مؤتمر واشنطن.. تطبيع السودان مع أميركا

الطيب زين العابدين (مؤتمر واشنطن بداية التطبيع مع أميركا)



نال حزب المؤتمر الوطني جائزة غير متوقعة حين دعاه مبعوث الرئيس أوباما الخاص للسودان سكوت غريشن مع شريكه الحركة الشعبية إلى مؤتمر خاص في واشنطن نهاية الأسبوع الثالث من يونيو/حزيران المنصرم، لمناقشة المشاكل العالقة في اتفاقية السلام الشامل ودفع مفاوضات السلام حول دارفور.

اشترطت الحكومة على غريشن قبل إجابة الدعوة أن تكون الإدارة الأميركية محايدة بين الطرفين في مناقشة المشكلات، وأن يتم الالتزام بنصوص الاتفاقية دون زيادة أو نقصان، وأن لا تستحدث آليات جديدة لتنفيذ بنود المعاهدة. قبل المبعوث الأميركي هذه الشروط وأوفى بها أثناء مداولات المؤتمر.

"
مؤتمر واشنطن يعد أهم لقاء أتيح لحزب المؤتمر الوطني ليبلغ رؤيته للمجتمع الأميركي عبر وسائل الإعلام وأعضاء الكونغرس والحكومة ومراكز البحث
"

ترأس وفد الحكومة الدكتور غازي صلاح الدين مستشار رئيس الجمهورية المعروف بمصداقيته واعتداله، كما ترأس وفد الحركة الشعبية السيد مالك عقار رئيس قطاع شمال السودان فيها ووالي ولاية النيل الأزرق الحدودية.

كان هدف الحركة في المناقشات هو الضغط على المؤتمر الوطني عن طريق "الصديق" الأميركي حتى يستجيب لمطالب الحركة بشأن بعض القضايا التي تهمها، مثل نتيجة الإحصاء السكاني والترتيبات الأمنية وترسيم الحدود وقانون الاستفتاء وهيكلة البنك المركزي ومشكلة أبيي ومسائل التحول الديمقراطي وعلى رأسها تعديل قانون جهاز الأمن الوطني. كما أثار المؤتمر الوطني قضية سلطات الحكومة الاتحادية التي لم تطبق في الجنوب حتى اليوم.

حشدت الولايات المتحدة للمؤتمر حضورا متميزا، فبالإضافة إلى وفدي المؤتمر والحركة المكونين من 30 شخصا، شهد اللقاء نحو 170 مراقبا من 32 دولة ومنظمة دولية. وقد جددت الدول المراقبة دعمها الموعود للتعمير والتأهيل في المناطق المتأثرة بالنزاع، وكانت فرصة مواتية بالنسبة للمؤتمر الوطني أن يُسمع صوته وحجته لكل أولئك المراقبين الدوليين وللمجتمع الأميركي.

أضعف موقف الحركة الشعبية في المناقشات أن بعض ما تطلبه يناقض بنود اتفاقية السلام الشامل، فقد طلبت الحركة توسيع منطقة مراقبة وقف إطلاق النار لتشمل كل السودان، في حين تنص الاتفاقية على المراقبة في مناطق النزاع المسلح (الجنوب وجنوب كردفان والنيل الأزرق)، وذلك لأن الحركة تتهم الحكومة بأنها تدرب بعض العناصر الجنوبية المعارضة لها وتحرضها على إثارة الاضطرابات في الجنوب.

وفد الحكومة رفض هذا الطلب ولكنه عرض حلا وسطا بتكوين لجنة مشتركة من الطرفين تفتش أي منطقة يشتبه في أنها تضم معسكرات تدريب ضد أي من الطرفين، فالحكومة أيضاً لها مخاوفها من تدريب الحركة لبعض فصائل دارفور المسلحة، ولم يعجب ذلك الحل الحركة التي تريد مراقبة دولية.

كما طلبت الحركة أن يكون فرع البنك المركزي في الجنوب مستقلا تماما عن البنك الرئيسي في الخرطوم، وقد سبق لها أن أثارت هذه النقطة في مفاوضات نيفاشا إلا أن صندوق النقد الدولي أفتى الطرفين بأنه لا يجوز إنشاء بنكين مركزيين في بلد واحد. ونصت الاتفاقية على تبعية بنك الجنوب للبنك المركزي، وقد شاركت الحركة في صياغة قانون البنك المركزي وفي مجلس إدارته.

