الله ونظرية التطور

الله ونظرية التطور



دينيس ألكساندر

يظن العديد من الناس أن الاعتقاد بنظرية التطور والنشوء لا ينسجم مع الإيمان بوجود الله خالقا للكون والبشرية، في حين يرى العديد من المؤمنين ومنذ عصر تشارلز داروين أن فكرة التطور والنشوء ما هي إلا الطريقة أو المنهج الذي اختاره الله لخلق كل ما هو حي على هذا الكوكب.

"
نظرية داروين وببساطة مجرد نظرية بيولوجية توفر أفضل تفسير يشرح التنوع الذي نراه حولنا في الكائنات الحية
"

فكما هو معروف أن العالم الإنجليزي تشارلز داروين أصدر كتابه "أصل الأنواع" عام 1859 وقدم لأول مرة آلية مقنعة تفسر أصول ومنشأ التنوع البيولوجي.

بيد أن المشكلة تكمن في أن الناس عندما يسمعون كلمة "تطور" تتبادر إلى ذهنهم أفكار مختلفة حول معنى هذه الكلمة، ولسوء الحظ غالبا ما تستخدم النظريات الكبرى لأغراض أيديولوجية.

وقد عانت نظرية داروين حول التطور على وجه الخصوص من هذا النوع من الاستغلال. فمنذ عام 1859 استخدمت نظرية داروين لدعم الاشتراكية والرأسمالية والعنصرية ونقاء العرق والمادية والإلحاد والتوحيد.

لكن وفي حقيقة الأمر أن نظرية داروين وببساطة مجرد نظرية بيولوجية توفر أفضل تفسير يشرح التنوع الذي نراه حولنا في الكائنات الحية.

وعلى الرغم من أن نظرية التطور بحد ذاتها لا يمكن استخدامها لدعم أي موقف أيديولوجي محدد، أدرك أصحاب الفكر الديني ومنذ عصر داروين إمكانية استيعاب هذه النظرية وبسهولة في إطار النظرة التوحيدية للعالم.

فإذا كان الله هو خالق كل شيء حي، يمكن للعلماء عندئذ وصف ما فعله ويفعله الله في النظام الذي خلقه. فلا يوجد شيء على الأرض إلا ما خلقه الله بإرادته الكاملة المطلقة.

وهذا يفسر السبب وراء اندفاع العديد من رجال الدين المسيحي في عصر داروين لقبول نظريته، ومنهم أوبري مور عضو الهيئة التدريسية في كلية القديس جون في جامعة أوكسفورد من خلال قناعته بوجود علاقة وثيقة بين نظرية داروين وعلم اللاهوت عبر مقولته الشهيرة "لقد ظهرت الداروينية وفعلت –تحت قناع العدو- فعل الصديق".

ويشير مور إلى أن الخلق الإبداعي لله موجود في كل شيء مؤكدا أنه "لا انفصال في العمل بين الله والطبيعة، أو الله والقانون، فبالنسبة لعلماء اللاهوت المسيحي حقائق الطبيعة هي من فعل الله".

وبهذه الطريقة رد العديد من اللاهوتيين في القرن التاسع عشر على نظرية داروين. أما اليوم، فتبدو نظرية التطور والارتقاء أكثر اكتمالا مما كانت عليه في عصر داروين، لكن يبقى السؤال ما إذا تعني هذه الكلمة في الوقت الحاضر.

التطور عملية تنتج عن تغييرات موروثة لدى الفصائل الحية الممتدة على مدى عدة أجيال وذلك عن طريق المورثات (الجينات).

وبالتالي عندما يقول علماء البيولوجيا إنهم رصدوا تطورا ما، فهم يقصدون أنهم اكتشفوا تغيرا في تواتر المورثات في فصيلة حية. لذا يمكننا اختصار عملية التطور في ثلاث عبارات قصيرة وهي: تحول (تبدل) المورثات لتنتج تنوعا ما، واختيارا لأفراد، تطور النوع.

ولكي تتم عملية التطور لابد أن توجد آليات لزيادة التبدل الجيني وآليات لحصرها وتحديدها.

وهناك عشر آليات على الأقل تضمن تحول الجينات وتكاثرها, ولعل من أهم هذه التبدلات في التطور الإحيائي هي تلك التي تستند على تبدلات في مواقع السيطرة المعتادة في الخارطة الوراثية التي تتحكم في تعطيل وتشغيل الجينات ومتى يتم ذلك.

وأفضل آلية معروفة لتقليص التحول أو التحول الجيني (الطفرة الإحيائية) هي الانتخاب الطبيعي الذي يتم من خلاله اختبار عمل كل سلسلة وراثية داخل الكائن الحي بالتأكد من كيفية نجاح ذلك الكائن في نقل المجموعة الخاصة من تبدلاته الوراثية إلى الأجيال اللاحقة، وهي العملية التي تعرف بالتكاثر أو التوالد.

لذا ففي عملية التطور هناك أداتان تعملان سوية الأولى تولد التغييرات في التسلسل الوراثي والثانية تقوم بعملية الفرز والانتقاء (الانتخاب الطبيعي) للتغييرات التي تحدد نجاح عملية التوالد.

