إخفاقات إعلام المقاومة العراقية

إخفاقات إعلام المقاومة العراقية



خمسة إخفاقات رئيسية يمكن تسجيلها على إعلام المقاومة العراقية، الذي مضى على انطلاقة شرارتها العسكرية الأولى أكثر من ست سنوات.

فمنذ الأيام الأولى لاحتلال بغداد، تؤكد أدبيات المقاومة، أن أول جندي مارينز تم قتله بسلاح المقاومة كان بعد ثلاثة أيام من دخول بغداد، أي في يوم (12/4/2003) وتشير أدبيات جيش الراشدين، إلى أن مقاتليه شنوا أول هجوم على قوات الاحتلال، بعد ثمانية أيام من احتلال بغداد، وتم تدمير همر وقتل من فيها في منطقة نفق الشرطة بجانب الكرخ من بغداد، وذلك يوم الجمعة الموافق (18/4/2003).

ثم توالت العمليات الهجومية، حتى اعترف القائد الأميركي أنتوني زيني في يوليو/تموز 2003، بوصول عدد الهجمات، التي تشن ضد القوات الأميركية إلى (25) هجوماً في اليوم الواحد، وهو أول اعتراف أميركي بوجود المقاومة، تبعه تصريح نائب وزير الدفاع الأميركي بول وولفويتز في (23/7/2003) وقال فيه، لم نكن نتوقع أن تتعرض قواتنا في العراق إلى هجمات كما هو حاصل الآن.

ولم يتمكن إعلام المقاومة في العراق من الارتقاء إلى مستوى الفعل العسكري الجبار، الذي حققه المقاتلون في ميدان الحرب ضد المحتل، وبقي الإعلام المقاوم يدور في حلقة ضيقة جداً، ويمكن رصد خمسة إخفاقات رئيسية اعترت هذا الإعلام، والتي تسجل على إعلام المقاومة العراقية.

"
وقع إعلام المقاومة في فخ الخطاب الموجه إلى محبيه فقط تاركا فئتين مهمتين في المجتمع, الأولى التي لديها موقف غير محب ولا يستسيغ المقاومة، والثانية التي تقف في الوسط، وتريد من يوضح لها الحقائق، ويقول لها إن المقاومة لكل العراقيين ومن أجل العراق
"

أولاً: وقع إعلام المقاومة في العراق في فخ الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، معتمداً على هذه الشبكة بنسبة تزيد عن 90%، واكتفت الفصائل المسلحة ببث بياناتها على المواقع الإلكترونية التابعة لها، وأصبح عددها بالعشرات، وفي واقع الحال، أن زوار هذه المواقع في الأغلب هم من محبي المقاومة، وهنا أصبح الخطاب المقاوم موجها إلى محبيها، تاركاً فئتين مهمتين في المجتمع، وهما الفئة الأولى التي لها موقف غير محب ولا يستسيغ المقاومة، بسبب الحرب الإعلامية الشرسة، التي تقودها أميركا وأدواتها، لتشويه صورة المقاومة وسمعة المقاومة، وعدم الوصول إلى هذه الشريحة، يعد خسارة كبيرة للمقاومة، وفشلاً إعلاميا كبيراً، لأن الأهم أن تكسب من هم ضدك, وهو أهم من زيادة مساحة الفرح والسرور عند محبيك، والفئة الثانية، التي تقف في الوسط، وتريد من يوضح لها الحقائق، ويقول لها إن المقاومة لكل العراقيين ومن أجل العراق، وهذا لم يحصل للأسف الشديد، والسبب يعود إلى الاعتماد الواسع على الإنترنت، وعدم التفكير الجدي بالخروج إلى فضاءات أوسع.

ثانيا: لم تتمكن المقاومة من الوصول ببياناتها إلى الجمهور بصورة سلسلة وبسيطة وواضحة، وخلطت منذ البداية بين البيانات، التي تؤرخ للفعل المقاوم (الفصائل الإسلامية تحديداً) التي تزخر بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، وهو أمر لا اعتراض عليه، إلا أن إعلام المقاومة، لم يرفق مع هذه البيانات تصريحات صحفية بلغة الصحافة وأسلوبها، الذي يبدأ من نقطة الحدث، التي تجر القارئ إلى متابعة القصة، وهذا هو الأسلوب الصحفي المطلوب في إعداد "القصة الإخبارية".