"
أضعف موقف الحركة الشعبية في المناقشات أن بعض ما تطلبه يناقض بنود اتفاقية السلام الشامل
"

وبخصوص الإحصاء السكاني كان دفاع وفد المؤتمر الوطني منطقيا بأن التعداد السكاني عملية فنية شهد على سلامة إجرائها خبراء الأمم المتحدة والدول الغربية المانحة وفريق الهيئة الاستشارية العالمية (مقرها باريس)، فلا ينبغي أن تعدل نتيجتها لأسباب سياسية لمجرد أن الحركة ترغب في أن يكون تعداد الجنوبيين 33% من السكان كما قدرته جزافاً اتفاقية نيفاشا التي نصت على معاملة الجنوبيين في اقتسام السلطة والثروة حسب نتيجة التعداد الذي يجرى لاحقاً، وجاءت النتيجة بأن سكان الجنوب يبلغون 21% فقط من جملة السكان البالغة 39 مليون نسمة.

ولم تستطع الحركة أن تدافع عن موقفها بمنع ممارسة الحكومة الاتحادية لصلاحياتها في الجنوب بشأن تحصيل الجمارك الحدودية والإشراف على الطيران المدني وإدارة جهاز الأمن الوطني وغيرها من السلطات.

ورغم تعاطف المندوب الأميركي المبدئي مع الحركة فإنه كان عادلا في تعاطيه مع القضايا، فقد كان يستمع جيدا لكلا الطرفين على حدة ثم يحاول أن يقترح صيغة توفيقية لحل المشكلة.

واعترض وفد المؤتمر الوطني على حيادية الفريق الأميركي عندما يكون مطلب الحركة مناقضا لبنود اتفاقية السلام الشامل، فإن هدف المؤتمر هو تنفيذ الاتفاقية وليس إجراء مفاوضات جديدة حول بنودها. وكان الفريق الأميركي متفهماً لحجة المؤتمر الوطني فلم يضغط عليه كما كانت تشتهي الحركة.

وخرجت الحركة من مؤتمر واشنطن غاضبة على المؤتمر الوطني بل وعلى المبعوث الأميركي لأنها لم تحقق شيئا من مطالبها، وغاظها أكثر أن المؤتمر الوطني كسب الجولة بأن أحدث تقدما في علاقته بصناع القرار في الولايات المتحدة، وكانت تظن أنها تملك حق النقض في تحسين علاقة "حكومة الشمال" بواشنطن!

وخرج مؤتمر واشنطن بتحديد اجتماعين آخرين، الأول في الخرطوم منتصف يوليو/تموز الجاري، والثاني في جوبا منتصف أغسطس/آب المقبل لمتابعة النقاش حول ما تبقى من تنفيذ اتفاقية السلام الشامل.

ودار الحديث حول مشكلة دارفور بصورة أساسية بين المؤتمر الوطني والفريق الأميركي، وأوضح وفد المؤتمر انفتاح حزبه على أي حوار إقليمي أو دولي يؤدي إلى سلام في دارفور، وأنه حريص على التوصل إلى اتفاق وقف العدائيات مع الحركات المسلحة، على أن يكون التركيز في المفاوضات على القضايا الأساسية مثل تقاسم السلطة والثروة.

أما إطلاق سراح المحتجزين الذي تطالب به حركة العدل والمساواة فلا ينبغي أن يوضع شرطاً قبل وقف العدائيات التي تهم كل أهل دارفور، وليس من المنطق أن يطلق المحتجزون مع استمرار العمليات العدائية التي يمكنهم الالتحاق بها مما يؤجج الصراع في الإقليم.

ولم يثر الجانب الأميركي مسألة المنظمات المطرودة من دارفور لأن هناك اتفاقا موقعا حولها بين الحكومة السودانية والإدارة الأميركية، ويتلخص الاتفاق في حفظ ممتلكات المنظمات المطرودة وتسليمها لمنظمات أميركية جديدة بأسماء جديدة (قد تشارك فيها المنظمات القديمة)!

ويبدو أن الإدارة الأميركية لم تبلور بعد رؤيتها كاملة في معالجة مشكلة دارفور، فهي ما زالت تتصل بالأطراف المعنية وتجمع المعلومات والأفكار من الفصائل ودول الجوار والحلفاء الغربيين.

