الكرسي الواطي والباب العالي

الكرسي الواطي والباب العالي - الكاتب: سمير صالحة



جرة عسل العلاقات التركية الإسرائيلية التي ظلت تهتز لأشهر طويلة سقطت على الأرض أخيرا وتحطمت وتبعثر ما بداخلها. فالراعي الإسرائيلي وهو في حلم اليقظة رفع عصاه في وجه الأتراك وراهن على " تركيعهم" وإذلالهم والانتقام منهم بسبب الابتعاد يوما بعد الآخر عن "قضاء وقدر" حماية قطيع الغنم الإسرائيلي الذي ما زال يسرح ويمرح في حقول ومراعي الغير يعبث بخيراتهم ويهدد ممتلكاتهم دون أية رقابة أو رادع. وركل الجرة التي ظل يحميها ويحرسها لسنوات طويلة قاصدا أن تكون له ضمانة لا تعوض عند الضيق والحاجة فاستفاق مذهولا مذعورا مرتبكا كيف فرط بهذه الثروة التي لا تقدر بثمن؟

"
الراعي الإسرائيلي كان يصر دائما على تخيلنا (الأتراك) حطبا فيما يكون هو الفأس، هو المنشار ونحن قطع الخشب، هو المطرقة ونحن السندان، هو المحدلة ونحن الحصى، هو الجالس في الأعلى ونحن من ينتظر على مقعد خشبي في الأسفل
"

الراعي الإسرائيلي كان يصر دائما على تخيلنا حطبا فيما يكون هو الفأس، هو المنشار ونحن قطع الخشب، هو المطرقة ونحن السندان، هو المحدلة ونحن الحصى، هو الجالس في الأعلى ونحن من ينتظر على مقعد خشبي في الأسفل، هو الذي يعاقبنا ويوبخنا برفض مد يده لنا عندما يغضب، على مرأى ومسمع العالم ضمن قواعد وأعراف دبلوماسية غير مألوفة بعدم وضع إعلامنا أمام طاولة الحوار أو إكرامنا حتى ولو بفنجان قهوة, مع أن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو ذكر وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك عندما التقاه في أنقرة قبل أيام أن لفنجان القهوة التركي خاطر أربعين عاما وعليه أن ينقل ذلك لكبار الحالمين في إسرائيل داني أيالون الذي افتعل أزمته بأوامر من زعيمه ليبرمان ضمن رهانات سياسية داخلية ضيقة.

لكن حسابات الحقل لم تنطبق مرة أخرى على حسابات البيدر فها هي مسرحية زعماء "إسرائيل بيتنا" تتفاعل سلبا بين القيادات الإسرائيلية نفسها يوما بعد آخر وها هو أيالون يحاول فش خلقه بقيادات المعارضة والإعلام المهاجم بعدما لقنته العاصمة التركية درس "الباب العالي" ردا على مهزلة "الكرسي الواطي" فبدأ يتحدث عن "كلاب تنبح وقافلة تسير" متحديا منتقديه في الداخل أن المواجهة مع الأتراك لم تنته بعد وأن في جعبته مفاجآت أخرى بينها طرد السفير إذا ما تواصلت الحملات الدعائية التركية المنتقدة لإسرائيل.

الإعلام الذي كتب مطولا وما زال حول الأزمة الدبلوماسية بين تل أبيب وأنقرة وأسبابها ومضاعفاتها وذيولها كشف لنا مؤخرا عن جانب آخر لحجم اللطمة التي تلقتها الخارجية الإسرائيلية وكبار صناع القرار فيها عندما دخل شمعون بيريز السياسي المحنك على خط الأزمة بعدما اكتشف أن الرئيس التركي عبد الله غل لا يراوغ في انذاره بسحب السفير شليك كول وتخفيض حجم التمثيل الدبلوماسي ومراجعة الكثير من العقود والاتفاقيات الموقعة مع الحكومات الإسرائيلية إذا لم تعتذر عن تصرفها ومعاملتها السيئة للسفير التركي الذي استدعاه نائب وزير الخارجية الإسرائيلي أيالون لاستعراض العضلات الإسرائيلية أمامه.

