براغ.. رحلة الأقدام والأقلام

براغ.. رحلة الأقدام والأقلام


 
بنفس الطريقة التي أتبعها في الترحال، جهزت أدوات سفري منطلقا إلى العاصمة التشيكية براغ. جمعت المدخرات المتناثرة، وطيبت خاطر زوجتي واعدا إياها بأن هذه آخر مرة أبدد فيها ميزانية البيت رغبة في التعلم من خطى الأقدام لا حبر الأقلام.

طالعت خريطة إلكترونية للتشيك والدول المجاورة، وتجولت في مدينة براغ عبر برنامج غوغل إيرث، وأنهيت هذا التحضير بزيارة موقع الإرشاد السياحي الإلكتروني "لونلي بلانت" ومنه تعرفت على معلومات تاريخية وجغرافية عن المدينة ونشأتها ومعالمها المعمارية من خلال ألبوم صور فوتوغرافية وبعض مقاطع الفيديو.

إذا اتبعت الخطوات السابقة فستكتشف أنك فقدت أكثر من نصف متعة السفر. لا بد أن نعترف أنه بقدر ما هو مفيد أن يقف المرء أمام مبنى أو متحف أو معلم طبيعي أو يصلي في مسجد أو يزور كنيسة، وهو على دراية بصرية مسبقة بخصوصية المكان ومعالمه، بقدر ما هو محزن أن تكون هذه المعرفة قد سلبت منه شغف المعرفة الأولى وروعة خداع النفس بأنه رأى ما لم يره أحد.

قالوا قديما إن أجمل ما في السفر أن تعود وتحكى للأصدقاء، فتطيل الوصف، وتضع بعض المؤثرات الصوتية على كلماتك كي يتحرق المستمع شوقا ويرميك بنظرة مغبطة. لكن اليوم أي شغف يمكن أن تثيره لدى مستمعيك؟ ولأن هذه المشاعر قد سيطرت على خاطري أثناء اليوم الأول من التجوال في براغ فقد دهمني شك في مبدأ "الأقدام لا الأقلام" وعدت من جديد باحثا عن ما تحويه بطون الكتب.

ماذا يقرأ الناس؟

"
في كل دولة تصل إليها قدماك هناك دار لبيع الكتب تستحق الزيارة، تفتح لك أسرار ما يفكر فيه سكانها وتخبرك عن ما يشغل بال مواطنيها ومثقفيها
"

في كل دولة تصل إليها قدماك هناك دار لبيع الكتب تستحق الزيارة، تفتح لك أسرار ما يفكر فيه سكانها وتخبرك عن ما يشغل بال مواطنيها ومثقفيها. ففي موسكو لا يمكنك تفويت زيارة دور بيع الكتب في شارع "أرباط" فتدهشك عشرات العناوين لكتب متخصصة في التقنيات الحديثة وتعليم البرمجيات الحاسوبية، جنبا إلى جنب مع طبعات جديدة فاخرة لروائع الأدب الروسي في القرن التاسع عشر.

وفي سان بطرسبرغ على الحدود الروسية الفنلندية كيف تفوتك زيارة "دوم كنيجي" (بيت الكتب)؟ حيث التحولات التي يشهدها المواطن الروسي بعد عقدين من سقوط الشيوعية. لكن كن حذرا فلا تظن من عناوين الكتب أن أهل المدينة لا يقرؤون سوى القصص البوليسية ومغامرات المافيا الروسية الحديثة، فهذا ليس كل شيء، فإذا هبطت إلى الطابق الأرضي في هذه المكتبة ستحمل لك الأرفف عناوين قد تدهشك كقارئ عربي جاء من بيئة قاحلة، إذ إن كثيرا من عناوين الكتب الأكثر مبيعا تخصصت في تنسيق الحدائق ورعاية الزهور.

وفي دلهي كيف ستعرف ما الذي يشغل المواطن الهندي دون أن تتجول بين مكتبات ميدان "كونات بليس" في وسط المدينة. هنا ستجد عناوين الكتب أشبه بكرنفال من الألوان. أنت هنا في الهند ذات الألف وجه، والموضوعات التي تشغل القراء تتناول كل شيء، من التقنية النووية إلى سيارات التوكتوك، ومن الأقمار الاصطناعية إلى قصص الغرام بين الآلهة الهندوسية.

في الرياض ليس أمامك سوى "العبيكان" و"جرير" وهي دور كتب تمارس رقابة صارمة على "عناوين" الكتب التي تعرضها، وإن كان الوضع أحسن حالا من تونس التي ستسافر إليها وتعود ولن تتذكر اسما مميزا لدار نشر كبرى. فشارع الحبيب بورقيبة مليء بعشرات منافذ بيع الكتب، لكن العناوين لا تخرج عن فنون الطهي وتعلم اللغتين الفرنسية والإيطالية ومبادئ الثقافة الجنسية.

تبدو المهمة صعبة للغاية لمعرفة فيم يفكر المواطن التونسي؟ وما هي خريطة التحولات التي تموج في المجتمع وطبيعة مشكلاته وتطلعاته؟ وحتى أكون منصفا فقد تذكرت عنوانين من الكتب التونسية: الأول عن تنامي "العنف اللفظي" في المجتمع التونسي، والثاني يفكك "النهج البورقيبي".

