شاهد الزور هو القضاء اللبناني

شاهد الزور هو القضاء اللبناني



قد يكون فلان شاهد زور أو لا يكون. وقد يكون وراءه مزورون ومفبركون أو لا يكون، وقد يكون هناك من أراد أن يحرف تحقيق المحكمة الدولية عن مساره الطبيعي أو أن المحكمة أرادت أن تنحرف من تلقاء نفسها بكل عزيمة وإصرار.

كل ذلك تفاصيل في موضوع، والموضوع هو أن القضاء اللبناني ارتضى لنفسه أن يكون مخبراً لدى المحكمة الدولية وشاهد زور على ما تقوم به من تحقيق، وعلى ما تقوم به مخابرات وأجهزة دول "المجتمع الدولي" أثناء التحقيق.

"
أي قضاء هذا القضاء الذي يسلّم ملف تحقيق إلى جهة أجنبية، دون أن يترك لديه نسخة يمكن له أن يعود إليها في كل حين, وأي قضاء هذا الذي يتنصّل من أبسط المسؤولية في حفظ أوراقه وملفاته
"

يقولون إنه لا يوجد ملف للتحقيق الذي أجراه القضاء اللبناني مع شهود "لا تسمية قانونية لصفتهم"، قبل تسليم الملف إلى المحكمة الدولية. ولعمري هذا القول هو عذر أقبح من ذنب. فأي قضاء هذا القضاء الذي يسلّم ملف تحقيق إلى جهة أجنبية من جنس الملائكة، دون أن يترك لديه نسخة يمكن له أن يعود إليها في كل حين. وأي قضاء هذا القضاء الذي يتنصّل من أبسط المسؤولية في حفظ أوراقه وملفاته، ناهيك عن واجباته الدنيا في المشاركة بالتحقيق والمراقبة وتصويب المسار والتشاور، بل والضغط من أجل ولوج كل الاحتمالات.

هب أن هناك احتمالا بنسبة واحد من مليون في ضلوع إسرائيل بالجريمة، أو أي جهاز من أجهزة دول "المجتمع الدولي"، فهل يشك القضاء اللبناني أن التحقيق الدولي سيستبعد هذا الاحتمال بنسبة مليون من مليون؟ وما هي الجهة المخوّلة عن اللبنانيين تصويب مثل هذا الخلل في الاحتمالات من أجل كشف الحقيقة؟ يبدو أن القضاء اللبناني لا يشك بنسبة واحد من مليون في نزاهة ملائكة التحقيق الدولي، وله "ملء الثقة في عدالة المحكمة".

وهذا يعني أنه شاهد زور. فكل الناس يحق لهم أن يثقوا أو لا يثقوا في عدالة المحكمة الدولية وأن يكونوا "شعبويين" أو طيّعين "للحضارة"، إلا القضاء اللبناني لا يحق له أن يثق إلاّ بنفسه، بل يتوجب عليه أن يشكك في كل شاردة وواردة في التحقيق والمحكمة الدولية شرطاً ضرورياً لليقين.

يقولون إن القضاء اللبناني تخلى عن صلاحياته بموجب معاهدة دولية. والحري به احترام المعاهدات والقوانين الدولية التي أملت عليه أن يلغي نفسه بنفسه. وهذا القول هو أيضاً عذر أقبح من ذنب. فكيف يرتضي القضاء لنفسه التخلي عن نفسه لصالح جهة دولية، وكيف يسمح للسلطة التنفيذية أن تلغيه وأن تضعه تحت سلطة الانتداب الدولي في هيئة دولية خاصة دون أن تحفظ له ماء الوجه في المشاركة على الأقل.

ولو حدثت مثل هذه الفضيحة في أي بلد يحترم الحد الأدنى في مؤسسات الدولة، لقامت الدنيا ولم تقعد في الجسم القضائي نفسه حفاظاً منه على شرف المهنة واستقلالية سلطة القضاء. لكن يبدو أن سلطاتنا الدستورية تعلمت ما تشيعه دول "المجتمع الدولي" في البلدان "المتخلفة" حول الرقي في "احترام القوانين الدولية"، ولم تتعلم كيف تدافع مؤسسات الدولة عن استقلاليتها ومبرر وجودها، في إيقاف السلطة السياسية عند حدها ومنعها من التدخل لوضع المؤسسة برمتها تحت إبطها وتحت سلطة انتداب "المجتمع الدولي".

والعجب العجاب أننا لم نسمع عن تململ في الجسم القضائي اللبناني رفضاً للمهانة والانتداب الدولي على سلطة القضاء، على الرغم من أن العارفين والعالمين يقولون إن الجسم القضائي يعج بخيرة رجال المسؤولية. ولا نملك إلاّ أن نصدقهم القول خوف أن تبلغ فينا العبثية عدم تصديق شيء بعد اليوم.

