زلزال هايتي واحتمالاته العربية

قراءة في زلزال هايتي



اختلاف الخسائر من دولة لأخرى
الدول العربية ومواجهة آثار الزلازل
توصيات للتخفيف من مخاطر الزلازل

يستند الخبراء في توقعاتهم لاحتمال حصول زلازل في المستقبل على عدد من العوامل، أهمها: موقع المنطقة وجيولوجيتها، ومواقع الصدوع الموجودة وأشكالها، وتاريخ المنطقة الزلزالي، والمراكز السطحية لهذه الزلازل، بالإضافة إلى النشاطات الزلزالية التي تسجلها محطات وأجهزة رصد الزلازل.

فاحتمال حصول زلزال في المستقبل يستند لعلم احتمالي، ولا يمكن، من خلال هذه العوامل، تحديد ساعة أو لحظة حصول الزلزال، لذلك عندما يتحدث المتخصصون عن احتمال حصول زلازل قوية في المستقبل، فهذا يعني أنه قد يحصل الآن أو بعد ساعة أو بعد يوم، أو أسبوع، أو شهر، أو سنة، أو عشرات السنوات.

فالزلازل ظاهرة كونية طبيعية لا يعلم لحظة حدوثها بالضبط إلا عالم الغيب (الله سبحانه وتعالى)، ولا يمكن منعها، ولكن يمكن التخفيف من مخاطرها من خلال اتخاذ الإجراءات المناسبة على كافة الأصعدة والمستويات.


زلزال هايتي والدول العربية
تعرضت هايتي لزلزال مدمر بلغت قوته حسب مقياس ريختر 7.1 (سبعة وعُشر درجة)، وكان مركز الزلزال السطحي على بعد 20 كيلومتر جنوب غرب عاصمة هايتي، علمًا بأن هايتي قد تعرضت لزلازل في عامي 1750 و1771 وأدت هذه الزلازل إلى تدمير العاصمة، وفي عام 1984 تعرضت لزلزال بلغت درجته 6.7 حسب مقياس ريختر، وخلال شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول من عام 2008 تعرضت لعدد كبير من الزلازل الخفيفة (4 درجات تقريبا).

"
المشكلة الحقيقية، لا تكمن في الزلزال نفسه، فالزلزال لا يقتل، وما يفعل ذلك هو المباني أو الحرائق والانزلاقات التي تثيرها الزلازل، بالإضافة إلى عدم جاهزية المباني ومنشاَت البنى التحتية لمقاومة الزلازل
"

وبالنسبة لقوة الزلازل المتوقع حدوثها في الدول العربية، أظهرت الدراسات التي أجرتها المؤسسات العلمية ذات العلاقة، أن أقصى درجة للزلازل المحتمل حدوثها في المنطقة العربية، من المتوقع أن تتراوح من ست إلى سبع درجات حسب مقياس ريختر (معتدلة إلى قوية)، ويمكن للمباني والبنى التحتية إذا صممت ونفذت وفقًا لمتطلبات الحد الأدنى للمباني المقاومة للزلازل أن تقاوم هذه الدرجة، وهذا يمكن تحقيقه بسهولة.

أما الزمن الدوري لتكرار حصول الزلازل فيختلف من منطقة إلى أخرى، وحتى في المنطقة الواحدة يوجد عدة بؤر (مراكز) زلزالية ولكل بؤرة زمن دوري لحصول الزلازل فيها، وعمومًا يتراوح زمن تكرار الزلازل في هذه البؤر من عشرات السنوات إلى مئات السنوات، فمثلاً الزلازل القوية نسبيًّا والتي يكون مركزها في منطقة البحر الميت يتكرر حصولها كل 80 أو 100 سنة، وآخر مرة حصل زلزال في هذه المنطقة وكان تأثيره مدمّرًا كان في عام 1927.

في حين يتكرر حصول الزلازل لإحدى البؤر الزلزالية القريبة من الحدود الفلسطينية والأردنية والسورية واللبنانية كل 200 أو 250 عاما، وقد تصل القوة القصوى للزلازل التي قد تحدث في هذه البؤرة إلى 7 درجات حسب مقياس ريختر، علمًا بأن آخر مرة وقع فيها زلزال قوي بهذه المنطقة كانت عام 1759، وكان تأثيره مدمّرًا، حيث أدى إلى مقتل 40 ألف شخص.

