أميركا أوباما وإستراتيجية إدارة الأزمات

أميركا-أوباما وإستراتيجية إدارة الأزمات


كثيرون هم من تفاءلوا بقدوم أوباما رئيسًا إلى البيت الأبيض، إلا أنهم سيكتشفون أنهم واهمون. فقد خلط هؤلاء بين الانطباع الشخصي حول باراك أوباما، ذي الأصول الأفريقية والملامح الودودة، الأكاديمي المتحدث اللبق، رافع شعار "التغيير"، وبين المهام الملقاة على عاتقه باعتباره رئيس أكبر دولة استعمارية في وقتنا الحالي.

وقد ظن هؤلاء للأسباب الآنفة وغيرها أنّ أوباما هو طوق نجاة أميركا والعالم، غافلين عن أنّ الولايات المتحدة الأميركية دولة عظمى، تعتنق الفكر الرأسمالي الذي يقدس النفعية ويؤصل في الدولة والمجتمع والفرد الشره والجشع والأنانية.

"
ستحاول إدارة أوباما ما أمكن تسخير إمكانياتها ونفوذها وكافة مقدراتها لإنقاذ أميركا وإيقاف عجلة تدهورها. وستعمد في هذا السياق إلى اتخاذ كافة الوسائل الممكنة لتحقيق ذلك، حتى لو كلفها الأمر زيادة جرعات الظلم والقهر الذي تمارسه أميركا في العالم
"

وهذا الفكر هو الذي يمثل المعيار لتعاطي أميركا مع غيرها، بغض النظر عن اسم ولون ساكن البيت الأبيض. فما لم يتغير هذا المبدأ وما لم تتغير الثقافة السائدة في أميركا فإنها ستبقى دولة استعمارية تتطلع بجشعها المعهود إلى الهيمنة على الآخرين لاستعبادهم ونهب ثرواتهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

من جهة أخرى فإن إدارة أوباما ليست في وضع يرجى منها فيه خير للبشرية عمومًا وللمسلمين خصوصًا، فأميركا في أزمات نوعية حادة سواء في عالم السياسة أو الاقتصاد فضلاً عن الأخلاق.

ولذلك فإن هذه الإدارة ستحاول ما أمكن تسخير إمكانياتها ونفوذها وكافة مقدراتها لإنقاذ أميركا وإيقاف عجلة تدهورها. وستعمد إدارة أوباما في هذا السياق إلى اتخاذ كافة الوسائل الممكنة لتحقيق ذلك، حتى لو كلفها الأمر زيادة جرعات الظلم والقهر الذي تمارسه أميركا في العالم بشكل متواصل منذ الحرب العالمية الثانية.

أما التغيير الذي تحدث عنه أوباما طويلاً فإنه يرجع إلى فشل الإستراتيجية الأميركية التي قادها المحافظون الجدد في الهيمنة على العالم والتفرد المطلق بالقرار السياسي فيه. ونتيجة لهذا الفشل كان التغيير حتميًّا في سياسات الولايات المتحدة بغض النظر عن الشخص الذي يتولى زمام البيت الأبيض.

وللتأكيد على هذا فإنّ مقدمات هذا التغيير قد بدأت فعلاً قبل أن يصبح أوباما رئيسًا، حيث فتحت إدارة سلفه (جورج بوش الابن) باب الحوار علنًا مع إيران، وهو ما تضمنته أصلاً توصيات بيكر وهاملتون بشكل واضح بشأن العراق.

وأما ما يتعلق بمعسكر غوانتانامو والسجون السرية والخطاب الاستعلائي الموجه إلى العالم بشكل عام والإسلامي بشكل خاص، فإنها كانت مجرد أساليب اتبعتها الإدارة المنصرفة لفرض منطق يتناسب مع الإستراتيجية الأميركية المنشودة آنذاك. تلك التي هدفت للهيمنة المطلقة على العالم من خلال سياسات البطش والتعسف والإرهاب واستعمال أقصى القوة المتاحة لديها وأفظعها.

وبسبب فشل تلك الإستراتيجية تماما، كان لا بد لأوباما أو أي رئيس جديد لأميركا من مراجعة كافة الأساليب المرتبطة بتلك الإستراتيجية، لا لنبل أخلاقه أو لأنه يقود ثورة تنشد الإطاحة بالنظام السياسي الذي تزعمه بوش، بل لرسم سياسات تتناسب مع الوضع الجديد.

