نهر النيل والخلافات المائية حوله

العنوان: نهر النيل والخلافات المائية من حوله , الكاتب: محمد السلاق



"مصر هبة النيل".. قالها هيرودوت قبل ألفي عام، والنيل يعادل مصر، ولولا النيل لما كانت هناك حضارات عظيمه عبر آلاف السنين، ولما كان في أفريقيا قطر عربي اسمه مصر.

وأي خلل في مياه هذا النهر الخالد سيحدث خللا كبيرا في مصر لا يعلم به إلا الله، لأن مصر لا تملك موردا مائيا يذكر إلا ما يجود به هذا النهر العظيم، فهو عصب الحياة ولا يجوز أن يتضرر أو ينقطع جريانه مهما كانت الأسباب أو المسببات.

ويعتبر هذا النهر من أطول الأنهار في العالم حيث يبلغ طوله 6650 كلم، وهو يجري من الجنوب إلى الشمال نحو مصبه في البحر الأبيض المتوسط، وذلك في الجزء الشمالي الشرقي من قارة أفريقيا.

"
محاصة المياه بين دول حوض النيل من شأنها إثارة الخلافات بين هذه الدول، إذ يجد المتتبع لاتفاقيات المياه التي حصلت منذ القدم أنها كانت تدور حول استغلال مياه نهر النيل بما يعود بالنفع على كل دول الحوض، دون المساس بحقوق مصر التاريخية في هذه المياه
"

ينبع النيل من بحيرة فيكتوريا التي تبلغ مساحتها 68 ألف كلم2، أي ما يقارب سبعة أضعاف مساحة لبنان، وهي ثاني أكبر بحيرة للمياه العذبة في العالم والأكبر في أفريقيا، كما تعتبر أكبر بحيرة استوائية على وجه البسيطة، وتحيط بها كل من كينيا التي تشغل 6% من شواطئها وأوغندا التي تشغل منها 45% وتنزانيا التي تشغل 49% الباقية منها.

يعتبر نهر كاجيرا (Kagera) من الجداول الرئيسية لنهر النيل ومن أكبر الروافد التي تصب في بحيرة فيكتوريا، وينبع من بوروندي قرب الرأس الشمالي لبحيرة تنجانيقا الواقعة إلى الجنوب من بحيرة فيكتوريا في وسط أفريقيا، ويجري في اتجاه الشمال صانعا الحدود بين تنزانيا ورواندا، وبعدما يتجه إلى الشرق يصبح الحد الفاصل بين تنزانيا وأوغندا ومنها إلى بحيرة فيكتوريا بعدما يكون قد قطع مسافة 690 كلم.

أما نهر روفيرونزا (Rovironza) الذي يعتبر الرافد العلوي لنهر كاجيرا وينبع أيضا من بوروندي، فيلتحم معه في تنزانيا ويعتبر الحد الأقصى في الجنوب لنهر النيل.

ويبلغ معدل كمية تدفق المياه داخل بحيرة فيكتوريا أكثر من 20 مليار متر مكعب في السنة، منها 7.5 مليارات من نهر كاجيرا و8.4 مليارات من منحدرات الغابات الواقعة شمال شرق كينيا و3.2 مليارات من شمال شرق تنزانيا، و1.2 مليار من المستنقعات الواقعة شمال غرب أوغندا كما ورد في تقارير منظمة الفاو لعام 1982.

يعرف النيل بعد مغادرته بحيرة فيكتوريا باسم "نيل فيكتوريا"، ويستمر في مساره لمسافة 500 كلم مرورا ببحيرة إبراهيم (Kyoga) حتى يصل إلى بحيرة ألبرت التي تتغذى كذلك من نهر سمليكي (Semliki) القادم أصلا من جبال جمهورية الكونغو الديمقراطية مرورا ببحيرة إدوارد، وبعدها يدعى "نيل ألبرت".