مصادر عديدة تقول إن الخارجية الإسرائيلية أرسلت مسودة بيان الاعتذار فعدلته الخارجية التركية بما يناسبها وأعادته إلى تل أبيب لتبعثه رسميا هذه المرة وتعلن قبولها به. لا أحد يصدق أن إسرائيل أضرمت النار في بيت القش الذي بنته بيدها على هذا النحو المفاجئ تاركة من ورائها مخلفات وأضرارا سياسية وإستراتجية لا يمكن تلافيها بهذه السهولة في علاقاتها مع تركيا.

"الباب العالي" لم يتحمل الإهانة سوى لساعات فقط فرد أردوغان وحكومته كان مزلزلا حقا وهو فرصة للكثيرين لمراجعة مواقفهم وسياساتهم وأخذ الدروس والعبر. البعض بدأ يسخر من المسرحية الإسرائيلية الفاشلة قائلا إن ما ينقذ إسرائيل ربما هو مسارعتها إلى الإعلان عن أن كل ما جرى كان مجرد مزحة من نوع الكاميرا الخفية "أردنا فقط أن نختبر أعصابكم وقدرتنا نحن على التحمل والرد" أو القول إن تل أبيب أرادت تقديم خدمة مجانية لتركيا لتعزيز موقعها ومكانتها الإقليمية عبر افتعال هذه الأزمة التي انسحبت منها إسرائيل بسرعة البرق وعلى غير عادتها ملوحة بطنجرة الطبخ الفارغة على طريقة نصر الدين خوجا جحا تركيا "لو أعلمتموني بقدومكم لكنت أعددت لكم دجاجة في هذا الإناء".

"
لم تفشل إسرائيل فقط في الخروج من مواجهتها مع أنقرة مضرجة بالدماء بل أثبتت أنها عاجزة حتى الساعة عن تقديم البدائل والخيارات الداخلية والخارجية للتخلص من ورطتها الدبلوماسية في القريب العاجل
"

فهل من المعقول أن تكون تل أبيب حفرت لنفسها بنفسها على هذا النحو ولتسقط في مكان لا تعرف كيف تخرج منه حتى الآن. حكومة نتنياهو تعرضت لإطلاق الرصاص من بندقية الصيد التي سلمتها لكبار الرعاة ليبرمان وهي لم تفشل فقط في الخروج من مواجهتها مع أنقرة مضرجة بالدماء بل أثبتت أنها عاجزة حتى الساعة عن تقديم البدائل والخيارات الداخلية والخارجية للتخلص من ورطتها هذه في القريب العاجل.

السياسي والكاتب الإسرائيلي يوسي ساريد يوجز لنا صورة الوضع القائم في هآرتس قائلا "تجاوزنا فرعون عبر التاريخ لكننا لا نعرف إذا ما كنا سننجح في تجاوز هذه الحكومة".

مسلسل "وادي الذئاب" الذي يعرض منذ سبع سنوات وعالج المؤامرات الإسرائيلية وتحركات الموساد في تركيا أكثر من مرة لن يكون الحجة المقنعة التي تقف وراء الغضبة الإسرائيلية وتصعيدها الأخير ضد تركيا وقرار استدعاء السفير التركي وتوبيخه وتذكيره أنه قد يتحول إلى شخصية غير مرغوب بها إذا ما تواصلت الحملات الدعائية ضد إسرائيل.

ومع ذلك فلا الحملات توقفت ولا زيارات المسؤولين الإسرائيليين المتلاحقة نجحت حتى الآن في إقناع أردوغان بقبول أحدهم وإجلاسه على مقعد حتى ولو من خشب على مقربة من "الباب العالي" . فما الذي أغضب حكومة نتنياهو واستفزها على هذا النحو؟

من المؤكد أولا أن سبب الغضبة الإسرائيلية هو مواقف العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة التي بدأت في الانفتاح على سوريا وتحسين العلاقات معها لتتوج بتعاون وتنسيق عسكري وفتح الحدود ومضاعفة مستوى التبادل التجاري وإصرار دمشق وتمسكها أن تكون أنقرة هي الوسيط الوحيد بينها وبين تل أبيب في مفاوضات السلام.