وإذا كانت الحجة أن الظروف السياسية المحلية والإقليمية لا تسمح بحرية عمل القضاء من أجل كشف الحقيقة ومعاقبة المجرمين، فإن الظروف السياسية الدولية لا تسمح البتة بكشف الحقيقة إذا كان كشفها يتعارض مع مصالح الدول التي أنشأت المحكمة الدولية، بل حتى إذا كانت لا تخدم مصالحها السياسية.

فالمحاكمات الدولية منذ محاكمات "نورتنبيرغ" إلى اليوم، خدمت مصالح الدول المنتصرة في الحرب الثانية. ولم تكشف هذه الدول عن حقيقة جريمة سياسية واحدة وقعت على أراضيها بتعليل "مصالح الدولة". فبعد أربعين سنة من اغتيال المعارض المغربي المهدي من بركة في فرنسا، تفتح الدولة أرشيف الجريمة وتحظر ذكر الأسماء على الرغم من أن الجنرال ديغول أعلن صراحة وقتها مسؤولية الأجهزة الفرنسية.

"
لعل المحاكمة الدولية الأكثر نزاهة هي التي تجري في كمبوديا حيث قام القضاء الكمبودي بدور الحسيب والرقيب إلى جانب المحكمة الدولية ولم يتركها طليقة الإرادة واليدين
"

ولعل المحاكمة الدولية الأكثر نزاهة هي التي تجري في كمبوديا حيث قام القضاء الكمبودي بدور الحسيب والرقيب إلى جانب المحكمة الدولية ولم يتركها طليقة الإرادة واليدين.

فضلاً عن أن القول بتخلي القضاء عن سلطته بموجب معاهدة دولية عذر أقبح من ذنب، فهو غير صحيح. والفقرة الرابعة من الاتفاقية الدولية تنص على الشراكة بين القضاء اللبناني والمحكمة الدولية.

وأغلب الظن أن القانونيين الدوليين هم مَن أدخل هذا النص إلى الفقرة لا القضاء اللبناني. وقد أدخلوها لأن الانتداب المباشر دون حفظ ماء الوجه "بالشراكة" لم يحدث بعد في أي معاهدة دولية مع دول الموز.

والدليل على أن القضاء اللبناني لم ينتبه إلى حفظ ماء الوجه، هو تخليه عن المشاركة بغير دور المخبر وصندوق البريد. بينما يفترض حفظ ماء الوجه المشاركة بالتحقيق وفتح كل المسارات وتقديم الأدلة والقرائن، والإفراط بسيل لا ينتهي من البحث والحرص والمتابعة…. على الرغم من أن الفقرة الرابعة تنص أيضاً على "أولوية المحكمة على القضاء اللبناني"، بل لأنها تنصّ على هذه الأولوية.

والحالة هذه يتوجب عليه المزيد من الحرص في المشاركة ووضع المحكمة أمام مسؤولياتها في المزيد من الأدلة والقرائن خوف أن تنحاز إلى أولوياتها. ثم من أين يأتي كل هذا التبجيل المقدس في "احترام القوانين والمعاهدات الدولية"؟ فهذه المحكمة هي محكمة خاصة لأن القوانين الدولية المتعارف عليها في الجرائم "التي تهدد السلم العالمي" لم تكن تسري في هذه الحالة الخاصة.

وهي خاصة أيضاً قياساً إلى المحاكم الخاصة الأخرى في يوغسلافيا السابقة ورواندا وكمبوديا وغيرها. ويدل مجرد تشكيلها على هذا النحو الشديد الخصوصية على أن معجزة ما في "المجتمع الدولي" أدّت إلى ولادتها. وقد يكون وراء هذه المعجزة القرار رقم 1959 وتوافق "المجتمع الدولي" على استكمال عدوان تموز 2006.

وفي أي حال ليست القوانين الدولية للاحترام والتبخير. فهي تعبّر عن واقع موازين القوى بين الدول، وما ينطبق منها على الدول الضعيفة لا ينطبق على الدول النووية والدول الكبرى. فهي بهذا المعنى قوانين جائرة وعدالة بمكيالين. والدول الكبرى أول من يخرق القوانين والأعراف الدولية حين لا تلتقي بالتمام والكمال مع مصالحها.

وفي جردة حساب بسيطة يتبين أن الولايات المتحدة هي صاحبة السبق في خرق القوانين الدولية، واللائحة طويلة جداً في كل حروبها التاريخية وصولاً إلى معاهدة كيوتو واتفاقية روما وغوانتانامو والعراق. لكن القوانين الدولية في المقابل أمر واقع في يد "المجتمع الدولي". وهي تفرض على الدول الضعيفة التعامل معها بشكل أو آخر: إما التشكيك في عدالتها وغاياتها السياسية في محاولة للحد من استخدامها سلاحاً في أيدي دول "المجتمع الدولي"، وإما تبخيرها بالإجلال والاحترام لتبرير هشاشة سلطات دول الموز في تبعيتها إلى مصالح دول "المجتمع الدولي".