وعندما يصل جنوب السودان يدعى "بحر الجبل"، وبعد ذلك يجري في منطقة بحيرات وقنوات ومستنقعات يبلغ طولها من الجنوب إلى الشمال 400 كلم ومساحتها الحالية 16.2 ألف كلم2، إلا أن نصف كمية المياه التي تدخلها تختفي من جراء النتح والتبخر.

وقد بدأ تجفيف هذه المستنقعات عام 1978 بإنشاء قناة طولها 360 كلم لتحييد المياه من عبورها، وبعدما تم إنشاء 240 كلم منها توقفت الأعمال عام 1983 بسبب الحرب الأهلية في جنوب السودان.

وبعد اتصاله ببحر الغزال يجري النيل لمسافة 720 كلم حتى يصل الخرطوم، وفي هذه الأثناء يدعى "النيل الأبيض"، حيث يلتحم هناك مع "النيل الأزرق" الذي ينبع مع روافده الرئيسية (الدندر والرهد) من جبال إثيوبيا حول بحيرة تانا الواقعة شرق القارة على بعد 1400 كلم عن الخرطوم.

ومن الجدير بالذكر أن النيل الأزرق يشكل 80-85% من مياه النيل الإجمالية، ولا يحصل هذا إلا أثناء مواسم الصيف بسبب الأمطار الموسمية على مرتفعات إثيوبيا، بينما لا يشكل في باقي أيام العام إلا نسبة قليلة، حيث تكون المياه قليلة.

أما آخر ما تبقى من روافد نهر النيل بعد اتحاد النيلين الأبيض والأزرق ليشكلا نهر النيل، فهو نهر عطبرة الذي يبلغ طوله 800 كلم وينبع أيضا من الهضبة الإثيوبية شمالي بحيرة تانا.

ويلتقي عطبرة مع النيل على بعد 300 كلم شمال الخرطوم، وحاله كحال النيل الأزرق، وقد يجف في الصيف. ثُم يتابع نهر النيل جريانه في الأراضي المصرية حتى مصبه في البحر الأبيض المتوسط.

"
بدأت بعض الدول بالانقلاب على الاتفاقيات والمطالبة بالمحاصة المتساوية في نهر النيل، ومطالبة مصر والسودان بدفع أثمان المياه القادمة من بحيرة فيكتوريا حيث ينبع نهر النيل وذلك بإيحاء من إسرائيل
"

ويبلغ عدد الدول المشاركة في حوض نهر النيل عشرا، وهي من المنبع إلى المصب كما يلي: بوروندي ورواندا وتنزانيا وكينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا وإثيوبيا وإريتريا والسودان ومصر.

ومناخ جميع هذه الأقطار رطب ومعتدل، حيث يبلغ معدل هطول الأمطار 1000-1500 ملم/السنة، ما عدا الجزء الشمالي من السودان ومصر فهو قاري، ولا تتعدى نسبة هطول الأمطار فيهما 20 ملم/السنة. ومن المعلوم أن معدل هطول الأمطار السنوية في إثيوبيا وحدها 900 مليار متر مكعب/السنة.

كما يشغل حوض النيل في بعض الدول كجمهورية الكونغو الديمقراطية 0.7%، وبوروندي 0.4% أي ما يساوي نصف مساحتها الإجمالية، ورواندا 0.7% أي ما يساوي 75% من مساحتها الإجمالية، وتنزانيا 2.7%، وكينيا 1.5%، والكونغو 0.7%، وأوغندا 7.4%، وإثيوبيا 11.7%، وإريتريا 0.8%، والسودان 63.6%، ومصر 10%.

ويبلغ معدل جريان النيل الأبيض السنوي قبل الوصول إلى الخرطوم 29.6 مليار متر مكعب/السنة، والنيل الأزرق في الخرطوم 49.7 مليار متر مكعب/السنة، ونهر عطبرة 11.7 مليار متر مكعب/السنة. أما نهر النيل قبل أسوان أقصى جنوب مصر فيبلغ 84 مليار متر مكعب/السنة أو 90 مليارا إذا أضفنا إليه كمية التبخر. هذا ناتج ما تبقى بعدما تستنفد الدول المشاطئة حاجتها من المياه.