الغضبة الإسرائيلية سببها أيضا حراك تركيا الدائم نحو الفلسطينيين بكافة اتجاهاتهم وميولهم وإصرارها على الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية والحق المشروع ورفض السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة من تهويد وتهجير وتدمير وتبديل معالم.

وقفة غزة الأخيرة كانت نقطة الانفجار وأردوغان قال إنه لن يذهب إلى دافوس مرة أخرى لكنه سيقصد الرياض في الأسابيع المقبلة لتسلم جائزة الملك فيصل التي منحت لتركيا وللشعب التركي وللسياسات والمواقف التركية الأخيرة قبل أن تمنح إلى أردوغان نفسه فكيف لا يغضب ذلك إسرائيل ويستفزها؟

غضبة إسرائيل لها أيضا علاقة بالانفتاح التركي الأخير على لبنان الذي توسع وتنوع بعد الحرب الإسرائيلية على جنوبه قبل أربعة أعوام حين سارعت تركيا لإرسال جنودها تحت مظلة الأمم المتحدة ليشارك خمسمائة جندي تركي في ورشة الإعمار والإصلاح وما خربته ودمرته إسرائيل فكيف لا تغضب تل أبيب وأردوغان يحذرها أن أنقرة لن تقبل بعد الآن سياسات التهديد والاختراق واعتماد لغة السلاح والتدمير بحق الشعب اللبناني؟

"
واحد من أسباب الغضبة الإسرائيلية هو الحراك التركي الدائم نحو الفلسطينيين بكافة اتجاهاتهم وميولهم وإصرارها على الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية والحق المشروع ورفض السياسات الإسرائيلية
"

ثم كانت رسالة أردوغان الأخيرة إلى تل أبيب في الموضوع الإيراني عندما رد على ما يقال عن احتمالات مهاجمة الطائرات الإسرائيلية لإيران عبر اختراق الأجواء التركية فصرخ قائلا "سيكون الرد قاسيا وموجعا وعليهم أن يفكروا ألف مرة قبل الإقدام على خطوة من هذا النوع ".

ما أغضب نتنياهو وأعوانه هنا هو أن يتجاهل أردوغان أن تل أبيب تتباهى دائما بتصوير نفسها الحليف الإستراتيجي لأنقرة وبعشرات الاتفاقيات وعقود التعاون العلني والسري التي تستخدمها في لعبة الكر والفر وتلوح بها في إطار سياسات الترغيب والترهيب ضد الكثير من الدول العربية والإسلامية.

بإيجاز أكثر تأشيرات الدخول التي تلغيها تركيا يوما بعد الأخر في علاقاتها مع الدول العربية والتي تسهل لها توسيع رقعة الانتشار الإستراتيجي والجغرافي والتجاري وعقود التعاون العسكري وتبادل الخبرات والخدمات والاستعداد لإطلاق خطط التطبيقات والتمارين العسكرية المشتركة وشعارات أردوغان التي يرفعها ويرددها في الآونة الأخيرة "سنتصدى للظلم والقتل ونرفع شعار العدل والحق والقانون في كل مكان" هي ما تقلق إسرائيل وتغضبها وتدفعها للمغامرة والمقامرة على هذا النحو.

نحن نعرف أن باراك جاء إلى أنقرة ليحتضن السفير التركي شليك كول أمام عدسات الكاميرا ويمازحه لكنه نسي أن أيالون كان له بالمرصاد وأن زيارته هذه لن تكون حاسمة وقادرة على إعادة الأمور إلى مجراها السابق فهو الطرف الأضعف في الحكومة الائتلافية وهذا ما قاله له ليبرمان الذي كان ينتظره لتذكيره أنه بأسلوبه هذا يهدد سمعة إسرائيل وسياساتها ومصالحها.

تل أبيب فرطت بالفرص الكثيرة التي وضعتها أنقرة بين يديها في أكثر من مكان وهي اختارت طريق التصعيد

والتوتير والتحدي ليس في علاقاتها مع أنقرة وحدها بل مع الكثير من القوى التي اقترحت تركيا أن تكون وسيطا بينها وبين تل أبيب على طريق الحوار والسلم. وهي فجرتها أزمة أفرحت البعض لكن اعتذار الخارجية الإسرائيلية بسرعة البرق وبعد ساعات فقط من الإنذار التركي ومن إجلاس داني أيالون مساعد وزير الخارجية الإسرائيلي السفير التركي على المقعد الواطي فيما احتفظ هو وأعوانه لأنفسهم بالمقاعد العليا خيبت الآمال والرهان على تل أبيب لتوقف أنقرة عند حدها.

