لماذا يرغب جنوبيو السودان في الانفصال؟

لماذا يرغب جنوبيو السودان بالانفصال - الكاتب: يوسف جاتكوث



تعود مشكلة جنوب السودان الذي يختلف عن الشمال في أوجه كثيرة عرقا وثقافة ودينا ولغة، إلى العهد الاستعماري أي قبل رفع علم استقلال السودان عام 1956، إلا أن الأنظمة التي تعاقبت على الحكم بعد الاستقلال (عسكريةً كانت أم مدنية) عمقتها حتى اجتازت الحدود وامتدت إلى بقية المناطق المهشمة الأخرى.

انطلقت الشرارة في 18/8/1955 بتمرد كتيبة من الجنود الجنوبيين في مدينة توريت. وبعد ذلك امتدت الحروب الأهلية المدمرة إلى عقود من الزمن اُستغل فيها الجيش السوداني كأداة قهر وكيد لشعب جنوب السودان وكل من سولت له نفسه في الأطراف طلب حقه الشرعي في المساواة والعدالة وقسمة الثروة والسلطة.

ومن هنا نمت الرغبة في الابتعاد عن المركز الذي صارت قبضته محكمة وقوية في مقاليد الحكم وبدأ الكل يبحث عن الخلاص والفكاك من هذه القبضة، ومن هنا برزت في الأفق فكرة حروب التحرير من أجل نيل الانفصال بالذات لدى معشر شعب جنوب السودان، وعليه فإن أهم أسباب رغبة أهل الجنوب في الانفصال تكمن في الحقائق التاريخية الآتية:

"
من بين أسباب رغبة أهل الجنوب في الانفصال, تمادي النخب الشمالية المستعربة الحاكمة في تبني الهوية العربية الإسلامية التي حددها جيل الحركة الوطنية بجعل السودان دولة عربية ومسلمة
"

* تمادي النخب الشمالية المستعربة الحاكمة في تبني الهوية العربية الإسلامية التي حددها جيل الحركة الوطنية جراء فشلهم في بناء المشروع الوطني للسودان قبل أن ينشأ كدولة، وخطاب الزعيم إسماعيل الأزهري أول رئيس للبلاد في يوم الاستقلال يقف شاهدا على ذلك حيث أعلن صراحةً أن السودان دولة عربية ومسلمة.

* ممارسة تجارة الرقيق بعون التجار الشماليين كالزبير باشا الذي بكل أسف استجار بقبره شعرا البروفيسور عبد الله الطيب (رحمة الله عليه) إبان أحداث توريت عندما قال في إحدى قصائده: ألا هل درى قبـرُ الزبيـرِ    بأننا نُذَبَّح وَسـطَ الزّنـجِ ذَبحَ البهائم.

* إقصاء السياسيين الجنوبيين في كثير من الأمور التي لها علاقة بحكم السودان بما في ذلك تقرير مصير السودان، ومؤتمر القاهرة الشهير عام 1953م يقف شاهدا على ذلك.

* الظلم الذي وقع على الجنوبيين جراء توطين (سودنة) الوظائف قبل الاستقلال في عام 1954م حيث حصل أبناء الجنوب على ست وظائف فقط من جملة 880 وظيفة، مما أدى إلى تدني نسبة مشاركة الجنوبيين في الوظائف المدنية المركزية حتى اليوم، بالإضافة إلى عدم التكافؤ في الأجور بين العاملين في الشمال والجنوب حتى توقيع اتفاقية أديس أبابا عام 1972 دون مبرر، في الوقت الذي تصرف للشماليين العاملين بالجنوب علاوة تعرف ببدل الجنوب.

* سلب الحقوق والحريات والمواطنة في محاولة لطمس هوية وثقافات شعب جنوب السودان، وجهادية الحرب الأخيرة في الجنوب دليل على ذلك.

* التنمية غير المتوازنة في جنوب السودان بالمقارنة مع شماله.

* نقض العهود والمواثيق ممثلة في نقض اتفاقيات أديس أبابا 1972، والخرطوم-فشودة للسلام 1997، فضلا عما نراه اليوم في الملاسنات التي لا تسمن ولا تغني من جوع بين شريكي اتفاقية السلام الشامل الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني والتي أخرجت الشيطان من التفاصيل.