أما البيانات التي تصدرها الفصائل، فمن الصعوبة أن تجد بين سطورها بعض التفاصيل، التي تشرح الحجم الحقيقي للعملية، التي يتحدث عنها البيان، والأجدر بالفصائل أن تصدر البيانات التقليدية للتوثيق ويصدر تصريح صحفي يجمل ما يريد قوله البيان بلغة الصحافة اليومية.

ثالثا: اتجهت الفصائل المسلحة إلى اعتماد التصوير بالفيديو للعمليات، التي ينفذها مقاتلوها ضد القوات المحتلة، وهذا أمر هام للتوثيق أولاً، وللإعلام ثانياً، إلا أن إعلام المقاومة العراقية، ارتكبت الأخطاء في إيصال هذه العمليات إلى الرأي العام، وجرى وضع العمليات على مواقع الفصائل في الإنترنت، دون تمحيص النتائج، فمن المعروف أن ضعف شبكة الإنترنت في الكثير من الدول العربية، يحول دون نجاح تحميل الفيديو، كما أن التحميل البطيء، يدفع بالكثيرين إلى إيقافه والانتقال إلى بحور المعرفة والأخبار الهائلة في الشبكة العنكبوتية، أما القائمون على إعلام المقاومة، فكأنهم يتصورون أن الجميع سيشاهد تلك الأفلام.

وبالمناسبة فإن الاستبيانات الخاصة بزوار الإنترنت تؤكد أن قلة نادرة تمضي وقتا طويلاً لتحميل تلك الأفلام الخاصة بالعمليات الهجومية ضد الاحتلال الأمريكي، وينطبق ذلك على الأفلام الأخرى، وهنا ارتكب إعلام المقاومة العراقية خطأ كبيراً، إذ لم تقدم بياناته شرحا تفصيلياً مكتوبا للعمليات المصورة، التي يفترض بالقائمين على هذا الإعلام الخطير، إدراك الحقيقة، واستخدام جميع السبل للوصول إلى الجمهور، وأن يجد الزائر تفاصيل قضية العملية المصورة مكتوبة بلغة شيقة ومختصرة، يتابعها بالقراءة وكأنه يشاهد اللقطات المصورة، إلا أن ما يحصل، هو كتابة توضيح من سطرين، ووضع عدة روابط لتحميل فيديو الهجوم، وهنا تبدأ محنة المشاهدة مع مشاكل الإنترنت، ما يتسبب بحرمان الكثيرين من معرفة تفاصيل الهجوم الذي نفذه المقاتلون وهذا واحد من الإخفاقات الكبيرة في إعلام المقاومة العراقية.

"
لم تتمكن فصائل المقاومة العراقية من الوصول إلى صيغة إعلامية متقاربة، تعبر عن جوهر رؤيتها للواقع العراقي في ظل الاحتلال وفي ظل العملية السياسية، ولم تخرج عن إطار واحد يتحدث عن رفض العملية السياسية والتمسك بمقارعة المحتل
"

رابعا: لم تتمكن فصائل المقاومة العراقية من الوصول إلى صيغة إعلامية متقاربة، تعبر عن جوهر رؤيتها للواقع العراقي في ظل الاحتلال وفي ظل العملية السياسية، ولم تخرج عن إطار واحد يتحدث عن رفض العملية السياسية والتمسك بمقارعة المحتل، ولم تقدم ما يدعم فعل مقاتليها في وسائل الإعلام، وما يرد على مزاعم الاحتلال، وكنت قد اقترحت في مقال لي قبل ما يقرب من عامين على الفصائل المقاومة، أن تتعاون فيما بينها وتقدم إحصائية أسبوعية أو شهرية، عن عدد الجنود الأميركيين، الذين تمكنت الفصائل من قتلهم أو جرحهم، بالإضافة إلى عدد الآليات، وتوزيع ذلك على وسائل الإعلام، ومطالبتها بذكر هذا الرقم إلى جنب بيانات الجيش الأميركي، ليصبح الخبر الذي تذيعه وسائل الإعلام المحايدة على الأقل بالطريقة التالية (ووصل عدد الجنود الأميركيين الذين سقطوا في العراق إلى عدد 4221 منذ عام 2003، حسب وزارة الدفاع الأميركية، في حين تقول إحصائية مشتركة صادرة عن الفصائل المسلحة، تم بثها على الإنترنت، أن عدد القتلى وصل إلى الرقم كذا)، ولكن لم تأخذ فصائل المقاومة العراقية بهذا الاقتراح، الذي وجهته إليهم في مقال منشور، وأعتقد أن إعلام المقاومة العراقية بإهماله هذه القضية، قد أضاع فرصة ذهبية لإثبات الحضور في أذهان الجمهور، من خلال تقديم إحصائيات مستمرة ترد ضمنا على المزاعم الأميركية، التي اعتمدت أسلوب الكذب في البيانات، وعدم الإفصاح عن خسائرها الحقيقية، بهدف تحجيم صورة الفعل المقاوم، والإبقاء على تغطية إعلامية تغذي الجمهور بما يتكفل بوضع المقاومة في زاوية ضعيفة.

