الدور التركي في موازين النفط والغاز

الدور التركي في موازين النفط والغاز - الكاتب: سعد الله الفتحي



حضرت قبل فترة قصيرة في أنقرة مؤتمرا عن التوسع في صناعة النفط والغاز في تركيا قدمت فيه مجموعة من الأوراق المهمة عن تلك الصناعة وعلاقاتها وتأثيراتها الإقليمية والدولية.

ومن المعلوم أن احتياطي تركيا من النفط والغاز محدود ويعتمد البلد في تلبية الطلب عليهما على الاستيراد بما لا يقل عن 90% من احتياجاته. وبالرغم من وجود برنامج واسع لاستكشاف النفط والغاز في البر والبحر –خاصة في البحر الأسود- من قبل شركة النفط التركية والشركات العالمية المتعاونة معها فإن فرص النجاح في العثور على كميات كبيرة من النفط والغاز تبقى محدودة ولن تغير من الصورة العامة القائمة حاليا.

"
احتياطي تركيا من النفط والغاز محدود ويعتمد البلد في تلبية الطلب عليهما على الاستيراد بما لا يقل عن 90% من احتياجاته
"

ولكن أغلب وأهم ما نوقش في المؤتمر كان دور تركيا المتزايد في نقل النفط والغاز لكونها تتوسط مناطق إنتاجية مهمة وتشكل حلقة وصل بين الشرق والغرب إضافة إلى اعتقاد البعض أن تركيا قد تصبح مركز تجارة للطاقة مستقبلا.

وبإلقاء نظرة على الخارطة المتعلقة بأنابيب النفط والغاز الحالية والمستقبلية التي تعبر تركيا لا يبقى أي شك في الدور المتزايد الذي تلعبه تركيا إقليميا وتأثيراته العالمية. ومع ذلك فقد بينت الطروحات أن تحول تركيا إلى مركز تجارة في النفط والغاز سيبقى بعيدا.

من الناحية اللغوية فإن المركز أو الصرة أو المحور هو المكان الذي تحدث فيه أهم الأشياء وتتخذ فيه القرارات. ومن ناحية الطاقة فإن المركز هو المكان الذي تتجمع فيه الإمدادات من منتجين مختلفين لشخصية اعتبارية محددة تبيع للمشترين دون أن يكون لهم علاقة بمصادر التجهيز.

وهكذا فالمركز يصبح الحكم أو الوسيط في تقرير الأسعار وتغيراتها. ويمثل هذا الوضع في الولايات المتحدة مركز هنري في لويزيانا بالنسبة لسوق الغاز الطبيعي ومركز كوشنك في أوكلاهوما بالنسبة لسوق نفط غرب تكساس الذي تتحدد بموجبه أسعار النفوط الأخرى.

وفي هذا السياق فإن تركيا على الرغم من ازدياد أهميتها باعتبارها بلد عبور، ليست مركزا لأنها لا تتدخل في أسعار النفط الخام القادم من العراق وأذربيجان ومصادر أخرى إلى ميناء جيهان. كما أن تركيا لن تتدخل في أسعار الغاز الروسي –أو غيره- الذي قد يعبر أراضيها إلى دول في جنوب أوروبا.

وحتى خط نابوكو -أكثر المشاريع المثيرة للنقاش– ليس سوى مشروع عبور عبر أراضي تركيا إلى أوروبا بدون تكامل مع الشبكة الداخلية التركية بصيغته المعروضة حاليا. لذا فإن تركيا تستفيد كثيرا من موقعها بالقرب من ما يقرب من 72% من مجمل احتياطي النفط والغاز في العالم الموجودة في الشرق الأوسط وروسيا ومنطقة بحر قزوين.

"
خط الأنابيب المعروف بالسيل الأزرق ينقل الغاز الروسي عبر البحر الأسود بطاقة 16 مممس, كما تم توصيل خط الغاز العربي إلى تركيا شمال حلب بطاقة حالية تقرب من 4 مممس من الغاز المصري المغذي للأردن وسوريا أيضا
"

كان العراق أول الدول التي صدرت نفطها عن طريق تركيا منذ أواسط السبعينيات من القرن الماضي بواسطة خطين متوازيين تصل طاقتهما الكلية إلى 1.6 مليون برميل في اليوم ينقلان النفط من الحقول العراقية إلى ميناء جيهان على البحر المتوسط. وقد مددت الاتفاقية بين تركيا والعراق مؤخرا لمدة خمس عشرة سنة إضافية.

أما خط النفط الخام الثاني بطاقة مليون برميل في اليوم فهو الذي يربط حقول أذربيجان عن طريق خط باكو –تبليسي –جيهان الذي بدأ تشغيله في 2006 وانضمت كزاخستان إلى اتفاقيته. ولا يزال خط سامسون – جيهان قيد الإنشاء لنقل النفط الخام الروسي أو من منطقة بحر قزوين دون المرور بمضيق البسفور المزدحم.

