حسابات الحقل الأميركي والبيدر التركي

حسابات الحقل الأميركي والبيدر التركي



مع حلول موعد انعقاد قمة لشبونة الأطلسية اليوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري لمناقشة موضوع نشر المظلات الصاروخية على الأراضي التركية، تشعر تركيا أن حجم الضغوط التي ستتعرض لها لتغيير وتليين مواقفها ستتزايد وتتضاعف.

مشروع الدرع الصاروخي الغربي الذي يرى ضرورة تحويل تركيا إلى خط المواجهة الأول مع إيران باسم الشراكة والتحالف القديم تحت مظلة حلف شمال الأطلسي يهدد مسار العلاقات بين الجانبين تحديدا أمام إصرار واشنطن على حماية الجميع من "الخطر الإيراني" رغما عن المعترضين والرافضين.

"
سياسة "الشراكة النموذجية" التي تروج لها واشنطن في علاقاتها مع أنقرة ودبلوماسية "العمق الاستراتيجي" التي تدافع عنها حكومة العدالة والتنمية ستصطدمان في مكان ما إذا ما استمرت المواقف على ما هي عليه
"

أميركا اللاعب الغربي الأول في الملف الإيراني تحاول مرة أخرى أن ترمي الكرة في ملعب الناتو وتقف بعيدا تتفرج على المنازلة بين تركيا ودول الحلف. هي لا تريد أن تكون في قلب الصورة هذه المرة تجنبا لجر المزيد من الانتقادات والهجمات بعدما تراكمت الأخطاء وزاد الفشل خلال التعامل مع أكثر من ملف وقضية إقليمية.

أجواء ما قبل الاجتماعات تشير إلى أن النقاشات ستكون حادة واللهجة أكثر من تصعيدية خصوصا وسط الكثير من الاعتراضات حول المطالب التركية بمنحها بعض الامتيازات وإعطائها الصلاحيات الواسعة في الإشراف على هذا النظام في حال موافقتها على تواجده داخل أراضيها.

تركيا التي تحلم بتوسيع رقعة سياساتها الإقليمية الجديدة التي يروج لها داود أوغلو لا تريد أن تستفيق لتجد نفسها في حقل الصواريخ الأميركية القابعة على حدودها مع إيران. وأنقرة التي تردد أنها لا تريد التخلي عن شركاء الأمس تقول أيضا إنها لا تريد التفريط بكل ما بنته من بروج وقصور مع الجيران والأصدقاء في السنوات الأخيرة، فهل يكون لها ما تريد وهي تعرف تماما أن البعض يريد حرمانها من الورقتين معا إذا ما سنحت له الفرصة الملائمة؟

المؤكد أن سياسة "الشراكة النموذجية" التي تروج لها واشنطن في علاقاتها مع أنقرة ودبلوماسية "العمق الإستراتيجي" التي تدافع عنها حكومة العدالة والتنمية ستصطدمان في مكان ما إذا ما استمرت المواقف على ما هي عليه خاصة أن أحلام العودة إلى أيام السعادة بين واشنطن وأنقرة باتت أكثر صعوبة وتعقيدا.

ترى هل هناك علاقة مباشرة بين سياسات التصعيد الغربي ضد إيران وقرار أنقرة بتعزيز التقارب والانفتاح التركي على كل من روسيا والصين تحديدا في الآونة الأخيرة بعدما أنجزت وضع أسس هذه السياسة مع الجوار العربي والإسلامي؟ هل هناك علاقة مباشرة بين خطوات التمدد والانفتاح التركي الإقليمي والدولي المتواصل وموضوع رفض اعتبار جيرانها حالة خطرة ومصدر تهديد لأمنها واستقرارها؟

البيت الأبيض الذي يقبل اليوم أن الموضوعين الإسرائيلي والإيراني هما شغله الشاغل الذي يردد دون تردد أن تهديد أمن إسرائيل يجب أن تتحمل إيران مسؤوليته بالدرجة الأولى وأن تركيا التي تبرعت للدخول على خط الوساطة انتقلت في الأمم المتحدة إلى الصف الإيراني لتعارض قرار العقوبات ضد طهران، يرى أيضا أن تركيا التي تقول إن لها اعتراضاتها أو تحفظاتها على الكثير من مواد هذا المشروع ستجد نفسها عرضة لانتقادات كثيرة من قبل الحليف غامزا من قناة وجود تمرد تركي ضد الهيمنة الأميركية لا بد من وضع حد سريع له.