الأقصر الجديدة
في براغ أسلمت نفسي إلى دار لبيع الكتب في وسط المدينة آملا أن اكتشف العاصمة التشيكية من خلال عناوين الكتب وموضوعاتها. ولأن اسم الدار "الأقصر الجديدة" فقد زادت حماستي، ربما افتخارا بأن الأقصر القابعة في صحراء بلادي الحارة قد شغلت عقول وقلوب سكان جبال الكربات في أوروبا الباردة.

تشغل "الأقصر الجديدة" مساحة تربو عن خمسة آلاف متر مربع ومؤلفة من ثلاثة طوابق. في الطابق الأول، حيث تترامي أرفف وأجنحة الأعمال الأدبية، ستشدك حتما مجموعة من الكتب تتناول حياة وأعمال الروائي التشيكي ذي الأصل اليهودي فرانتس كافكا.

طبعات متعددة لأشهر أعماله "المسخ" التي تجسد سوداوية الحياة الإنسانية في عالم تحكمه النفعية والانتهازية، وهو عالم لا نهائي في الزمن سواء كان هذا الزمن إقطاعيا أو شيوعيا أو رأسماليا، إنها رواية ستبقى على الأرفف تتلقفها كل الأجيال.

"
في دار "الأقصر الجديدة" ستشدك حتما مجموعة من الكتب تتناول حياة وأعمال الروائي التشيكي ذي الأصل اليهودي فرانتس كافكا الذي يذكرك بقاهرة نجيب محفوظ، حيث يتماهى الكاتب في المدينة فيصبح هو المدينة، والمدينة هو
"

غير بعيد كتاب جديد حول كافكا يربط جغرافية مدينة براغ بسيرته الذاتية، ميلاده وصباه والمواقع التي اشتملتها رواياته. ضم الكتاب صورا باللون الرمادي لبراغ قبل نصف قرن، حين تقارنها بالواقع الحالي للمدينة تدرك حجم التغير والحداثة.

براغ كافكا تذكرك بقاهرة نجيب محفوظ، حيث يتماهى الكاتب في المدينة فيصبح هو المدينة، والمدينة هو.

إلى جوار ركن الرواية يقابلك ركن السيرة الذاتية، عدد من الكتب يتناول سيرة فاتسلاف هافيل الشخصية البطولية في الكفاح ضد الشيوعية واستقلال التشيك وإرساء حكم ديمقراطي على النسق الغربي. أشهر كتب سيرة هافيل الذاتية كتاب "إلى القلعة والعودة منها" والقلعة التي يحملها العنوان هي التي تضم القصر الرئاسي. ودخول القلعة ثم مغادرتها يرمز إلى الانسحاب الطوعي من الحياة السياسية، وهو مسار اختاره هافيل رغم تمسك المواطنين به تاركا الفرصة لجيل آخر من السياسيين.

في الركن السياسي ستخطف بصرك كتبا عن المسلمين في أوروبا وثنائية الجيتو والاندماج. بعض منها يناقش حالة المسلمين اللاجئين في أوروبا والتحديات التي تواجههم. بين فصول الكتب إحصاءات وأرقام، بعضها يلقي الضوء على حجم الإعانات السنوية التي تقدمها الدول الأوروبية لهؤلاء اللاجئين، تلك الإعانات التي تمثل مصدر كراهية من قبل القوميين المتطرفيين في الدول الأوروبية. ففي ألمانيا على سبيل المثال يتابع القوميون المتشددون بصبر نافد ما تنشره الصحف من أن الحكومة تدفع لنحو ثلاثة ملايين مسلم من الوافدين غير الشرعيين نحو 52 بليون مارك ألماني سنويا.

قراءة بنكهة القهوة
دور بيع الكتب هنا ليست كنظيرتها في بلادنا. فالأقصر الجديدة تخصص نصف طابق بأكمله مقهى يقدم المشروبات الساخنة والباردة وبعض الوجبات الخفيفة. من شبكة الإذاعة الداخلية في دار الكتب وأينما كان موقعك سيأتيك صوت هادئ ينصحك إن كنت تشعر بالجوع أو العطش بأن تتوجه للطابق الثاني لتأخذ قسطا من الراحة ومتابعة بعض البرامج الثقافية على شاشة تلفاز كبرى.

أنصحك أن تتصفح بعض الكتب مع رشفات القهوة. لم تكن استراحتي خالية من الترفيه، فعلى مائدة مجاورة تعرفت على زائر ياباني، اتضح أننا نقيم في فندقين متلاصقين، لكنه كان يدفع في غرفته ذات النجوم الأربع مائتي يورو بينما كنت أدفع عشرين يورو في غرفة تؤنسني فيها بعض الحشرات التي تنازع الموت بعد رشها بجرعة طازجة من المبيدات.