ومن الجدير بالذكر أن مساهمة النيل الأزرق تساوي ضعف مساهمة النيل الأبيض في مياه نهر النيل، ولكن تبقى هذه النسبة متغيرة، إذ تخضع للمواسم المطرية القصوى والدنيا على مدار السنة، مع العلم بأن جريان النيل الأبيض يبقى شبه ثابت خلال الفصول الأربعة، وبذلك تصبح مساهمة النيل الأزرق 90% والنيل الأبيض 5% عند الذروة، في حين تصبح 70% للأول و30% للثاني عند الحالات الدنيا حسب الفاو.

وتجدر الإشارة إلى أن معظم الدول المتشاطئة في الحوض -ما عدا السودان ومصر- تملك حاجتها من المياه وزيادة لكثرة البحيرات العذبة والأنهار ولكثرة هطول الأمطار فيها، بينما يعتمد السودان بنسبة 77% ومصر بنسبة 97% على مياه نهر النيل.

وحريٌّ أن نعرف أن التلوث البيئي في هذا الحوض المائي الكبير جدير بالاهتمام، حيث تسبب الملوثات أضرارا طويلة الأمد للنبات والإنسان والحيوان على السواء، ويشكل تسرب المياه الملوثة والملوثات الكيماوية المسرطنة في الأنهار على وجه الخصوص خطرا جسيما للصحة العامة.

وهناك في العالم ملايين الحالات من الملوثات الكيماوية السامة المسجلة، وأكثر من خمسة ملايين طفل تقل أعمارهم عن خمس سنوات يموتون سنويا لأسباب بيئية.

وقد انتشرت في النصف الأول من عام 2006 الكوليرا في حوض النيل والدول المجاورة، حيث سجلت 25 ألف حالة كوليرا في السودان وحده وقضى المئات منهم نحبهم، كما توفي 200 طفل جراء الإسهال، وأصاب المرض 19 ألف إنسان. و ظهرت الكوليرا في نفس الفترة الزمنية المذكورة بكل من كينيا وأوغندا وتنزانيا حسب منظمة الفاو.

إن التحدي الكبير ينذر بمزيد من الأمراض في حوض النيل في المستقبل القريب إذا لم تؤخذ الاحتياطات اللازمة لحفظ هذا الحوض ومياهه من التلوث، وهذا يتطلب أن تتضافر الجهود من جميع الدول المشاركة والدول الغنية التي تدعي غيرتها على مصالحها لوضع نظام فعال من أجل رصد ومراقبة نوعية المياه، بالإضافة إلى عمل برامج توعية لجميع سكان هذا الحوض.. هذا إذا كانت هذه الدول تهتم بالصحة العامة وتعمل من أجل قهر الفقر والمرض.

فبذل الجهود في هذا المجال أفضل بكثير من هدرها في الخلافات التي من شأنها إشعال الفتن بين الدول المتشاطئة بدون جدوى، إذ لدى كل هذه الدول ما يكفي من المياه وما يزيد عن حاجتها.

أما محاصة المياه التي سمعنا عنها حديثا بين دول حوض النيل والتي لم نسمع عنها في السابق، فمن شأنها حتما إثارة الخلافات بين هذه الدول، إذ يجد المتتبع لاتفاقيات المياه التي حصلت منذ القدم أنها كانت تدور حول استغلال مياه نهر النيل بما يعود بالنفع على كل دول الحوض دون المساس بحقوق مصر التاريخية في هذه المياه.

"
على دول الحوض أن تعلم أن مياه النيل ليست سلعة تباع وتنقل خارج الحوض، وهي تشكل موضوعا أمنيا قوميا هاما لمصر وغير قابل للعبث أو المزايدة
"

ومن الملاحظ في اتفاقية روما الموقع يوم 15 أبريل/نيسان 1891 بين كل من بريطانيا وإيطاليا التي كانت تحتل إريتريا، واتفاقية أديس أبابا الموقعة يوم 15 مايو/أيار 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا، واتفاقية لندن الموقعة يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 1906 بين كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، واتفاقية روما عام 1925، كانت كلها تنص على عدم المساس بحقوق مصر التاريخية في مياه نهر النيل وعدم إقامة مشاريع بتلك الدول من شأنها إحداث خلل في مياه النيل أو التقليل من كمية المياه التي تجري في الأراضي المصرية.