ومن هذا المنطلق يمكن القول إن التطور أشبه بورشة عمل عملاقة لاختبار الجينوم (أي كافة المورثات في فرد واحد) وهناك فقط سلسلة مورثات محددة تعمل فعليا على ظهر هذا الكوكب بأنواع معينة من الخصائص وبأنواع معينة من البيئة.

"
لا يوجد شيء عشوائي بخصوص التطور، بل هو عملية عالية التنظيم يتم فيها تنظيم احتياجات كائن ما بحسب البيئة التي يوجد فيها
"

وبالتالي يرى المؤمنون بوجود الله –وأنا منهم- أن هذه الآليات التطورية هي عملية خلاقة اختارها الله لاستحضار التنوع البيولوجي إلى دائرة الوجود.

وكما هو الحال بالنسبة للتصاميم البشرية أو الكتابات التي تستغرق وقتا طويلا من العملية الفنية، كذلك -وعلى نطاق أوسع- يمكن للإبداع الرباني أن يأخذ وقتا طويلا بالمقاييس البشرية.

طبعا وبكل تأكيد، لو أراد الله لخلق كل الأشياء في الحال، لكنه جل جلاله أخرج الأشياء إلى الوجود في إطار عملية إبداعية صبورة، وهذه العملية هي التي يعكف العلماء على وصفها.

وعلى هذا الأساس باستطاعتنا أن نفكر في عملية الخلق ضمن روايتين متكاملتين، الأولى تختص بالإجابة على السؤال التالي "كيف خلق الله الأشياء"؟ وهو سؤال يسعى علم البيولوجيا للإجابة عليه عبر آليات التطور والنشوء.

أما الرواية الثانية فتتصل بالسؤال الذي يقول "لماذا خلق الله كل هذا"؟ وتقع إجابته خارج حدود العلم إلا ما كشفه الله أو عرفه الدين.

والنقطة الأهم في كل ذلك أننا لا نرى في هاتين الروايتين أي تعارض أو تناقض بل نحن بحاجة لهما معا.

من جهة أخرى، هناك بعض الملحدين -وبالتأكيد بعض المؤمنين بوجود الله- من يقول بأن عملية التطور لا تتفق مع عملية الخلق، لكني سأقدم ثلاث طرق مختلفة يتبين من خلالها أن نظرية التطور تتفق تماما مع فكرة الله الخالق الذي أتى بكل الأشياء إلى الوجود لأهداف وغايات محددة.

وأولى هذه الطرق هي تلك التي تتصل بالحقيقة الواضحة لسهم الزمن التطوري، المرتبط بالزيادة الملفتة للتعقيد البيولوجي. فهناك دليل قوي على وجود الحياة قبل 3.5 مليارات سنة.

وخلال مليارين وخمسمائة سنة الأولى من الحياة على سطح الأرض، نادرا ما كانت الأشياء تزيد عن مليمتر واحد عرضا، أي ما يعادل حجم رأس القلم.

لم تكن هناك حيوانات ولا نباتات، لكن على المستوى الجيني كان الشيء الكثير الذي يجري هناك مع وجود جيل من أغلب المورثات التي استخدمت لاحقا لبناء كائنات أكبر وأكثر أهمية مما نراه في محيطنا اليوم.

وفي الوقت ذاته كانت معدلات الأوكسجين في الغلاف الجوي آخذة بالزيادة وصولا إلى النقطة التي أصبح فيها بمقدور أشكال معقدة من الحياة الاستمرار والبقاء.

ونحن لا نرى -إلا فيما يعرف باسم الانفجار الكامبري الذي وقع قبل نصف مليار عام- الطحلبيات والإسفنجيات قد نمت لتبلغ حجما يعادل من 5 إلى 10 سم، كما بدأ حجم الحيوانات بالزيادة بشكل كبير منذ ذلك التاريخ، وحتى اليوم نرى مخلوقات مثل أنفسنا بأدمغة بالغة التعقيد تعتبر من أكثر الكائنات تعقيدا في الكون.

بالتالي لو وقفنا ونظرنا إلى تاريخ التطور ككل، لا يمكننا الهروب من فكرة التطور والارتقاء، إذ لا يمكن لأحد أن ينكر النمو الهائل في التعقيد الحاصل خلال مسيرة التاريخ التطوري.

فكما هو واضح، الفأر أكثر تعقيدا من البكتيريا وحيدة الخلية، لكن وبالتأكيد فإن الإنسان يتجاوز بتعقيداته الفأر، أي أن التاريخ التطوري هو قصة التعقيد المتزايد.

ثانيا إن التاريخ التطوري هو قصة الالتقاء الذي يشير إلى التطور المتكرر في السلالات البيولوجية المستقلة من نفس المسار البيو-كيميائي، أو البنية أو التركيب.

فعلى سبيل المثال، تطورت نماذج مختلفة من العيون أكثر من 20 مرة بشكل منفصل خلال مسار التطور.