وهذه النقطة في غاية الأهمية بالنسبة لتركيا التي تخشى من حادثة تسرب نفطي في ذلك المضيق تزداد احتمالاتها طرديا بزيادة عدد الناقلات والسفن العابرة للمضيق. هذه المشاريع مجتمعة سوف تجعل جيهان من أكبر مرافئ النفط في العالم.

وبالنسبة للغاز الطبيعي فإن تركيا تستورده منذ أواسط الثمانينيات حيث دخل الغاز الروسي عبر جزئها الأوروبي بطاقة 14 مليار متر مكعب سنويا (مممس). ويدخل الغاز الإيراني حدودها الشرقية عبر خطين تصل طاقتهما الكلية ما يقرب من 10 مممس في الوقت الذي تصل فيه كمية الغاز الأذربيجاني إلى 6.6 مممس منقولا بخط أنابيب عبر جورجيا.

وأخيرا فإن خط الأنابيب المعروف بالسيل الأزرق ينقل الغاز الروسي عبر البحر الأسود بطاقة 16 مممس. كما تم توصيل خط الغاز العربي إلى تركيا شمال حلب بطاقة حالية تقرب من 4 مممس من الغاز المصري المغذي للأردن وسوريا أيضا.

أما مرفأ الغاز المسيل في مرمرة فإنه يستقبل 5.2 مممس من الغاز المسيل من الجزائر ونيجيريا وقطر. وربما تزداد كميات الغاز المسيل مستقبلا بعد تشغيل المرفأ الجديد في علي أغا.

وهكذا فإن واردات تركيا من الغاز يمكن أن تتجاوز احتياجاتها التي بلغت 38 مممس في 2009. لذا تسعى تركيا بحرص على إعادة تصدير الغاز إلى اليونان وإيطاليا بطاقة 8 و3 مممس لكل منهما على التوالي والمشروع قيد الإنجاز. وستزداد إمكانيات تركيا إذا تم إنجاز الخط الروسي المسمى السيل الجنوبي لإيصال الغاز إلى جنوب أوروبا وإذا كان بالإمكان ربطه أيضا بالشبكة التركية.

"
مشروع خط أنابيب نابوكو لا تزال القرارات النهائية بشأنه بعيدة المنال, وقد طرح في 2002 ووقعت الاتفاقية الأولية بشأنه في أنقرة في 2009 لنقل الغاز من منطقة بحر قزوين والشرق الأوسط لتغذية دول الاتحاد الأوروبي
"

ولابد من الحديث بشكل خاص عن مشروع خط أنابيب نابوكو الذي لا تزال القرارات النهائية بشأنه بعيدة المنال. وهذا المشروع الذي طرح للمرة الأولى في شباط 2002 ووقعت الاتفاقية الأولية بشأنه في أنقرة في 13 يوليو/تموز 2009 بين تركيا ورومانيا وبلغاريا وهنغاريا والنمسا لنقل الغاز من منطقة بحر قزوين والشرق الأوسط إلى النمسا وتغذية دول الاتحاد الأوروبي في الطريق. وقد اعتمد الاتحاد الأوروبي هذا المشروع بتأييد من الولايات المتحدة لزيادة أمن الإمدادات إلى أوروبا بتقليل اعتمادها على روسيا.

إن قرار الاستثمار النهائي في هذا المشروع لم يتخذ بعد لذا فإن تاريخ الإنجاز الذي كان متوقعا في 2015 يبدو الآن مستبعدا. فالمصدر الرئيسي للغاز بطاقة 8 مممس سيكون من المرحلة الثانية لتطوير حقل غاز شاه دنيز في أذربيجان الذي يعتقد أنه لن ينجز قبل 2017.

هذه الكمية ليست كافية للمضي في المشروع قبل الحصول على 10 مممس من تركمانستان. ولكن يبدو أن هناك إشكالات كبيرة بالنسبة لغاز تركمانستان ينبغي تجاوزها أولا. فالحدود البحرية بين الدول المتشاطئة على بحر قزوين لم يتم الاتفاق بشأنها وهناك مشاكل بين تركمانستان وأذربيجان بشأن الحقول المشتركة إضافة إلى وجود إشكالات فنية في كيفية نقل الغاز التركمانستاني عبر بحر قزوين.

وفي مرحلة سابقة كان هناك تصور لنقل هذا الغاز عبر إيران ولكن ذلك لم يعد مقبولا لأن الغاز الإيراني أيضا غير مقبول حاليا في المشروع. ومن المحتمل أن تذهب كميات الغاز المصري الواصلة إلى تركيا إلى هذا المشروع مستقبلا.

ولا تزال هناك حاجة إلى كميات إضافية لنصل إلى الطاقة المطلوبة للمشروع البالغة 31 مممس لذا قامت شركتا "أو أم في" النمساوية و"مول" الهنغارية بالاتفاق مع الحكومة المحلية في شمال العراق على ربط مصادر الغاز من حقول العراق الشمالية بالمشروع دون موافقة الحكومة العراقية في بغداد التي اعتبرت الاتفاق غير قانوني وقامت بوضع الشركتين في القائمة السوداء ومنعهما من العمل في العراق.