كما أن إعلام المقاومة، لم يتمكن من إصدار بيانات مشتركة، تمثل وجهة نظر الغالبية العظمى من الفصائل، رغم تطابق وجهات نظر هذه الفصائل في رؤيتها للأحداث والوقائع، خاصة ما يتعلق بالموقف من الاحتلال والعملية السياسية، وهذا الأمر يحسب على إعلام المقاومة العراقية، وبدون أدنى شك يمثل إخفاقاً آخر.

خامسا: لم تتمكن وسائل إعلام المقاومة العراقية من تطوير عملها، وسجنت أدواتها في بحور شبكة الإنترنت، وبقي الميدان في داخل العراق خال من أي وجود للإعلام المقاوم، وهذا أمر في غاية الخطورة، ولم يتم وضع الخطط اللازمة لتوزيع المنشورات بين العراقيين، التي يجدها الناس في الأزقة والطرقات، وتلصق على الجدران والأبواب وفي الأماكن العامة، كما أنها لم تبادر إلى أسلوب توزيع المنشورات من خلال القذائف، التي يتم إطلاقها بعد تكديس عشرات الآلاف من المنشورات بداخلها، وإهمال جانب الإعلام بالمنشورات والقصاصات الورقية الصغيرة، يعد أحد الإخفاقات الهائلة في إعلام المقاومة العراقية.

"
لا يمكن إنكار تأثير حرب المنشورات في الدعاية الحربية على الشرائح المستهدفة، إلا أن المقاومة العراقية، نادراً ما استفادت من هذا الأسلوب، وإن حصل فقد اقتصر على مناطق قليلة ولمرات محدودة
"

فالتأثير النفسي للمنشورات يبقى الأكثر تأثيرا، في الأوساط الداعمة للمقاومة والمتحمسين لها، كما أنه يزرع الهلع والخوف في نفوس قوات الاحتلال والأجهزة الأمنية والأحزاب السياسية العاملة مع الاحتلال، ويمكن تشبيه كل (منشور) يرمى في الطرقات أو يلصق على الحيطان، والمنشورات التي تهبط من السماء بعد انفلاق المقذوف الذي يحملها، يمكن تشبيهه بالخطيب المفوه الذي قال عنه الإسكندر المقدوني كلمته الشهيرة (أعطني خطيباً مفوهاً وخذ ألف مقاتل شجاع).

إن حرب الإعلام من خلال المنشورات، عاشها العراقيون أكثر من غيرهم، ويعرفون حجم تأثيرها في الدعاية المضادة، فقد استخدمتها الإدارة الأميركية على نطاق واسع خلال حرب الخليج الثانية عام 1991، ووزعت من خلال الجو ملايين المنشورات، التي تعمل على إحباط المعنويات وتحرض ضد السلطة القائمة، كما استخدمت الإدارة الأميركية المنشورات خلال غزو العراق ربيع عام 2003، وواصلت استخدامها خلال حرب الفلوجة عام 2004 وعلى مدينة النجف وسامراء وبغداد ومناطق كثيرة أخرى، ولا يمكن إنكار تأثير حرب المنشورات في الدعاية الحربية على الشرائح المستهدفة، إلا أن المقاومة العراقية، نادراً ما استفادت من هذا الأسلوب، وإن حصل فقد اقتصر على مناطق قليلة ولمرات محدودة.

