملف الاعتقال السياسي أن يطوى، إذ لا تزال السجون تضم مجموعة من قدامى المعتقلين السياسيين أبرزهم عبد الوهاب النابت الذي يعود ملفه إلى سنة 1985، ناهيك عن أن توصيات الهيئة الأساسية لم ينفذ منها إلا القليل، في حين بقي أهمها حبرا على ورق.

وهو ما يفسر كيف أن الانتهاكات الجسيمة عادت بقوة لتبصم صورة النظام السياسي المغربي في مجال حقوق الإنسان، حيث إن العقد الأول من حكم محمد السادس انتهى على إيقاع إصدار أحكام قاسية على مجموعة من القيادات السياسية التي تم الزج بها في قضية أجمعت الهيئات السياسية والحقوقية المغربية والدولية على وصفها "بالمفبركة" وهي قضية "المعتقلين السياسيين الستة" التي ضمت قياديين من التيارين الإسلامي واليساري الديمقراطي إضافة لمراسل قناة المنار اللبنانية بالمغرب، مع ما رافقها من انتهاك لحقوق المحاكمة العادلة وحظر حزب سياسي هو "البديل الحضاري" ليظهر للجميع أن القضية هي جزء من مسلسل إعادة ترتيب المشهد السياسي المغربي بما يتوافق وأجندة طاقم العهد الجديد.

يضاف إلى ذلك سلسلة المحاكمات التي مست الصحافة المستقلة، حيث استخدم القضاء غير المستقل أصلا لتصفية الحساب مع الإعلام المستقل، في ظل سيادة إعلام رسمي يروج للرأي الواحد، مما أدى بمنظمة مراسلون بلا حدود إلى تصنيف المغرب في الرتبة 127 عالميا من أصل 175 دولة على مستوى حرية الصحافة.

"
الدور الباهت للحكومة والبرلمان في عملية اتخاذ القرار بالمغرب يمثل معطى بنيويا في المعمار السياسي المغربي الذي ينزع من الشعب، صاحب السيادة الحقيقي سيادته ويربطها بالمؤسسة الملكية التي منحت لنفسها صلاحيات مطلقة
"

مشهد سياسي متحكم فيه
أما في المجال السياسي، فيمكن القول إن العهد الحالي لا يزال مخلصا لنفس النظرة السابقة التي تعتبر أن الخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن يتم دون حاجة إلى تقديم تنازلات سياسية جوهرية يتم بمقتضاها تقليص سلطات الملك المطلقة، وتحويل النظام بمقتضى ذلك إلى ملكية برلمانية ديمقراطية يسود فيها الملك ولا يحكم، وبدون إعادة النظر في قواعد إنتاج وتوزيع السلطة والثروة وإلغاء مظاهر البرتوكول المهين لكرامة المواطنين (تقبيل اليد والركوع للملك).

وهي النظرة التي أدت إلى إنتاج ممارسة سياسية تستمرئ الاستمرار في نهج نفس السياسات السابقة القائمة على تمييع العمل السياسي واحتقار الأحزاب وتبخيس عملها والتضييق عليها، وخلق حزب جديد للسلطة أعلن عن ميلاده بقرار فوقي منحت له فيه كل التسهيلات ليصبح بقدرة قادر متوفرا على فريق برلماني ضخم (حتى قبل ميلاد الحزب) وليمنح المرتبة الأولى في الانتخابات المحلية الأخيرة أمام اندهاش الجميع، وبحكم طبيعة نشأته الغريبة أصبح حزبا يمثل الأغلبية ويمارس المعارضة في نفس الوقت، يحكم باسم الملك ويعارض باسمه أيضا، ما دام أن عرابه الحقيقي هو وزير الداخلية السابق (فؤاد عالي الهمة) الرجل القوي في العهد الجديد الذي يدخل من يشاء للحكومة ويخرج منها من يشاء، حزب ينسب نفسه للمعارضة، دون أن يعارض ما تطرحه الحكومة، لكنه يتصدى باسم الملك، لحزب العدالة والتنمية المعارض للحكومة.