ولأخذ فكرة حول الزلازل التاريخية المدمّرة التي تعرضت لها الدول العربية، نستعرض تواريخ الزلازل التالية:

-1068-1202 -1212-1339-1402-1546-1656-1666171617311757-1759 – 1790-1834-1837 –18471853-1854-1859 -1865-1869 -1872-1873-1896-1900-1903 – 19091917-1923-1927-19411946-1954 –1955196519691981198219911992-1995 –2003-2004.

فبعض الزلازل المشار إليها أعلاه كان مركزها في دول المغرب العربي، وجزء منها كانت مراكزها في منطقة حفرة الانهدام، وهي المنطقة الممتدة من البحر الأحمر مرورًا بالبحر الميت ووصولاً إلى أنطاكية، وبشكل عام تعرضت معظم الدول العربية لزلازل كان بعضها مدمّرًا.

والمشكلة الحقيقية، لا تكمن في الزلزال نفسه، "فالزلزال لا يقتل، وما يفعل ذلك هو المباني أو الحرائق والانزلاقات التي تثيرها الزلازل"، بل تكمن في عدم جاهزية المباني ومنشاَت البنى التحتية لمقاومة الزلازل، وكذلك عدم وجود إدارة فعالة لإدارة الكوارث وإسناد الطوارئ، بالإضافة إلى عدم معرفة الإنسان العربي بشكل عام لمفاهيم وإجراءات التهيئة والاستعداد للكوارث.


اختلاف الخسائر من دولة لأخرى
بشكل عام تعتمد شدة تأثير الزلازل على عدد من العوامل، أهمها:
– مقدار (قوة) الزلزال، بمعنى مقدار درجته حسب مقياس ريختر، فكلما زاد درجة قوة الزلزال يزداد تأثيره على المنشاَت والبنى التحتية، علمًا بأن زيادة درجة واحدة حسب مقياس ريختر تؤدي إلى زيادة السعة بعشرة أضعاف، أي أن الحركة الاهتزازية لزلزال قوته 7 درجات تكون أكبر بعشرة أضعاف من الحركات الاهتزازية التي يحدثها زلزال قوته 6 درجات وذلك إذا تم تسجيل هذه الحركات في نفس المكان، أي أن العلاقة في تدرج الدرجات هي علاقة لوغاريتمية.

"
زيادة درجة واحدة في المقياس تعني زيادة 30 أو 32 ضعفا في الطاقة، وهذا يعني أن الطاقة التي تنبثق من زلزال قوته 7 درجات أكبر بـ 30 ضعفا تقريبا من الطاقة التي تنبثق من زلزال قوته 6 درجات
"

وفي نفس الوقت زيادة درجة واحدة في المقياس تعني زيادة 30 أو 32 ضعفا في الطاقة، وهذا يعني أن الطاقة التي تنبثق من زلزال قوته 7 درجات أكبر بـ30 ضعفا تقريبا من الطاقة التي تنبثق من زلزال قوته 6 درجات.

– العمق البؤري، لنفس درجة قوة الزلزال، تكون مراكز الزلازل الأقل عمقًا أكثر تأثيرًا، فأحد أسباب زيادة الخسائر في زلزال هايتي هو وجود المركز الجوفي قرب سطح الأرض، فقد كان على عمق 10 كيلومترات أسفل سطح الأرض. أما فيما يتعلق بعمق المراكز الجوفية للزلازل المتوقع حصولها في الدول العربية (لا سمح الله)، فيتوقع أن تتراوح بين 10 و25 كيلومترا، بمعنى أنها ستكون مراكزها سطحية قليلة العمق.

بُعد المركز السطحي للزلزال عن المناطق السكانية المأهولة بالسكان، ففي زلزال هايتي يبتعد المركز السطحي للزلزال بمقدار 20 كيلومترا عن العاصمة، في حين كانت بعض المدن والتجمعات السكانية على بعد كيلومترات قليلة من المركز السطحي للزلزال. ومن خلال الاطلاع على الخرائط الزلزالية للمنطقة العربية يتضح أن العديد من المدن والتجمعات السكانية تقع بالقرب من مراكز الزلازل.