المواجهة الدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب لن تعني الطرفين وحدهما بعد الآن بل هي أزمة سيكون لها انعكاساتها ومخلفاتها على الكثير من دول المنطقة وشعوبها وأنظمتها والدليل هو هذا الكم الهائل من الأخبار والتعليقات التي تابعت القضية وتفاعلاتها ومضاعفاتها عن قرب، خصوصا الإعلام العربي الذي كتب مطولا رغم محاولات البعض التعتيم والإيجاز والتجاهل، مرجحا إخفاء ما يجري وراء الإصبع المجروح أو التمسك بمقولة ما الحاجة إلى كل هذا الضجيج فتركيا لن تستطيع تحمل خسارة الشريك الإسرائيلي أو الابتعاد عن الغرب على حساب تحسين علاقاتها مع الشرق والعالمين العربي والإسلامي وكأن العودة التركية تتعارض مع مصالحه وحساباته وتقلق راحته.

نحن نعرف أن نتنياهو وحكومته يحاولان اقتناص الفرصة المناسبة للانقضاض في حرب إعادة الاعتبار ولا نستبعد أن يكون لتل أبيب دورا في أكثر من أزمة سياسية داخلية تتفاعل في تركيا اليوم بهدف تحسين مواقعها وتحويلها عند الضرورة إلى مواجهة طاحنة مع القيادات التركية بهدف الانتقام لسمعتها التي تلاعب بها أردوغان تماما، كما حدث مع السلطان عبد الحميد الذي رفض الرضوخ للضغوطات ومحاولات الابتزاز التي تعرض لها قبل مئة عام للتعاون مع مشروع الدولة الفلسطينية وقتها؟

ونعرف أن تل أبيب لن تتردد في تقديم الخدمات ضمن خطة الإطاحة بحكومة العدالة والتنمية ودعم ائتلاف حكومي جديد يكون مستعدا للحوار والالتزام بالاتفاقيات والعقود التي تعهدت أنقرة بتنفيذها، لكننا نعرف أيضا أن الدرس الأخير الذي لقنته الدبلوماسية التركية لحكومة نتنياهو سيستفيد منه الكثير من المترددين والمتفرجين عن بعد.

"
الرد التركي على أساليب وابتكارات الدبلوماسية الإسرائيلية الجديدة في التعامل مع الشعوب والأنظمة مناسب لمصر أيضا التي نجحت إسرائيل في تحييدها من خلال اتفاقيات كامب ديفد
"

ولنقلها بصراحة هنا الرد التركي على أساليب وابتكارات الدبلوماسية الإسرائيلية الجديدة في التعامل مع الشعوب والأنظمة مناسب لمصر أيضا التي نجحت إسرائيل في تحييدها من خلال اتفاقيات كامب ديفد وتوابعها بعدما تركتها في موقف أفقدها الكثير من دورها ونفوذها وقدرتها على الحركة بحجة الالتزام باتفاقيات وعقود تتلاعب تل أبيب بموادها كما تشاء وكانت السباقة في التخلي عنها فيما تتمسك القاهرة بتعهدات والتزامات تحولت إلى جراح موجعة في خاصرة العالمين العربي والإسلامي.

الإعلامي التركي عبد الحميد بيليجي يروي لنا كيف أن بيضة نسر تختلط ببيض الدجاج ويخرج الفرخ منها ليتأمل بإعجاب النسور وهي تحلق من بعيد ويتحول إلى سخرية لفراخ الدجاج. كل ما كان يحتاج إليه هو أن يذكره أحدهم أنه هو أيضا فرخ نسر وأنه بإمكانه التحليق ساعة ما يشاء.

الكثير من دولنا وأنظمتنا تتأمل من بعيد السياسة الخارجية التركية وهي تحلق وتنسى أنها هي أيضا تملك المواصفات والخصائص ذاتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.