وشرّ البليّة أن السلطة التي تستهلك صباح مساء "ثقافة الدولة" في الإعلام، ترى "ثقافة الدولة" بالمقلوب. فهي تظن أن مؤسسات الدولة "الديمقراطية المتحضّرة" هي التي تلبس "مريول" المدرسة في حضرة أكابر "الديمقراطيين المتحضرين" الذين يعطونها شهادة حسن سلوك في حفظ ما يلقنونه من دروس وتعاليم.

وتظن أن مؤسسات الدولة التي تسلّم سلطاتها وصلاحياتها إلى "أكابر المتحضرين" تظل مؤسسات دولة بل تصبح أرقى، وهذه وتلك مشكلة في الفهم عويصة. ما نعلمه من تجارب "الدول المتحضّرة" أن مؤسسات الدولة لا تسلّم أيا من صلاحياتها إلى هيئة أو سلطة من خارج المؤسسة حتى لو كانت هذه السلطة السياسية نفسها. وما نعلمه كذلك أن رجال السلطة المتحضرين هم رجال الدولة الذين يحترمون استقلالية المؤسسة ويحترمون أنفسهم في احترام استقلاليتها. لكن ما نراه في "مؤسسات دولتنا" أنها تزداد حضارة كلما لبت رغبات ولي النعَم في السلطة، بل تسبقه إلى رغباته أغلب الأحيان.

وما نراه في "رجال سلطتنا" أن جلّ ما تعلّموه من تحضّر ورقي رجال الدولة، بعض الأقاويل الشائعة مثل قرار الحرب والسلم، السلاح الشرعي وغير الشرعي…. ومن بين هذه الأقاويل الشائعة قول "كشف الحقيقة" يؤدي إلى العدالة ووقف الاغتيالات السياسية وتعزيز الحياة الديمقراطية، على قول رجال الدولة في "الدول المتحضرة".

"
المسؤول عن كل ما حدث ويحدث هو القضاء اللبناني الذي سمح أن يحدث ما حدث دون أن يقوم بواجباته, فقد تخلى عن سلطة القضاء وهي حق للشعب اللبناني, وتخلى عن صلاحياته في التحقيق والمراقبة وتصويب المسار 
"

لكن كشف الحقيقة يمكن أن يؤدي إلى العدالة، إذا أنجزته مؤسسات الدولة أو اشتركت في إنجازه على الأقل. فهي تبرهن بذلك على جهودها، وعلى كفاءتها وصدقيتها وقدرتها على تحمّل المسؤولية…. وهي الأسباب التي تعزز الحياة السياسية وتحقيق العدالة.

أما أن تلجأ السلطة السياسية إلى نزع صلاحيات مؤسسات الدولة ووضعها تحت وصاية سلطة الانتداب الدولي، ومنعها من تحمَل أبسط المسؤولية خوف أن تؤثر على عمل المحكمة الدولية، هو أمر يبرهن على أن السلطة السياسية تتعلم "ثقافة الدولة" والحقيقة والعدالة…. في مزرعة دول الموز.

ليس ملف شهود الزور ما ينبغي إحالته إلى المجلس العدلي. وليس شهود الزور ما ينبغي محاكمتهم لمعرفة من زوّر ولفّق وافترى. فملف شهود الزور هو تفصيل في التلفيق وتضليل التحقيق والافتراء على أبرياء الأمس والغد، وعودة الانتداب.

والمسؤول عن كل ما حدث ويحدث هو القضاء اللبناني الذي سمح أن يحدث ما حدث دون أن يقوم بواجباته. فقد تخلى عن سلطة القضاء وهي حق للشعب اللبناني لا يحق له أن يتخلى عنها بطلب من السلطة السياسية طالما لم تعلن هذه السلطة بعد إمارتها المطلقة على مؤسسات الدولة. وتخلى عن صلاحياته في التحقيق والمراقبة وتصويب المسار…. وهي أدنى واجباته التي أوكلها له الشعب اللبناني، لا يحق له التخلي عنها إلى هيئة دولية طالما لم يقبل الشعب عودة الانتداب الدولي.

القضاء اللبناني مسؤول أولاً ومسؤول أخيراً حين ارتضى أن يضع سلطته تحت إبط السلطة السياسية، وارتضى لنفسه أن يتحوَل إلى مخبر لدى المحكمة الدولية وشاهد زور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.