طبيعة المنطقة الجيولوجية ونظام الصدوع الأرضية الموجود في المنطقة المتأثرة.

– طبيعة الموقع ونوعية التربة، فالمباني المقامة على التربة الطينية والتربة الرملية تتأثر بالزلازل أكثر من تلك المقامة على التربة الصخرية القوية، بشرط أن لا تكون التربة الصخرية قابلة لحصول الانزلاقات (تنويه: المناطق الجبلية المنحدرة أو العالية الانحدار والتي تتكون تربتها من الصخر الحوري أو الكلسي، يحتمل أن تتعرض للانزلاقات الأرضية في حالة تعرضها للهزات الأرضية).

نوعية وجودة البناء في المناطق المتأثرة، ومدى التزام المهندس المصمم والمنفذ بمتطلبات المباني المقاومة للزلازل. وقد لوحظ من خلال أشكال انهيارات المباني في هايتي التي ظهرت من التقارير الأولية أن هذه المباني لا تتوفر فيها متطلبات المباني المقاومة للزلازل، ومما يؤكد ذلك حصول انهيارات كبيرة جدًّا في المباني العامة والمنشاَت الحيوية، كالمستشفيات والمدارس ومباني الحكومة ومباني الاتصالات وشبكات الكهرباء والماء والمواصلات. أما بخصوص أنماط المباني العادية والعامة الدارجة في الدول العربية، فقد أظهرت الدراسات أن قابلية إصابتها الزلزالية مرتفعة.

الدول العربية ومواجهة آثار الزلازل
أظهرت الدراسات أن العديد من المباني ومنشاَت البنى التحتية في معظم الدول العربية، غير مؤهلة لمقاومة الزلازل، أي أن هناك احتمالا لحدوث أضرار وانهيارات كلية وجزئية في حالة (لاسمح الله) تعرضها لزلازل تتراوح قوتها بين 6 و7 درجات حسب مقياس ريختر، والكثير من هذه المباني سيتعرض لحصول أضرار وانهيارات في العناصر المحمولة، كجدران الطوب والديكور والرخام، بالإضافة إلى حصول تساقط واضح لقطع حجر الجدران الخارجية وما يترتب عن ذلك من إعاقة وخسائر في الأرواح.

يُشار إلى أن معظم أنماط المباني الدارجة في الدول العربية، قد تم تصميمها وتنفيذها وفقاً لمفاهيم الهندسة الدارجة، فلا يزال العديد من المهندسين ولغاية الآن يصممون وينفذون المباني لتقاوم الأحمال الرأسية فقط، بمعنى أن تحمل نفسها وما عليها من أحمال، دون الأخذ بعين الاعتبار للقوى التي قد تحدثها الزلازل، علمًا بأن جميع "كودات" البناء والمواصفات الموجودة في العالم في الوقت الحالي تأخذ بعين الاعتبار التصميم الزلزالي للمنشآت.

"
لا يزال العديد من المهندسين ولغاية الآن يصممون وينفذون المباني لتقاوم الأحمال الرأسية فقط، بمعنى أن تحمل نفسها وما عليها من أحمال، دون الأخذ بعين الاعتبار للقوى التي قد تحدثها الزلازل
"

ومن جهة أخرى، يعتقد لغاية الآن الكثير من المواطنين أن التصميم والتنفيذ الزلزالي للمباني شيء صعب وتكلفته المالية عالية جدا، وهذا غير صحيح، فالتصميم الزلزالي له عدة مستويات من الأمان والدقة، فبالنسبة للمباني العادية قد تزداد تكلفة المبنى بسبب التصميم والتنفيذ الزلزالي بنسبة ثلاثة إلى خمسة في المائة فقط كحد أقصى، وللعلم إذا كان المبنى بسيطا ومنتظما، أي إذا كان متماثلا في الشكل والكتل، وفي توزيع الأعمدة والجدران أفقيا ورأسيا، فإن ذلك يساهم بشكل كبير في مقاومته للزلازل وإن لم يصمم لذلك.