ولكن الغاز العراقي يمكن أن ينقل إلى المشروع عن طريق خط الغاز العربي حيث إن العراق أحد الموقعين على اتفاقية هذا الخط وهناك اتفاقيات مبدئية بين العراق وسوريا لتصدير الغاز العراقي إلى سوريا وغيرها عن هذا الطريق.

"
سعت تركيا أكثر من مرة للسماح للغاز الإيراني بتجهيز مشروع نابوكو ولكنها لم تنجح بسبب اعتراض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة
"

وقد سعت تركيا أكثر من مرة للسماح للغاز الإيراني بتجهيز المشروع ولكنها لم تنجح بسبب اعتراض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مما حدا بأحد المسؤولين الإيرانيين إثر حاجة المشروع الواضحة للغاز إلى أن يقول إن خط نابوكو سيكون خطا فارغا بدون الغاز الإيراني.

ورغم المبالغة في هذا التصريح فإن الحاجة إلى مزيد من الغاز للمشروع تبقى قائمة. ونظرا لعدم ارتياح الأوروبيين لمشروع السيل الجنوبي الروسي فإنهم الآن لا يمانعون من ربطه بخط نابوكو. إلا أن الروس يعتقدون أن خطهم أكثر تنافسية وربما لا يقبلون ربط المشروعين لاعتقادهم أصلا أن خط نابوكو موجه ضدهم أو هكذا صوره مريدوه منذ البدء.

كل هذه العوامل تثير تساؤلات كثيرة حول كفاية الإمدادات لهذا الخط وتجعل جدواه موضع تساؤل. وفي نفس الوقت تحاول روسيا بنجاح شراء الغاز من دول بحر قزوين لتقليل الكميات التي يمكن أن تغذي نابوكو وقد تعاقدت مؤخرا مع تركمانستان لتجهيزها بثلاثين مممس مما سيساعد روسيا على تحرير كميات مماثلة من غازها للتصدير.

وفي نفس الوقت يمكن أن تتجه تركمانستان شرقا لبيع غازها حيث تقوم بذلك فعلا بالنسبة لإيران وقد تعهدت بإمداد الصين بالغاز أيضا وسط اعتراضات أوروبية بشأن حقوق الإنسان فيها.

وربما تحتاج تركمانستان زيادة كبيرة في إنتاجها لكي تبقى إمكانياتها في الاتجاه غربا قائمة وربما لا تكون كذلك حاليا. إن الطلب على الغاز يزداد في الشرق إلى حد كبير وإن النجاح الذي تحقق في مد الخطوط الطويلة شرقا كما حدث في خط وسط آسيا إلى الصين يجعل الحكومات والشركات تتشجع لمد خطوط إضافية في ذلك الاتجاه حيث ستكون هذه الخطوط أقل تعقيدا من نابوكو.

إن موقف تركيا وتحمسها لخط نابوكو مفهوم, فهي تريد أن تزيد من أهمية موقعها باعتبارها بلدا ناقلا حاليا أو مركز تبادل مستقبلا دون إغفال أهمية أجور النقل والعبور التي ستؤول إليها. كما أنها تريد الاستفادة من الغاز الذي سيمر في مناطق لم تصلها الشبكة التركية بعد. ويقال إن تركيا ترغب في الحصول على 15% من طاقة نابوكو لتغذية شبكتها في الشرق مع احتمال تعويض الكمية في الغرب.

"
الطلب على الغاز في أوروبا قد يرتفع من 502 مممس في 2005 إلى 815 في 2030, لذا فإن من الصعب تصور كون نابوكو بديلا عن الغاز الروسي بل يجب اعتباره مكملا له وللإمدادات الأخرى
"

وأخيرا لابد أن نلاحظ أن الطلب على الغاز في أوروبا قد يرتفع من 502 مممس في 2005 إلى 815 في 2030. لذا فإن من الصعب تصور كون نابوكو بديلا عن الغاز الروسي بل يجب اعتباره مكملا له وللإمدادات الأخرى. وعلى تركيا وأوروبا أن تعمل على إزالة مخاوف روسيا من المشروع بتقليل المحتوى السياسي للمشروع قدر الإمكان عبر التكامل مع مشاريع أخرى وتشجيع مصادر جديدة من قطر وغيرها للتجهيز عبر العراق وأن يتم تجاوز الحظر العشوائي على المصادر لأسباب سياسية.

هذا إذا تصورنا دور تركيا الحالي والمستقبلي وكونها بلدا يستهلك ما يقرب من 700 ألف برميل في اليوم من النفط وما يكافئها من الغاز تقريبا ويضطر لاستيراد ما يقرب من 90% من هذه الكميات.

وقد عملت الشركات الحكومية التركية بنجاح لتعزيز هذا الدور وتتوقع لها نجاحات مستقبلا أيضا. وبحزن أود أن أقول إن مشاريع العراق لتصدير الغاز إلى تركيا كانت الأولى وبدأت في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي ولكن لم يتحقق منها شيء لحد الآن في الوقت الذي تبدو فيه اقتصادياتها أفضل من غيرها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.