* اعتراف رئيس الوزراء الأسبق محمد أحمد محجوب في كتابه "الديمقراطية في الميزان" بأنه هو والسياسي المعروف مبارك زروق قد احتالا على الجنوبيين في مؤتمر 1947م في محاولة تضمينهما توصية ضمن توصيات المؤتمر بأن البرلمان سيمنحهم حق الاعتبار الكامل لحكومة فدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث في حالة تصويتهم مع الأعضاء الشماليين لاستقلال السودان.

*عدم جدية الحكومة الاتحادية في تعاملها مع توظيف أبناء جنوب السودان في الوزارات والمؤسسات الاتحادية بنسبة 20% كما أقرته اتفاقية السلام الشامل عام 2005. فقد رفضت بعض الوزارات السيادية كالخارجية والمالية رفضا باتا توظيف أبناء الجنوب على الرغم من أن أمر توزيعهم وتعيينهم تم بتوقيع رئيس الجمهورية نفسه. إن التفسير الوحيد لهذا الرفض هو تمادي النخبة الحاكمة في مواصلة السياسات السابقة التي حظي الجنوب فيها بست وظائف فقط من جملة 880 وظيفة في عام 1954 أي عند توطين الوظائف التي كان يشغلها الإنجليز ما قبل الاستقلال.

* تصريحات بعض القيادات من النخب الشمالية في المؤتمر الوطني وشاغلي المناصب الدستورية في حكومة الوحدة الوطنية بقصد تخويف وإرعاب الجنوبيين بأن الويل وكل الويل سيكون لهم إذا ما اختاروا الانفصال وبأنه ستسقط عنهم الجنسية وحق المواطنة ويحرمون حتى من حق العلاج ويطردون على الفور من شمال السودان أو يصيرون رهائن حتى يقضي الله في أمرهم.

* أتت هذه التصريحات غير المسؤولة بما لا يحمد عقباه لدى المؤتمر الوطني، وعلى ضوء ذلك شد كثير من جنوبي المؤتمر الوطني ودعاة الوحدة الرحال صوب الحركة الشعبية في موكب أو موسم الهجرة إلى الجنوب إظهارا لرفضهم التام لتلك التصريحات الجارحة والمستفزة لكيانهم.

وأسوأ من ذلك، يأتي الرئيس البشير لينفخ الهواء البارد مكان اللدغة ويصرح في الأجهزة الإعلامية بشيء من الكلام مفاده أن حكومته ستولي كل الاهتمام والمسؤولية في حماية حقوق الجنوبيين وممتلكاتهم في الشمال.

* أما في ما يخص عائدات بترول الجنوب، تجدهم –أي النخبة الشمالية الحاكمة– يجهرون بسداد 50% شهريا من هذه العائدات لحكومة جنوب السودان، ولكن دون الفصح عن عدد الآبار المنتجة وإنتاجها اليومي وكيف يتم تسويق الإنتاج؟

إن تنامي الوعي لدى أبناء جنوب السودان قد تجاوز حاجز التخويف الأيديولوجي والعسكري لأنهم خاضوا معارك في مختلف المحافل داخليا وخارجيا دفاعاً عن هويتهم الثقافية عبر حركات منها حركة تحرير جنوب السودان (الأنيانيا) وحركة استقلال جنوب السودان (SSIM) والحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLM) التي جاءت باتفاقية السلام الشامل 2005.

"
الأخوة في شمال السودان مصرون على فرض الهوية العربية الإسلامية دون أقل اعتبار للمجموعات غير العربية التي ترى أن الوطن لا يتطلب بالضرورة فرض ثقافة واحدة أو دين واحد أو لغة واحدة على جماعات منقسمة إثنيا أو دينيا أو ثقافيا
"

يبدو أن الأخوة في شمال السودان مصرون على فرض الهوية العربية الإسلامية دون أقل اعتبار للمجموعات غير العربية التي ترى أن الوطن لا يتطلب بالضرورة فرض ثقافة واحدة أو دين واحد أو لغة واحدة على جماعات منقسمة بعمق إثنيا أو دينياً أو ثقافيا، لأن الشعوب ليست معادن قابلة للتذويب والانصهار في أي وقت. ويظهر ذلك جليا في قول البروفيسور علي مزروعي "إن السودانيين بمختلف انتماءاتهم ومكوناتهم العربية والأفريقية قد اختير لهم بكل أسف أن يكونوا أسوأ العرب بدلاً من أن يكونوا أميز الأفارقة".