ولكن من هو المسؤول عن كل ذلك، وما ذنب المواطن العادي، فربما يمكن استيعاب أنه ليس لدينا الإمكانات والوقت الكافي لمعالجة وتأهيل الكثير من المباني القائمة لمقاومة الزلازل، ولكن لماذا ولغاية الآن ورغم حصول الزلازل والخسائر في دول كثيرة كالجزائر، وتركيا، وإيران، وباكستان، والهند وغيرها، لا نأخذ العبر من أخطاء الآخرين، ونعمل على تجنب هذه الأنماط والأخطاء في المباني الجديدة، علمًا بأن أسباب الانهيارات في المباني توثق بعد كل زلزال وتنشر في تقارير المؤسسات ذات العلاقة، ومع ذلك لا يزال العديد من المهندسين في العالم العربي بعيدين عن الاستفادة من هذه التقارير.

ولا تزال توصيات المؤسسات العلمية ذات العلاقة بالحد من مخاطر الكوارث في عالمنا العربي بدون آليات للتنفيذ، وتبقى حبرًا على ورق، وذلك لعدم وجود عمل مؤسسي فعّال ينقلنا من العمل بردة الفعل الفردي أو الفئوي، إلى العمل بمنهجية الفعل الجماعي المؤسسي الذي يستند إلى التخطيط الإستراتيجي الشامل والتنمية المستدامة.


توصيات للتخفيف من مخاطر الزلازل
للتخفيف من مخاطر الزلازل، ولمعالجة الوضع الحالي، لابد من الالتزام بتنفيذ عدد من الإجراءات، وأهمها:

– اعتماد الحد من مخاطر الكوارث كأولوية وطنية، ووضع التشريعات والقوانين لبناء قدرات المجتمع والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية على مواجهة الكوارث، وذلك وفقًا لآليات تنفيذية واضحة مبنية على قاعدة مؤسساتية صلبة، والالتزام بمعايير إطار عمل "هيوغو" والإستراتيجية الدولية للحد من المخاطر (UNISDR).

– الاهتمام بالسلامة العامة وبرامج تهيئة المواطنين، وذلك من خلال اهتمام وسائـل الإعـلام المختلفة المكتوبة والمسموعة والمرئية بالبرامج التي تعنى بالتربية الزلزالية وإجـراءات الوقاية والتهيئة.

– الحد من مخاطر الزلازل، وذلك من خلال الالتزام بالتصميم والتنفيذ الزلزالي للمباني الجديدة، والعمل على إيجاد الآليات والتشريعات التي تلزم الهيئات المحلية وأية جهة ذات علاقة على تطبيق الإشراف الهندسي الإلزامي على عمليات تنفيذ المباني والمنشآت، ووضع خطة وطنية لتأهيل المباني القائمة لمقاومة الزلازل وإعطاء الأولوية كمرحلة أولى للمباني العامة والمباني الحكومية، وذلك وفقًا لخطط شاملة تأخذ بعين الاعتبار المدى الزمني القصير والمتوسط والبعيد.

"
لمقاومة الزلازل لابد من الالتزام بالتصميم والتنفيذ الزلزالي للمباني الجديدة، والعمل على إيجاد الآليات والتشريعات التي تلزم الهيئات المحلية على تطبيق الإشراف الهندسي على المباني والمنشآت
"

– الاهتمام بسياسة استخدام الأراضي لتجنب الأماكن القابلة للانزلاقات الأرضية ومناطق التضخيم الزلزالي وغيرها من العوامل.

– ضرورة وجود إدارة للكوارث وهيكلية واضحة لإسناد الطوارئ تشارك فيها جميع المؤسسات ذات العلاقة الحكومية وغير الحكومية، وتشكيل لجان لإسناد الطوارئ (إسعاف، وإنقاذ، وإخلاء، ومواصلات، وتموين، ومعلومات عن المفقودين، وغيرها). وتطوير قدرات الدفاع المدني والمؤسسات الأخرى التي تعمل في الاستجابة للكوارث.

– وضع هيكلية وإنشاء غرفة عمليات مشتركة تشمل جميع المؤسسات الحكومية وغير الحكومية ذات العلاقة في الدول الواحدة، ووضع آلية للتنسيق بين الدول العربية في مجال إدارة الكوارث.

– تشجيع تأسيس مراكز وجمعيات غير حكومية في مجال إسناد الطوارئ، والشروع في تكوين هيئات أو منتديات وطنية للحد من مخاطر الكوارث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.