فلسطين وضرورة استعادة القضية

فلسطين وضرورة استعادة القضية - الكاتب: حسن الحسن



ليست المرة الأولى التي تُحتل فيها فلسطين، فقد سبق اغتصابها من قبل الفرنجة الذين أقاموا فيها مملكة بيت المقدس وكذلك اجتاحتها جيوش المغول كما احتلها الإنجليز. كما أنها ليست المرة الأولى التي يطول فيها أمد احتلال فلسطين، فقد بقيت القدس أسيرة بأيدي الفرنجة إحدى وتسعين سنة.

غير أنّ الفرق النوعي بين الاحتلالات السابقة والاحتلال الحالي يكمن في غياب دولة الخلافة الكيان الجامع للأمة والممثل الشرعي لها، مما جعل فلسطين في مهب الريح، يتنازعها كل عابث لتحقيق مصالحه لا مصالح القضية.

"
الفرق النوعي بين الاحتلالات السابقة لفلسطين والاحتلال الحالي يكمن في غياب دولة الخلافة الكيان الجامع للأمة والممثل الشرعي لها، مما جعل فلسطين في مهب الريح، يتنازعها كل عابث لتحقيق مصالحه لا مصالح القضية
"

أضف إلى هذا فرقاً جوهرياً آخر وهو غياب المرجعية الفكرية الإسلامية في التعامل مع القضية وما تفرع عنها وبني عليها من قضايا، مما أدى إلى تضييع مقياس الحق من الباطل بهذا الشأن.

فبات التنازل عن غالب فلسطين أمراً مسوغاً في إطار السياسات الرسمية الرائجة المبنية على شعارات تفوح منها رائحة الهزيمة على نحو "الحياة مفاوضات" و"خذ وطالب" و"الحل الوسط"، والتي تتناقض مع التصور الإسلامي للقضية وللحكم الشرعي الذي يوجب التحرير الكامل لكل شبر محتل من أرض فلسطين.

كما تحولت القضية من البعد الإسلامي الذي يربط عملية التحرير الكامل بالأمة إلى قصرها على أهل فلسطين أو بعضهم رغم عجزهم الواضح عن تحقيق ذلك، مجتمعين كانوا أو متفرقين. كذلك بات التعامل مع تهجير أهل فلسطين إلى البلاد الإسلامية المجاورة يخضع لقوانين هيئة الأمم المتحدة المتعلقة باللاجئين بدل مفهوم الأخوة الإسلامية.

ومن المسَّلم به فإنّ المرجعية الفكرية لأية أمة هي التي تحدد لها الفكر السياسي الذي تعول عليه في تحديد خياراتها وتوجهاتها وفي كيفية تعاطي دولها مع قضاياها. ويبرز أثر هذا بشكل واضح في مسارات ومصائر الأمم التي تغير مرجعياتها الفكرية.

فعندما اعتنق العرب الإسلام وأقاموا دولتهم في المدينة المنورة على هذا الأساس، تغير نمط حياتهم، وتحول نظام الحكم لديهم من نظام قبلي إلى نظام الخلافة الإسلامية الذي يستند إلى سلطان الأمة ووحدتها لا إلى سلطان القوم أو القبيلة، وإلى سيادة الشريعة لا العادات والأعراف والتقاليد، وانتقلوا بفعل تأثير ذلك من قبائل متشرذمة إلى أمة متميزة صاحبة حضارة عريقة ودولة كبرى هزمت إمبراطوريتي فارس والروم بوقت وجيز.

كما كان الفرق شاسعاً وواضحاً في أثر اختلاف مرجعية الفكر السياسي بين تركيا الإسلامية وتركيا العلمانية قبل وبعد سقوط الخلافة العثمانية (1924م).

"
عندما سقطت الخلافة العثمانية واستبدلت هويتها ومرجعية فكرها السياسي بالعلمانية الغربية، كانت تركيا أول بلد مسلم يتنازل عن فلسطين ويعترف بـ"إسرائيل"
"

فبفعل المرجعية الإسلامية كان أمن الدولة وسلامتها مشتملاً على أمن وسلامة كافة الأقطار الإسلامية، إذ كان مرتبطاً بمفهوم الأمة ووحدتها، ولذلك كانت فلسطين حاضرة على رأس قضاياها، وقد رفض الخليفة عبد الحميد الثاني التنازل عنها رغم حاجته للمال الذي عُرض عليه من قبل اليهود آنذاك. وعندما سقطت الخلافة العثمانية واستبدلت هويتها ومرجعية فكرها السياسي بالعلمانية الغربية، كانت تركيا أول بلد مسلم يتنازل عن فلسطين ويعترف بـ"إسرائيل" فيما انحصر أمنها الإستراتيجي ضمن حدود تركيا الحديثة.