ولم يكن السبب الحب الخاص الذي كانت تكنه تلك الدول لمصر، وإنما كان كبح جماح أطماع الدول الاستعمارية مقابل بعضها البعض حتى لا تندثر مصر وتذهب ضحية تحت وطأة غطرستها الاستعمارية، لا سيما بأن النيل كان وما زال عماد وجودها.

وقد جاءت اتفاقية عام 1929 بين مصر وبريطانيا -التي كانت تنوب عن السودان وأوغندا وتنزانيا- متناغمة مع جميع الاتفاقيات السابقة، فقد نصت على أن لا تقام بغير اتفاق مسبق مع الحكومة المصرية أية أعمال ري أو كهرومائية أو أية إجراءات أخرى على النيل وفروعه أو على البحيرات التي ينبع منها، سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية والتي من شأنها إنقاص مقدار المياه التي تصل مصر أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على أي وجه يلحق ضررا بالمصالح المصرية، كما تنص على حق مصر الطبيعي والتاريخي في مياه النيل.

وقد حددت لأول مرة اتفاقية نوفمبر/تشرين الثاني 1959 بين مصر والسودان كمية المياه بـ55.5 مليار متر مكعب سنويا لمصر و18.5 مليارا للسودان.

وهكذا سارت الأمور على أتم ما يرام حتى نشطت إسرائيل بين الدول الأفريقية، وكان من أهدافها تأليب دول الحوض على مصر لأسباب عديدة منها إضعاف مصر وإخراجها من الطوق العربي، كما تعمل الآن على تغذية الحرب الأهلية القائمة في دارفور بعدما نجحت في تدمير العراق وخرابه، وما زالت تحاول الحصول على حصة من مياه النيل كما نجحت في الاستيلاء على مياه نهر الأردن.

وهذه الدولة التي تتغذى على مصائب الآخرين لم يظهر لها مثيل في التاريخ، سواء من حيث حجم الأطماع الذي لا يعرف حدودا أو من حيث الغطرسة التي أدت وتؤدي إلى كوارث يعلم الله وحده إلى أين ستنتهي.

ومن هنا بدأت بعض الدول بالانقلاب على الاتفاقيات والمطالبة بالمحاصة المتساوية في نهر النيل، ومطالبة مصر والسودان بدفع أثمان المياه القادمة من بحيرة فيكتوريا حيث ينبع نهر النيل، وذلك بإيحاء من إسرائيل التي زرعت في هذه الدول هذه الثقافة كي تحذو حذوها في فلسطين، حيث يقوم هذا الكيان المغتصب ببيع المياه المغتصبة إلى أصحابها الفلسطينيين بأسعار عالية، وهذا طبعا مخالف لكل القوانين والأعراف الدولية من أيام حمورابي قبل أربعة آلاف عام حتى اليوم.

وهنا يجب على دول الحوض أن تعلم أن مياه النيل ليست سلعة تباع وتنقل خارج الحوض، وهي تشكل موضوعا أمنيا قوميا هاما لمصر وغير قابل للعبث أو المزايدة، ومن الحكمة أن لا تنجر وراء الفتن والمكائد الإسرائيلية التي لن تجني من ورائها إلا الخراب والدمار لشعوب المنطقة، فتاريخ هذه الدولة حافل بالغدر والخيانة ولا يوجد لديها أي رادع أخلاقي مهما كانت درجة القربى أو الود.

وعلى هذه الدول أن تتفرغ من أجل تنمية المشاريع المجدية لأن المياه متوافرة ولا تحتاج إلا إلى حسن الإدارة والعمل الدؤوب والاستغلال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.