ما نشر وقيل بشأن تزايد تحذيرات المسؤولين الأميركيين عن احتمال تعرض العلاقات التركية الأميركية للتدهور والتراجع في حال عدم الوصول إلى ما تريده واشنطن خلال قمة لشبونة يقابله مواقف لتركيا تتركز على:

– ما قاله داود أوغلو وهو في زيارة إلى الصين التي تبعد آلاف الكيلومترات عن الغرب إن بلاده هي في قلب الناتو وإنها لا تحتاج إلى من يقنعها لتغيير مواقفها، فسياسات هذه المنظمة تقر بالحوار والتفاهم والقناعات المشتركة والإجماع، وإن تركيا لا تريد العودة إلى أجواء الحرب الباردة وإنه لا قناعة عندها أن جيرانها يشكلون خطرا عليها، بل هي على العكس من ذلك باتت ترى في معظمهم وفي طليعتهم سوريا وإيران طبعا شريكا انفتاحيا لا يمكن التفريط به.

– وأن التمسك الأميركي بإلزام تركيا بسياسة تتعارض مع مصالحها وحساباتها الإقليمية يفسره بعض المحللين والمتابعين الأتراك بأنه محاولة أميركية لإصابة عصفورين بحجر واحد, النجاح في حماية المصالح الإسرائيلية الإقليمية والذود عن أمنها وإزالة أهم الإخطار المحدقة بتل أبيب أولا، ثم دفع العلاقات التركية الإيرانية نحو التأزم والتدهور بعد كل الجهود التي بذلت على طريق التقارب بين البلدين ثانيا.

"
توصيات تعديل الوثيقة السياسية الأمنية التركية في الأيام الأخيرة ليست سوى محاولة لقطع الطريق على أية ضغوطات تهدف إلى محاصرة أنقرة أو حشرها لدفعها باتجاه تغيير مواقفها في الموضوع الإيراني
"

– وأن سياسة "تصفير المشاكل" ستتعارض بشكل أو بآخر مع حسابات وخطط منظمة الأطلسي للعقد المقبل. وما توصيات تعديل الوثيقة السياسية الأمنية التركية في الأيام الأخيرة التي تبناها مجلس الأمن القومي سوى محاولة لقطع الطريق على أي ضغوط أو خطوات تهدف إلى محاصرة أنقرة أو حشرها لدفعها باتجاه تغيير مواقفها في الموضوع الإيراني.

– وأن تركيا في قمة الأطلسي تعرف أنها ستكون أمام منعطف كبير في سياساتها وعلاقاتها بالحلف الذي التحقت به في مطلع الخمسينيات وأن هذه القمة ستكون امتحانا مشتركا للجانبين قد يقود لإنهاء زواج المتعة هذا الذي فرضته المصلحة والحاجة أكثر من الرغبة بزواج كاثوليكي لا فراق فيه.

– وأن تركيا لم تعد تريد أن تلعب دور المخفر المتقدم لهذا الحلف وقلعة انطلاقه في الشرق الأوسط والورقة الرابحة دائما بيده لتحقيق أحلامه في إمساك خيوط اللعبة إلى ما لا نهاية، خاصة أنها تقود منذ سنوات عمليات رفع الحواجز وإزالة المتاريس وهدم الجدران بجميع أنواعها بين دول المنطقة وشعوبها.