من الحقائق، التي لا يمكن إغفالها، أن الجهد المقاوم في العراق، قد وضع ثقله على الجهد العسكري، ولأن انطلاق المقاومة في العراق، يختلف عن جميع المقاومات في العالم، إذ بدأت مسلحة أولاً وغيرها بدأ سياسياً، ثم انتقل إلى الحشد والتدريب، ومن الواضح أن الانتصارات السريعة، التي حققتها فصائل المقاومة في الميدان ضد قوات الاحتلال الأميركية، قد أغرت القائمين على قيادة الفصائل والجيوش، بالتركيز على الفعل المسلح في الميدان، على حساب التفعيل الحقيقي للجانب الإعلامي وعدم إيلائه ما يستحق من اهتمام.

وتسارع المنجز العسكري الكبير، وأدرك المقاومون في وقت مبكر أن ضرباتهم ستجبر القوات الأميركية على الاعتراف بهزيمتها، وإرغامها على تغيير إستراتجيتها في العراق والمنطقة والعالم، وهذا ما حصل بالفعل.

إلا أن القوات الأميركية، التي تفاجأت بهذا الزخم القتالي الكبير للمقاومة في العراق، لم تترك هذا الانتصار العراقي يمر دون إعاقات وتشويهات، إذ وضعت مختلف الخطط والبرامج لتشويه صورة المقاومة في العراق، ومنذ أبريل/نيسان عام 2004، استدعت الخبير في صناعة الإرهاب والقتل الوحشي جون نغروبونتي الذي وصل بغداد في (15/4/2004) مع فريق متخصص في القتل والتعذيب الوحشي، لتبدأ عملية حرب واسعة ضد المقاومة في العراق، واعتمدت هذه المرة أسلوب (التشويه)، الذي يعتمد على وسائل الإعلام وما تبثه وتتناقله، وحققت حملة (نغروبونتي) وأدواته الأخرى نجاحات، لا بد من الاعتراف بها، في حين وقف إعلام المقاومة العراقية عاجزاً أمام تلك الحملة الشرسة، التي اتبعت نفس أسلوب برنامج (فينيكس) الذي اعتمدته القوات الأميركية في فيتنام بعد الهجمات الشرسة للفيت كونج عام 1968، حيث وصل مقاتلوها إلى مشارف العاصمة الفيتنامية سايغون.

"
بقاء إعلام المقاومة العراقية حبيس القوالب وعدم خروجه إلى فضاء أوسع، يسجل العديد من المآخذ على عمل المقاومة، لأنه لا يرتقي إلى الفعل المسلح للمقاومة، الذي جوبه بعمليات تشويه واسعة، ولم يحصل فضح هؤلاء وكشف الحقائق أمام الرأي العام
"

ورغم وضوح أهداف الهجمة الأميركية ضد المقاومة وعملها على لصق الكثير من الجرائم، التي ارتكبتها الفرق، التي أعدها نغروبونتي وأجهزة استخباراتية أخرى بالفصائل المقاومة، وعجز هذه الفصائل عن توضيح الحقيقة أمام الرأي العام العراقي والدولي، إلا أن خطة إعلامية ناضجة ومدروسة، لم تظهر بعد محنة التشويه الكبرى، التي ازدادت وتيرتها عامي 2005و2006، وما زالت متواصلة، رغم إدراك الغالبية العظمى في الرأي العام، أن استهداف المدنيين، يتم من قبل أجهزة خفية تخدم القوات الأميركية، وأجهزة الأحزاب الفاعلة في الحكومة والعملية السياسية.

إن بقاء إعلام المقاومة العراقية حبيس هذه القوالب، وعدم خروجه إلى فضاء أوسع، يسجل العديد من المآخذ على عمل المقاومة في العراق، لأنه لا يرتقي إلى الفعل المسلح للمقاومة، الذي جوبه بعمليات تشويه واسعة، ولم يحصل فضح هؤلاء وكشف الحقائق أمام الرأي العام.

والحديث عن حصار إعلامي كبير، لا يبرر وجود مثل هذه الإخفاقات الكبيرة والخطيرة، في جوهر الإعلام المقاوم في العراق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.