فتبني الإستراتيجيات السياسية وما يلحق بها من خطط وتكتيكات من قبل الدول الكبرى لا يستند إلى مزاج شخص الرئيس، في عالمنا المعاصر، وإنما لرؤية الدولة ومؤسساتها والمعطيات الواقعية المتوفرة التي تخدم أو تحول دون تحقيقها.

ولهذا فإن المتتبع لتطورات الإستراتيجيات الأميركية المختلفة، يجد أنها كانت تعتمد على معطيات وعوامل زمن معين في خدمة رؤية الدولة والمجتمع التي تستند إلى الفكر الرأسمالي. وهذا هو ما تعكسه إستراتيجيات الولايات المتحدة الأميركية خلال القرن الأخير رغم تباينها.

فإستراتيجية أميركا قبل الحرب العالمية الأولى قامت على أساس العزلة الدولية التي فرضتها هي على نفسها في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بعد أن تحررت من الاستعمار الأوروبي، مما جعلها تتجنب الدخول في صراعات دولية، وتنكفئ على نفسها ضمن القارة الأميركية، بل كانت تعيب على الدول الأوروبية سياساتها الاستعمارية وتصفها آنذاك بأنها قذرة.

"
المتتبع لتطورات الإستراتيجيات الأميركية المختلفة، يجد أنها كانت تعتمد على معطيات وعوامل زمن معين في خدمة رؤية الدولة والمجتمع التي تستند إلى الفكر الرأسمالي. وهذا هو ما تعكسه إستراتيجيات الولايات المتحدة الأميركية خلال القرن الأخير رغم تباينها
"

وانعكست هذه الإستراتيجية في موقفها الممتنع من دخول عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، رغم مشاركتها الفعالة في تلك الحرب وانتصارها فيها مع دول الحلفاء. ورغم تبني أميركا للفكر الرأسمالي، فإنها لم تكن جاهزة لممارسة الاستعمار على نحو مثيلاتها، سواء لأن الرأي العام للشعب الأميركي لم يكن يتقبل فكرة الاستعمار، وهو الذي اكتوى بناره وكافح طويلاً للخلاص منه، أو لكون الطبقة السياسية الأميركية كانت لا تزال تخشى مكر بريطانيا وخبرة دول أوروبا في الشأن الدولي، مما جعلها غير مؤهلة لممارسة ذلك الدور رغم اعتناقها لنفس المبدأ.

لكن هذا التوجه تغير تمامًا بعد الحرب العالمية الثانية حيث اعتادت أميركا الخروج إلى العالم، وبدأت تدرك أهمية الثروات والخيرات التي يمكن أن تسلبها من آسيا وأفريقيا، ولهذا أخذت تنافس الدول الأوروبية على مستعمراتها، بل أخذت تفرض هيمنتها على أوروبا نفسها سواء من خلال مشروع مارشال الاقتصادي أو من خلال المظلة النووية لحماية غرب أوروبا من الاتحاد السوفياتي الذي سلكت طريق الصدام معه ومحاولة تحطيمه.

ومن أجل تحقيق هذه الإستراتيجية سيطرت أميركا على الأمم المتحدة، وشكلت حلف الناتو للهيمنة على القرار السياسي لدول "المعسكر الغربي الحر" وأخذت تناوش الاتحاد السوفياتي، كما أدارت مجموعة انقلابات عسكرية ناجحة في أماكن مختلفة من العالم لا سيما في منطقة الشرق الأوسط لتغيير ولاء النظم الحاكمة فيه لصالحها.

إلا أن إستراتيجية دولية جديدة ظهرت للولايات المتحدة بعد لقاء خرتشوف وكنيدي في فينا 1961، الذي تم بموجبه إيقاف سياسات الصدام المباشر بين القطبين والانتقال إلى ما عرف آنذاك بالحرب الباردة.

وهكذا غضت أميركا النظر عن هيمنة الاتحاد السوفياتي على شرق أوروبا، ولم تعد تتطلع إلى تحريره من براثن "الشيوعية الشريرة"، في حين أقر الأخير نفوذ أميركا في غرب أوروبا.

كما اتفق الفريقان على إسقاط تأثير الدول الاستعمارية التقليدية في الموقف الدولي وتحجيم نفوذها في العالم على طريق استئصاله، وعلى اقتسام العالم بينهما بشكل نسبي.