فإذا كان شعب جنوب السودان لا يمت للعروبة بصلة، فما جدوى انتمائه للعروبة إن لم يكن في مقدوره كعناصر غير عربية تبوؤ منصب الأمين للجامعة العربية؟ أي هل يمكن للسياسي الجنوبي الأستاذ أبيل ألير أو شخصي الضعيف تبوؤ هذا المنصب؟ كما أنني أشك أيضا في تبوؤ وزير الخارجية الأسبق مصطفى إسماعيل نفسه ذلك المنصب بوصفه عنصرا ينتمى للعروبة.

إن القهر والظلم الذى مورس على شعب جنوب السودان كان بقصد إسقاط هويتهم الأفريقية، ولكن بقوة إرادتهم تولد وعيهم بالأفرقة والأفريقانية كهوية. ويقود هذا إلى الجهل بحقيقة ماثلة ألا وهي أن وحدة الهوية ليست بالضرورة أن تحقق التفاهم في الدولة كما هو الحال في الصومال وباكستان وكوريا وهايتي.

هذا لأن هنالك دولا قامت وازدهرت رغم تعدد هويتها كالولايات المتحدة التي تقوم مجتمعاتها على الهجرة، أي على تلاقي جماعات وافدة من أديان وثقافات وأجناس مختلفة ومتباينة. وعليه فإن تحديد هوية دولة متعددة الثقافات -كالسودان– كان يجب أن لا يسبق إقامة الدولة بحسبانه القشة التي قصمت ظهر البعير ونتجت عنه المحنة التي نحن جميعا نعانيها اليوم.

كذلك فإن أي سيناريو مفاده تصعيب الاستفتاء عامة وخيار الانفصال لشعب جنوب السودان خاصةً، سوف لن تحمد عواقبه خاصة بعد أن رأى الجنوبيون خيوط الحرية والخلاص من القهر والظلم وبدأت آمالهم وأحلامهم تتعالى في أعالي قمم جبال الأماتونج من أجل صيانة وحماية إرادتهم في الحياة ليلحقوا بركب الأمم والبشرية. ويتماشى ذلك مع قول إحدى سيدات الجنوب في إحدى دول اللجوء "ماذا سأقول لأخي الذي استشهد هو وآلاف من أبناء وبنات جنوب السودان إن لم ينل شعب جنوب السودان استقلاله وأنا على قيد الحياة".

وعلى الرغم من أن جل الحروب الأهلية بين الشمال والجنوب دارت رحاها في جنوب السودان فإن أعدادا كبيرة من أهله اختاروا النزوح شمالا. ولكن نظام الإنقاذ لم يحرك ساكنا في تقديم الخدمات الضرورية والأساسية لهم لكسب ثقتهم التي كان يمكن أن تتولد منها بذرة الوحدة الطوعية التي نبحث عنها اليوم، أو على أقل تقدير كسر حاجز الثقة بين الشمال والجنوب الذي طغى على النفوس.

ومن هنا نود أن نشيد بترحاب الأخوة في شمال السودان بأهلنا من جنوب السودان الذين أجبرتهم ظروف الحرب على النزوح بحثا عن المأوى والاستقرار.

ختاما، ومهما يكن الخيار يجب على النخبة احترامه حتى ولو أدى ذلك إلى انفصال جنوب السودان باعتباره حلا سياسيا، ويمكن أن يعمل الجميع على توطيد العلاقات والصلات الطيبة بين الشعبين في المناحي الأخرى الاقتصادية والاجتماعية وغيرها وذلك من أجل مصالحهم المشتركة.