وإذا كان من مميزات العهد الجديد حفاظه على تنظيم الاستحقاقات الانتخابية في موعدها، فإن طريقة تنظيمها لم تختلف عن تلك المتعبة في العهد السابق مع تطوير تقنيات التحكم والتزوير التي أخذت أشكالا مختلفة مثل:

– اعتماد التزوير المباشر في البادية التي يتحكم بها النظام المغربي في النهاية، إذ إن التقطيع الانتخابي يجعل عدد المستشارين الجماعيين (أعضاء المجالس المحلية) الذين يمثلون البادية (45% من السكان) يصل إلى 82% من عددهم الإجمالي وطنيا، في حين أن الذين يمثلون المناطق الحضرية (55% من السكان) لا يتجاوز 18% من عددهم الإجمالي.

– اعتماد التزوير المباشر في اللائحة الوطنية، والتحكم في الانتخابات عن طريق التقطيع الانتخابي والتوجيه الإعلامي والضغط على القوى ذات الامتداد الشعبي لعدم الترشيح في جميع المناطق.

ورغم أن الملك محمد السادس كان قد صرح في أول خطاب له بعد وصوله للسلطة بأنه سيلعب دور الحكم بين الفرقاء السياسيين، فإن ذلك لا يعبر عن حقيقة السياسة المتبعة على الأرض والتي جعلت للقصر حزبه الجديد المفضل، في إعادة إنتاج سيئة لتجربة سابقة عرفها المغرب مطلع الستينات من القرن الماضي بقيادة أحمد رضا اكديرة صديق الحسن الثاني.

إن الدور الباهت للحكومة والبرلمان في عملية اتخاذ القرار بالمغرب يمثل معطى بنيويا في المعمار السياسي المغربي الذي ينزع من الشعب، صاحب السيادة الحقيقي سيادته ويربطها بالمؤسسة الملكية التي منحت لنفسها صلاحيات مطلقة في جميع الدساتير التي عرفتها البلاد بعد الاستقلال، مما جعل الهيئات المنتخبة خارج دائرة الفعل التشريعي والقدرة على التنفيذ، يضاف إلى ذلك تأسيس مجموعة من الهيئات والمجالس الاستشارية والصناديق المالية المرتبطة بالمؤسسة الملكية، مما يبقيها الفاعل الأول والأخير في عملية اتخاذ القرار، ويعطيها مجالا واسعا لاستقطاب النخب ودمجها في دورة الاستفادة من المصالح لضمان دعمها لاستمرارية الوضع، وهو ما يجعل الحكومة عاجزة عن الفعل، مما يكرس الصورة النمطية القائلة بأن من يشتغل هو الملك، في حين تظل الحكومة والأحزاب عاجزة عن فعل أي شيء.

وبعد الإعلان عن تأسيس حزب الدولة الجديد "حزب الأصالة والمعاصرة" ومنحه المرتبة الأولى في المشهد السياسي، تم إغلاق اللعبة السياسية بشكل نهائي وأسدل الستار على مرحلة تاريخية كاملة.

"
تمثل السياسة الاقتصادية للدولة استمرارا لنفس النهج السابق حيث كانت الغاية دوما دعم القوى المتنفذة وتمكنيها من مراكمة الثروات، مع حرص شديد على تطبيق سياسات ونصائح المؤسسات المالية الدولية
"

اقتصاد ريعي وهشاشة اجتماعية مخيفة
تمثل السياسة الاقتصادية للدولة استمرارا لنفس النهج السابق حيث كانت الغاية دوما دعم القوى المتنفذة وتمكنيها من مراكمة الثروات، مع حرص شديد على تطبيق سياسات ونصائح المؤسسات المالية الدولية. وإذا كانت الفئات المرتبطة بالنظام قد استفادت في مراحل مختلفة من الإستراتيجية الاقتصادية للدولة بدءا من تطبيق سياسة المغربة التي أدت إلى سيطرة فئات محدودة على أراضي وضيعات شاسعة تركها المستوطنون الأجانب بداية السبعينيات، مرورا بإستراتيجية الخصخصة لقطاعات حيوية، تم تجييرها لنفس الفئات، وانتهاء بما سمي "بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية" التي تتحكم الدولة من خلالها في المال والمشاريع التي تغدق على مؤسسات المجتمع المدني برقابة من وزارة الداخلية وهي وزارة مرتبطة بالملك، ناهيك عن الصناديق المالية التي تخضع لنفس دائرة القرار.