– وأن محاولات جر تركيا نحو المصيدة وساحة المواجهة ستتواصل وتستمر طالما أن الغرب متمسك بخيار المواجهة مع إيران حتى النهاية، وأنقرة قد لا تعرف بعض تفاصيل الدور المرسوم لها بهذا الاتجاه، لكنها تعرف أن ما يعد له يعني بشكل أو بآخر الإطاحة بكل ما بنته بصبر وحكمة في السنوات الماضية لصالح قرع طبول الحرب في المنطقة.

مشكلة واشنطن التي أزعجها عدم وقوف أنقرة إلى جانبها في التصويت الأخير في الأمم المتحدة على قرار تصعيد العقوبات ضد إيران أنها متمسكة بفكرة أن طهران بصواريخها البعيدة المدى قادرة على تهديد أمنها وأمن حلفائها في المنطقة وأن تركيا هي المطالبة قبل غيرها بالتصدي لهذا الخطر.

الصورة من بعيد تبدو وكأن هناك من عجز عن مقارعة إيران وقطع الطريق على صعودها الإقليمي، رغم كل سياسات التضييق والحصار والمعاقبة وأنه قرر إقحام تركيا لتتولى مهمة تحقيق ما يريده وما عجز عن تحقيقه هو.

تركيا تقول دعونا لا نتحدث عن الاحتمالات بل تعالوا نتحدث عن المبادئ والأسس، وهي تقول أيضا إنها لا تريد أن تكون جزءا من أي مخطط يهدف لإعادة أجواء الحرب الباردة إلى الشرق الأوسط، لكن الواضح أن الغرب نجح عبر افتعال أو تأجيج أكثر من أزمة وقضية بإعادة هذه الأجواء المشحونة إلى المنطقة وهو يتغذى ويقتات بفضل سياساته هذه.

لا أحد ينكر ما بنته تركيا في السنوات الأخيرة من شبكة علاقات إستراتيجية إقليمية تقلق كثيرين وتغيظ آخرين، لكن حكومة العدالة والتنمية لن تشجع أحدا يراهن على استعدادها للتفريط بعلاقاتها مع إيران ودول مجاورة أخرى حتى ولو اكتشفت أنها أمام خط اللاعودة في علاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب وحلف الناتو.

أنقرة ترجح أن تكون جزءا من حقيقة وتركيبة المنطقة وتاريخها وجغرافيتها وثقافتها، بل كل ما تحمله من سلبيات ونواقص وشوائب على أن توصف بأنها دولة محورية أو عنصر نشر الاستقرار في المنطقة بفضل قوتها أو شراكتها العسكرية مع الغرب.

أنقرة تعرف أن فوائد سياستها الإقليمية التي تجنيها في بعض الأحيان على حساب الغرب وأميركا تحديدا لن تستمر على هذا النحو، لكن حكومة العدالة والتنمية تعرف أيضا أن المضي في مشروع توسيع رقعة الديمقراطية وتحرير الاقتصاد التركي من أي ارتهان غربي والتذكر دائما أن الخيارات العربية والفرص الإقليمية والدولية تتزايد من حولها، وهو ما قد يمكنها من قول لا لواشنطن والغرب تماما، كما فعلت أكثر من مرة في السنوات الأخيرة إذا ما شعرت بخطورة ما يقال لها أو يراد أن يفرض عليها.

ما تتجاهله واشنطن ولا تريد أن تسمع به هو أن سياستها الراهنة في ملف العلاقات التركية الإسرائيلية قد تدفع أنقرة للابتعاد أكثر فأكثر ليس عن تل أبيب وحدها بل ربما عن واشنطن نفسها إذا ما استمر أسلوب الكيل بمكيالين في التعامل مع مسائل إقليمية تزعج دول المنطقة وشعوبها وتختار أميركا فيها الوقوف "على العمياني" إلى جانب حكومة نتنياهو. كما فعل 126 نائبا أميركيا مؤخرا حين نصحوا إدارة أوباما من خلال عريضة مشتركة وقعوها يطالبون فيها بعدم إدانة إسرائيل في الهجوم على أسطول الحرية.