وتكمن أهمية الحفاظ على هذه الصلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين شعبي جنوب وشمال السودان في ضرورة تبادل الموارد الطبيعية والاقتصادية خاصة في مناطق التماس، وليس في العلائق الاجتماعية البحتة.. كالزواج وغيره كما تدعي بعض القيادات الشمالية.

ومن هنا أناشد الجميع الاحتكام لصوت العقل حتى نأتي باستفتاء سلس وهادئ يتماشى مع إرادة الشعوب التي لا تقهر. وهذا يتطلب من النخبة الحاكمة الجرأة في التخلي عن ممارسة التحريض والتخويف واستغلال أجهزة الدولة الأمنية والشرطية والإعلامية –المرئية والمقروءة والمسموعة– في الدعاية الرخيصة لجعل الوحدة جاذبة في الوقت بدل الضائع.

لقد كان بإمكانهم طرح هذه البرامج منذ اليوم الأول من توقيع اتفاقية السلام عام 2005 لكسب ود ورضا شعب جنوب السودان من أجل الوحدة، ولكن اليوم هناك حقيقة واحدة ماثلة هي أن الفأس قد وقع في الرأس وأن البكاء على الميت لا يفيد ولن يعيده للحياة.

إن الوحدة التي جاءت بها الحركة الوطنية وجيل الاستقلال (قبل وبعد الاستقلال) والتي نعيش تحت مظلتها حتى الآن، لا تغني ولا تسمن من جوع، وشهدنا كما شهد العالم أجمع أسوأ الانتهاكات في حقوق شعب جنوب السودان أكثر بكثير مما كانت عليه التفرقة العنصرية (apartheid) في جنوب أفريقيا. فلقد مورست كل أنواع القهر والظلم والقتل والدمار فيه من قبل جيش الشمال العربي المسلم وأعلن الجهاد ضد شعب جنوب السودان.

"
الإعداد لخلق سودان موحد أو جديد يتطلب بل يستدعي الأخذ في الاعتبار كل المكونات الثقافية للسودان شرطا أساسيا للوصول إلى وفاق وطني لتجنيب الوطن الانفصال ومآلاته وإلا فالانفصال آت لا محالة
"

يتساءل الإنسان الجنوبي عن الوحدة التي نريد لها أن تكون جاذبة، هل تلك الوحدة التي اقتتلنا في سبيلها وفقدنا فيها نحن سودانيين فلذات أكبادنا وتضرر فيها حتى كيس الخضار ومحفظة كتب تلاميذنا في المدارس؟ أم إن هنالك وحدة طوعية بمعايير جديدة نغير فيها ما بأنفسنا أولاً قبل أن نطالب به الآخرين؟

إن الوحدة التي نحن في ظلها حتى اليوم هي بالطبع مرفوضة رفضا باتا، لإنها تشبه الوحدة بين الحصان والرجل الذي يمتطى ظهره طوال حياته. هذه وحدة لا فائدة منها.

وإن كنا نأمل في وحدة بمعايير جديدة، فالكل يعرف ما يمكن تقديمه من تضحيات كإعادة النظر في تحديد هوية السودان، وإعادة صياغة الدولة بنظام علماني ديمقراطي يتساوى الجميع تحته في الحقوق والواجبات والتوزيع العادل للسلطة والثروة. تلك هي أنسب طريقة للوصول إلى الوحدة في التنوع بالمفهوم الديمقراطي الذي يستظل الجميع تحت مظلته دون استعلائية في الدين أو اللون أو الجنس أو غيرها.

ويبدو من هنا أن الأمر قد وصل طور الاستحالة لتحقيق الوحدة بوصفها خيارا للسودان حيث إن كفة الانفصال قد صارت الأكثر ترجيحا وواقعيةً من أي وقت مضى.

فالإعداد لخلق سودان موحد أو جديد يتطلب بل يستدعي الأخذ في الاعتبار كل المكونات الثقافية للسودان شرطا أساسيا للوصول إلى وفاق وطني نحو هوية تستوعب وتتفاعل مع الخصائص الثقافية والاجتماعية لتجنيب الوطن الانفصال ومآلاته، وإلا فالانفصال آت لا محالة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.