فإذا كنت تعيش على كوكب يتناصفه النور والظلام، فأنت بالتأكيد تحتاج إلى عينين، وبالتالي حتى لو كانت العين معقدة التركيب، فهي تواصل الظهور بشكل متكرر عبر التاريخ التطوري.

وانطلاقا مما سبق، لا يوجد شيء عشوائي بخصوص التطور، بل هو عملية عالية التنظيم يتم فيها تنظيم احتياجات كائن ما بحسب البيئة التي يوجد فيها.

"
الله اختار بإرادته المطلقة أن ينفذ مشيئته والغاية التي وضعها للوجود عبر استحضار كل الأشياء الحية في سياق عملية تطورية طويلة، وإذا كان الله شاء لكل الأشياء الحية –بمن فيها نحن- أن توجد بهذه الطريقة، فمن نكون نحن لنعارض مشيئته؟
"

ويمكننا أن نتخيل مساحة التصميم في عملية التطور كشبكة من مليارات الصناديق الحمراء يمثل كل صندوق فيها مادة وراثية محتملة تتضمن تعليمات البناء الموجودة في الحمض النووي الريبي (دي إن أيه) الذي يستخدم لتشكيل كائن حي.

ويتضح لنا أن عددا قليلا من هذه المادة الوراثية -من أصل المواد الأخرى المحتملة- هو الذي يساهم في توليد الكائنات التي يمكنها أن تنمو وتتكاثر في بيئات مختلفة على سطح الأرض، في الوقت الذي تواصل فيه العملية التطورية "العثور" على هذه المورثات بشكل متواتر عبر عملية الالتقاء.

أما الوجه الثالث للتاريخ التطوري الذي يتفق تماما مع فكرة الخلق الرباني فهو ذلك التصميم الرائع في بنى المادة الوراثية. فالجدول الدوري للعناصر الكيمائية طريقة معروفة للجميع تصنف 117 عنصرا كيميائيا مكتشفا.

والعناصر الضرورية لبناء الأشياء الحية مثل الكالسيوم والصوديوم والأوكسجين والبروتين كلها ظهرت في لحظات احتضار النجوم المنفجرة، ثم تبعثرت في أرجاء الكون. وإذا كان هنالك نوع من الحياة على الكواكب الأخرى في مجرات أخرى، فإنه من المحتمل جدا أن تكون شبيهة بالحياة على كوكب الأرض استنادا إلى نفس التركيبة من عناصر البناء الكيميائي.

فمن هذه العناصر الكيميائية الأساسية تأتي الحجارة التي تبني الكائنات الحية، ولنأخذ على ذلك مثالا واحدا.

دعونا نفكر في البروتينات العنصر الكيميائي الذي يدخل في تركيبة وعمل جميع الكائنات الحية، مع العلم أن البروتينات تتألف من عشرين حمضا أمينيا مختلفا تتألف بدورها من عناصر كيميائية مثل الكالسيوم والصوديوم والأوكسجين. كما أن البروتين الواحد قد يحتوي على مئات الأحماض الأمينية.

واستنتاجا لما سبق، فإن العدد المفترض للبروتينات المختلفة كبير جدا، إذ تصور بروتينا يحتوي مئة من عشرين حمضا أمينيا مختلفا موزعة بشكل عشوائي، أي أنه بالإمكان الحصول على بلايين من البروتينات المختلفة.

وهذا يقودنا للحديث عن انبهار العلماء عندما اكتشفوا مؤخرا أنه لو نظرت إلى كل البروتينات المعروفة في العالم وتصاميمها البنيوية، لعلمت بأنه يمكن تصنيف الغالبية العظمى منها في 1400 بنية مختلفة.

أي أن الانتخاب الطبيعي انتقى -خلال التاريخ التطوري- مجموعة صغيرة جدا من بنى البروتين القادرة على أداء عمليات الحياة، وهناك لا تزال مجموعات أخرى تنتظر الاكتشاف وهي تلك التي سنراها عبر العملية التطورية.

ما أود قوله هنا هو أن هذه الطبيعة المنظمة والمنضبطة للعملية التطورية تتفق مع وجود الخالق الذي أنشأ هذا الكون وما عليه لحكمة في نفسه وقد أوضحت ذلك عبر المزايا الرئيسية لعملية التطور وهي: اتجاه التاريخ التطوري، وصولا إلى زيادة التعقيد الذي توج بالبشرية، ومن ثم الالتقاء الذي يثبت الانضباط عالي التنظيم لطبيعة العملية التطورية، وثالثا التصميم والتركيب الرائع لبنية المادة الحية.

وخلاصة القول أن الله اختار بإرادته المطلقة أن ينفذ مشيئته والغاية التي وضعها للوجود عبر استحضار كل الأشياء الحية في سياق عملية تطورية طويلة، وإذا كان الله شاء لكل الأشياء الحية –بمن فيها نحن- أن توجد بهذه الطريقة، فمن نكون نحن لنعارض مشيئته؟
__________________
معهد فراداي، كامبردج، بريطانيا

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.