وإذا كانت الميزة الأساسية للاقتصاد المغربي أنه يبتعد عن منطق الاقتصاد الإنتاجي، فإن ثغرته الأساسية تتمثل في قيامه على بنية ريعية تستفيد بمقتضاها الفئات المرتبطة بالنظام، من مجالات رحبة لمراكمة الثروة دون جهود تذكر، مما يضرب قواعد المنافسة الشريفة التي تمثل إضافة لاستقلال القضاء، عاملا مساعدا على جلب الثروات والاستثمارات الخارجية.

وفي هذا السياق لا تزال السياسات العامة للدولة في مجال الاقتصاد تبنى على أساس استفادة المشاريع الملكية الخاصة منها، حيث يسيطر الملك على مجموعة مالية تحولت في العقد الأخير إلى إمبراطورية ضخمة تتدخل في جميع القطاعات الأساسية للاقتصاد المغربي، مما جعل من الملك أكبر مستثمر يهيمن على الاقتصاد ويدعم نفوذه عليه، مما جعله يحوز على أكثر من 30% من الرسملة الإجمالية لبورصة الدار البيضاء، وهو ما يجعل الملكية المغربية ضمن السبع الأغنى في العالم، مقابل وجود البلد في ذيل الترتيب على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث صنف تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية المغرب مؤخرا في المرتبة 130 من أصل 182 بلدا في العالم.

وإذا أضفنا إلى هذه الأرقام بيانات أخرى حول تدهور التعليم واتساع دائرة الهدر المدرسي، وتفاقم الفقر الذي يمس قطاعات واسعة وانتشار الأمية (حوالي 35% من السكان حسب الإحصاءات الرسمية) وضعف البنية التحتية وتراجع الخدمات العمومية، وارتفاع نسبة الجريمة بالانتشار الواسع للمخدرات، مع رفع الدولة أيديها عن الملف الأمني، فإن صورة قاتمة للأوضاع الاجتماعية تتشكل على أرض الواقع، وتنذر مآلاتها بعواقب وخيمة.

"
المغرب أمام مرحلة ضائعة كان يمكن أن ينهي فيها عملية الانتقال نحو الديمقراطية بجعل القرار السياسي مرتبطا بصناديق الاقتراع، وبالفصل بين الإمارة والتجارة بتعبير ابن خلدون
"

خلاصات
إن وجود فلتات في التدبير السياسي للأوضاع المغربية في العقد الأول من حكم الملك محمد السادس من قبيل مدونة الأسرة التي اعتبرت في مجملها خطة إصلاحية لأوضاع المرأة، ومشروع الحكم الذاتي المقترح كحل لمشكل الصحراء، لا يعفي أي مقاربة موضوعية من الإقرار بأننا أمام لحظة ضائعة من الزمن المغربي لتحقيق الانتقال الديمقراطي، أحكم فيها النظام إغلاق المشهد السياسي ليصبح الفاعل الأوحد في جميع المجالات: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإعلاميا ورياضيا، في عملية إعادة إنتاج لوضع الانسداد الذي ميز الساحة المغربية مند فجر الاستقلال، وضع يكون فيه الملك هو مبتدأ القرار ومنتهاه، مع إبقاء جميع الفاعلين الآخرين هامشا على متن قرارات الفاعل الأول أمير المؤمنين.


إننا أمام مرحلة ضائعة كان يمكن أن ننهي فيها عملية الانتقال نحو الديمقراطية بجعل القرار السياسي مرتبطا بصناديق الاقتراع، وبالفصل بين الإمارة والتجارة بتعبير ابن خلدون، وبنهج إستراتيجية للتنمية تقوم على مبدأ التوزيع العادل للسلطة والثروة، وتأطير ذلك بدستور ديمقراطي يمثل تجسيدا لعملية تعاقد اجتماعي بين مكونات المشهد السياسي المغربي تقطع مع الإرث الاستبدادي للعهد السابق، لقد صدق من قال بأننا كعرب لا نتقن من الإستراتيجيات إلا واحدة ، هي إستراتيجية الفرص الضائعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.