وحين لمحت بعضا من الشفقة في عين جليسي هونت عليه بأن غرفتي مسلية للغاية، إذ تطل شرفتها على حارة تعج بالحياة، خاصة حين يسمعني أولئك الشباب المتسكعين طيلة الليل مزيجا من أهازيج المخمورين والأغاني الوطنية، لم يكن يزعجني في هذا الفندق الرث سوى ختام السكارى حفلتهم الصاخبة، حين يتبارون في كسر زجاجات الخمر الفارغة على قارعة شارع فاتسلاف هافيل.

"
 تدلك الصفحات في دار "الأقصر الجديدة" على أن المرأة في أوروبا الشرقية حلت محل الرجل وقت المعارك. وبعض الكتب يعرج على تشويه سمعة المرأة هناك بعد انهيار الشيوعية حيث  انتعشت تجارة الجنس والرقيق الأبيض
"

بعد هذه الاستراحة الممزوجة برائحة القهوة وحكايات مصرية يابانية، أعود إلى أرفف المكتبة حيث صالات مخصصة لدور النشر باللغات الأوروبية المختلفة، أتصفح كتابا عن التغيرات الاجتماعية التي شهدتها دول أوروبا الوسطى والشرقية منذ النجاة من الشيوعية والرقابة السوفياتية، وكتابا آخر عن التحولات التي عاشتها المرأة في أوروبا الشرقية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

في بانوراما تاريخية تدلك الصفحات كيف احتلت المرأة في أوروبا الشرقية محل الرجل وقت المعارك الكبرى، فحين اتجه الرجال إلى ساحات المعارك تقدمت النساء لتشغلن مكان الرجال خلف آلات المصانع. بعض الكتب يعرج على تشويه سمعة المرأة في أوروبا الشرقية بعد انهيار الشيوعية حين انتعشت في هذه المنطقة تجارة الجنس والرقيق الأبيض.

ما إن تعود إلى أروقة الطابق الثاني في "الأقصر الجديدة" حتى تدهشك عولمة النشر والترجمة، فها هي الترجمة الإنجليزية لرواية "بنات الرياض" والتي تحكى عن المغامرات العاطفية لفتيات سعوديات. وحتى يجذب الناشر الأجنبي قراءه الأوروبيين لشراء الكتاب (في عالم ما بعد الاستشراق) وضع عنوانا فرعيا يحمل كافة المفردات المغرية على شاكلة "الجنس وكسر المحرمات الدينية في المدينة العربية".

نهاية متعة التصفح
ساعات طوال من التجول بين الأقسام وعبر الأرفف لن تشعر معها بقدر من التعب، فستجد في نهاية كل قسم من أقسام المكتبة صالة جلوس بها أرائك ومقاعد وثيرة. تأخذني الذكريات إلى دور النشر في "وسط البلد" بالقاهرة، فهناك وقبل أن تقرأ أول خمسة عناوين من الكتب، سيأتيك صوت البائع كشرطي متشكك في هويتك يسألك بخشونة مفتعلة: "نعم… ما الذي تريد شراءه؟".

في دور النشر في القاهرة ليس هناك مكانا لتجلس متصفحا كتابا أو بضعة كتب (دع عنك أحلام احتساء كوبا من الشاي أو العثور على أريكة وثيرة). وإذا طال تطلعك في الأرفف وأمعنت في تقليب الصفحات سيأتيك صوت البائع من جديد "هنا مكان لبيع الكتب وليس مكتبة حكومية".

بعض دور بيع الكتب في القاهرة تغلف الكتاب بغلاق لاصق حتى لا يمكنك معرفة حتى محتويات الفصول، هم يبيعون لك عناوين جذابة وأغلفة مبهرة الألوان حتى إذا اشتريت الكتاب وعدت إلى البيت وفتحت الكتاب صدمك المحتوى المتهافت، ستقسم حتما ألا تذهب لشراء كتب مرة أخرى.

"
في "الأقصر الجديدة" في براغ تمضي الساعات مثمرة بين كتاب وكتاب، وحين أحاول الخروج أجر أقدامي وكأني انتزع نفسي من لقاء صديق ربما لا يجمعني به القدر مرة ثانية
"

في "الأقصر الجديدة" في براغ تمضي الساعات مثمرة بين كتاب وكتاب، وحين أحاول الخروج أجر أقدامي وكأني انتزع نفسي من لقاء صديق ربما لا يجمعني به القدر مرة ثانية.

عند بوابة الخروج من "الأقصر الجديدة" تقع عيناي على خدمة الإنترنت المجانية، بابتسامة مشجعة يرحب بي الموظف الواقف غير بعيد، أدخل إلى قاعة الإنترنت أراجع بريدي الإلكتروني، أخرج بعد نصف ساعة فتأخذني قدماي من جديد إلى أرفف الأطالس والقواميس وأسطوانات الدي في دي.

بعد ساعات طوال، أتمكن في النهاية من الخروج من المكتبة وقد اشتريت ثلاثة كتب فقط، ولكني فزت بمطالعة عشرين كتابا، هكذا تكون المكتبة، وهكذا تكون الثقافة، وقبل كل شيء، هكذا تكون حقوق الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.