وإدراكنا لأهمية المرجعية الفكرية في الفكر السياسي لأي دولة يجعلنا نعي خطورة ترك معالجة قضية فلسطين للدول الغربية. فالفكر الرأسمالي هو الذي يشكل القاعدة الفكرية لهذه الدول ما يجعل تحقيق مصالحها ومنافعها المادية هو جل ما تبتغيه وتسعى إلى تحقيقه من غير أي اعتبار لأية قيمة أخلاقية أو إنسانية رفيعة.

وبالفعل فإن تدخل هذه الدول في قضية فلسطين أدى إلى إطالة نزيف أهلها وتعميق الأزمة القائمة وتعقيدها وتوسعتها لتشمل أماكن صراع جديدة في المنطقة التي تعتبر نطاقاً حيوياً وإستراتيجياً لمصالح الدول الغربية.

ولطالما استعملت أميركا وأوروبا بمجمل دولها الفاعلة قضية فلسطين فيما يخدم مصالح كل منها، فأشعلت ثورات وطبخت انقلابات قومية ووطنية ضد الرجعية العربية وانتصاراً لفلسطين التي ما زالت تنزف على موائد كل من الثوريين والرجعيين.

وإذا كان ثمة توافق ظاهر واقع حالياً بين الدول الغربية لإتمام ما بات يعرف بعملية السلام في الشرق الأوسط فإنه يرجع إلى كون نتائج تلك العملية تخدم الفكر السياسي الغربي الذي يعمد إلى تسوية قضية فلسطين في إطار مشروع استعماري أوسع يحقق مصالح أساسية لها يمكن تلخيصها بـ:

(أ) تصفية قضية فلسطين وتثبيت كيان نهائي "شرعي" لليهود في قلب العالم الإسلامي.

(ب) خلق حالة من الاستقرار في منطقة إستراتيجية تضمن للغرب استمرار نهبه ثروات المنطقة.

(ج) استنساخ كيان فلسطيني على هيئة الكيانات العربية الهزيلة المحيطة ليشكل درعاً واقياً جديداً لحماية أمن "إسرائيل".

(د) ترسيخ واقع التجزئة السياسي في هذه المنطقة واستبدال الهوية الإسلامية بالهوية الوطنية.

"
الفكر السياسي الإسلامي يرفض كل ما يروج له من مشاريع ويجعل تحرير فلسطين برمتها هو المشروع الوحيد المقبول، والواجب تنفيذه, عبر آليات  تعيد القضية إلى مسارها الصحيح
"

(هـ) تغطية وجه الدول الغربية الاستعمارية وبالتحديد أميركا بقناع "السلام".

(و) الحيلولة دون تغيير ذاتي داخلي شامل في المنطقة يهدد مصالح الغرب وربيبته "إسرائيل".

وعليه فإنّ إدراك أهمية المرجعية الفكرية لأية أمة يجعلنا نركز على ضرورة إحياء المرجعية الإسلامية لقضية فلسطين كما لسائر قضايا الأمة، وذلك من خلال جعل الفكر الإسلامي الأساس لبناء تصورات الأمة وسياساتها تجاه قضاياها، مما يضع حداً للعبث الدائر بشأن فلسطين، سواء فيما يروج له من تصفية القضية على أساس الدولة المؤقتة أو الدولتين لشعبين أو الوطن البديل أو الدولة العلمانية الواحدة.

فالفكر السياسي الإسلامي يرفض كل تلك المشاريع ويجعل تحرير فلسطين برمتها هو المشروع الوحيد المقبول، والواجب تنفيذه. كما يفرض تبني هذا المشروع تحديد آليات تحقيقه مما يعيد القضية إلى مسارها الصحيح، ويشكل الخطوة الأولى لإيقاف الشذوذ السياسي القائم بهذا الشأن، ويمثل فعلاً أولى خطوات التحرك لإنقاذ فلسطين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.