يعتبر مؤتمر واشنطن أهم لقاء أتيح للمؤتمر الوطني ليبلغ رؤيته للمجتمع الأميركي عبر وسائل الإعلام وأعضاء الكونغرس والحكومة الأميركية ومراكز البحث، وكان الدكتور غازي صلاح الدين الرجل المناسب للمهمة بكل المقاييس.

"
تحسين العلاقات مع الإدارة الأميركية الجديدة ممكن وفي وقت ليس ببعيد، ولكنه يحتاج إلى دفعة من جانبنا لنفعل ما يجب أن نفعله ونقول ما ينبغي أن يقال
"

فقد نشر مقالاً ضافيا لموقف الحكومة في جريدة واشنطن تايمز فتح له الباب أن تستضيفه الإذاعة القومية الأميركية (تعادل بي.بي.سي البريطانية) التي يستمع لها ملايين المواطنين لحوار مع بعض الخبراء حول تنفيذ اتفاقية السلام الشامل ومشكلة دارفور.

كما التقى الوفد مع بعض أعضاء الكونغرس ومنهم الكوكس الأفريقي الذي عرف بعدائه المتطرف لحكومة السودان وقبل بعضهم الدعوة لزيارة السودان، كما نظم معهد السلام الأميركي (يعتبر الثنك تانك لقضايا النزاع) محاضرتين للوفد الحكومي عن اتفاقية السلام الشامل والأخرى عن الوضع الإنساني في دارفور وأسباب طرد المنظمات الأجنبية.

ومن الملاحظ أن الحديث عن الإبادة الجماعية التي كانت تقول بها إدارة الرئيس بوش قد تراجعت كثيرا على لسان السياسيين والإعلاميين، بل إن بعض المسؤولين الأميركيين مثل رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس جون كيري والمبعوث الخاص إلى السودان سكوت غريشن وأندرو ناتسيوس صاروا يقولون صراحة إنه ليست هناك في الوقت الحاضر إبادة جماعية في إقليم دارفور.

وصف الدكتور غازي صلاح الدين نتيجة مداولات ومقابلات مؤتمر واشنطن بأنها أفضل فرصة أتيحت للسودان في عرض وجهة نظره على صناع القرار في الولايات المتحدة، ولكنها لم تؤد حتى الآن إلى تعديل جوهري في مواقف واشنطن تجاه الخرطوم، إلا أن السودان تمكن من إيصال رسالته بقوة ووجد آذانا صاغية لسماعها.

ووصف النظام الأميركي بأنه مركب ومعقد يشمل الإدارة الحكومية كما يشمل الجهاز التشريعي ووسائل الإعلام والناشطين في منظمات المجتمع المدني وجماعات الضغط المختلفة، ولكنه مجتمع مفتوح لمن يمتلك المنطق والحجة في تبليغ رسالته.

وانتقد غازي موقف الحركة الشعبية في محاولتها لتبرير استمرار العقوبات الاقتصادية ضد الحكومة الاتحادية، في حين أن الواجب الوطني يقتضي منها أن تطالب صراحة برفعها لأن الذي يتضرر منها هو الشعب السوداني بأسره وليس الحكومة.

ويعلم غازي أن معركة تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة ليست في واشنطن وحدها ولكنها في الخرطوم أيضا، حيث تنطلق بعض التصريحات العنترية من حين لآخر تتهم واشنطن بأنها العدو الأول للإسلام والمسلمين وخاصة لحكومة "المشروع الحضاري" في السودان!

لذلك انخرط رئيس وفد المؤتمر الوطني منذ عودته في لقاءات مع رئيس الجمهورية وكبار المسؤولين في الحكومة والحزب ينورهم عن نتائج مؤتمر واشنطن ويقول لهم إن تحسين العلاقات مع الإدارة الأميركية الجديدة ممكن وفي وقت ليس ببعيد، ولكنه يحتاج إلى دفعة من جانبنا لنفعل ما يجب أن نفعله ونقول ما ينبغي أن يقال.

ويبدو أن أطروحات غازي وجدت قدراً لا بأس به من تأييد رئيس الجمهورية الذي عهد إليه بالاستمرار في ملف العلاقات مع الولايات المتحدة بجانب ملف دارفور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.