دائما واشنطن هي التي تناقش مصداقية أنقرة ومدى استمرارها في الولاء للغرب ولحلف الأطلسي، لكنها تتجاهل ما يقلق تركيا ويزعجها في أسباب تجاهل العدوان الإسرائيلي على أسطول الحرية وغض النظر عن التواجد العسكري الكبير لقوات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل التي ما زالت بشكل أو بآخر تحت رحمة السيادة الأميركية في العراق.

"
الدرع الصاروخي قد يتحول إلى صاروخ (إسفين) يدق في عمق بقعة السلم الإقليمي التي تصر تركيا على توسيع رقعتها وحسابات الحقل التي تراهن عليها واشنطن قد لا تأتي متطابقة مع حسابات البيدر التركي عند فتح الدفاتر
"

الدرع الصاروخي قد يتحول إلى صاروخ (إسفين) يدق في عمق بقعة السلم الإقليمي التي تصر تركيا على توسيع رقعتها وحسابات الحقل التي تراهن عليها واشنطن قد لا تأتي متطابقة مع حسابات البيدر التركي عند فتح الدفاتر.

حل يحمله قيادات تل أبيب إلى واشنطن ويردد في الأشهر الأخيرة ننصح ألا تعتمده إدارة البيت الأبيض في المواجهة مع أنقرة، وهو العمل على إسقاط حكومة أردوغان وإبعادها عن السلطة ودعم حكومة تركية ائتلافية تعيد الأمور إلى سابق عهدها قبل 8 سنوات، إن ارتدادات أي محاولة من هذا النوع ستتحول إلى زلزال كبير من الصعب قياس شدته والتخمين بحجم أضراره.

تركيا لا تريد أن تتحول إلى ساحة المنازلة الغربية باسم تجديد الإستراتيجيات الأمنية الإقليمية التي لا هاجس لها سوى تحطيم القوة العسكرية الإيرانية المتصاعدة إرضاء للأصدقاء والحلفاء الإقليميين بالدرجة الأولى، ولا تريد أن تقع في فخ أنظمة الباتريوت التي نصبت على الحدود العراقية إبان الهجوم العراقي على الكويت استجابة لسياسات الترهيب والترغيب الغربية ولتقارير أجهزة الاستخبارات التي أقنعت انقرة بسيناريو صواريخ صدام البعيدة المدى المحملة برؤوس نووية جاهزة لإزالة أنقرة وإسطنبول وقتها.

دائما هي تركيا المطالبة أن تثبت الولاء للغرب، لكن رجب طيب أردوغان قالها علنا "أمن تركيا لن يتحقق بأسلحة مستوردة صنعت بعلوم وتكنولوجيات وتقنيات غيرنا".

أتراك كثر يرفضون اليوم أن تمضي تركيا في لعب دور "الصيدلية المناوبة" لتكون في خدمة المشروع الأطلسي على مدار الساعة، يجد فيها الملاذ الدائم كلما تعرضت مصالحه في المنطقة للتهديد.

أردوغان راهن دائما على دعم القواعد الشعبية له في قراراته الحساسة من هذا النوع وهي لم ترده خائبا كلما طلب ذلك وربما هذه هي النقطة الأساسية التي لا يريد أن يعرفها الغرب، حيث إنه يتجاهل الحراك الإيجابي الداخلي ويراهن على دعم تركي مطلق لسياساته ومواقفه معتمدا على العسكر في تركيا الذي وقف هو الآخر جنبا إلى جنب مع حكومة العدالة والتنمية قبل أيام يعلن تحديث وثيقة الأمن الإستراتيجي لتركيا لتكون رسالة أخرى لواشنطن وللناتو كي لا يحرجوا الأتراك أكثر حتى لا يخرجوهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.