وهكذا أخذا يتعاطيان سوية في الشأن الدولي من خلال منطق تمرير الصفقات الرائج بين التجار. بقي ذلك سائدًا إلى أن تم استنفاد الولايات المتحدة أغراضها من إستراتيجية الوفاق الدولي مع الاتحاد السوفياتي، ومن ثم انتقلت إلى مرحلة التخلص منه، لا سيما بعد قدوم ريغان (1981-1989) إلى الحكم وعزمه على إطلاق برنامج "حرب النجوم" ضمن مشروع استهدف إحباط أي هجوم بالصواريخ البالستية على الولايات المتحدة أو إحدى حليفاتها. وقد جر هذا المشروع الاتحاد السوفياتي إلى سباق تسلح أنهكه، وكان أحد العوامل التي أدت إلى تفكيكه وانهيار المعسكر الاشتراكي في وقت لاحق.

كذلك اختلفت إستراتيجية أميركا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، لا سيما بعد استلام المحافظين الجدد زمام الأمور في البيت الأبيض، إذ أخذت تعمل على التفرد المطلق بالقرار الدولي من غير شريك أو رقيب، ولذلك عاثت في الأرض فسادًا وخاضت حروبًا ظالمة كان العالم الإسلامي ميدانها، وأظهرت ما تستطيع من قسوة وبطش لإرهاب العالم وإخضاعه لها، وبدأت تتدخل في كل كبيرة وصغيرة ما أمكنها ذلك، وكأنها شرطي العالم الأوحد الذي يحق له التصرف في شؤونه من غير التزام بأي قانون أو عرف دولي يتعارض مع مصالحها.

"
أميركا الآن متمثلة بإدارة أوباما هي في حالة عمل دؤوب لاستعادة توازنها، محاولة انتشال نفسها من مستنقع الأزمات المتراكمة والمتعاقبة. ونتيجة لكثرة الملفات العالقة والمتشابكة فقد تبنت على ما يبدو إستراتيجية تفكيك الملفات وإناطتها بلجان مختصة
"

لكن الفشل الذريع الذي منيت به الإستراتيجية الأميركية كان أوضح من أن يدلل عليه بهذا الشأن، ومن ثم تراكمت الأزمات على الإدارة الأميركية، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو الاقتصادي، مما دفع الفكر السياسي الذي تقوده مؤسسات البحث وترعاه المؤسسات الأمنية في الولايات المتحدة إلى تبني شعار "التغيير" عبر مرشحها المفضل في هذه المرحلة "باراك حسين أوباما" باعتباره ضرورة لإنقاذ أميركا من مشاكلها التي باتت أشبه بكرة ثلج متدحرجة من سفح جبل، تزيد سرعة وقوة وحجمًا وخطرًا مع مرور الوقت.

وقد أدى الفشل الذي مني به المحافظون الجدد في سياساتهم إلى إلحاق أذى شديد بأميركا، مما أدى إلى أن تعيد إدارة أوباما ترتيب الملفات ودراستها والتعاطي معها بشكل يختلف عن الإدارة السابقة.

وقد كان هذا التوجه الجديد في سلوك إدارة أوباما ظاهرًا للعيان منذ اليوم الأول لتنصيبه رئيسا للولايات المتحدة، حيث عبر بصراحة في خطاب القسم عن أنه ليس بصدد الالتزام بأيديولوجيا معينة، وإنما سيسعى إلى إيجاد حلول للأزمات والمشاكل والتحديات التي تواجه أميركا واعتماد ما يحقق مصالحها.

وعليه فإن أميركا الآن متمثلة بإدارة أوباما هي في حالة عمل دؤوب لاستعادة توازنها، محاولة انتشال نفسها من مستنقع الأزمات المتراكمة والمتعاقبة. ونتيجة لكثرة الملفات العالقة والمتشابكة التي تواجهها هذه الإدارة على الصعيد المحلي والعالمي، فقد تبنت على ما يبدو إستراتيجية تفكيك الملفات وإناطتها بلجان مختصة ذات كفاءة عالية للتعامل مع كل منها على حدة، بحسب إلحاح ذاك الملف وما يظهر من خطر تداعياته على أميركا. ولهذا فإنه يجدر بإستراتيجية الإدارة الأميركية الحالية -في تقديرنا- أن توصف بأنها "إستراتيجية إدارة الأزمات".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.