مطلب الغرب أن نحد من الفكر والنسل!

مطلب الغرب أن نحد من الفكر والنسل!


يبدو أن لا علاقة تسوغ الربط بين هذين الحدين.. الحد من الفكر والحد من النسل، بل يمكن عدهما متباعدين على نحو قد لا يبرر هذا التوليف بسهولة، إذ ينتمي سؤال الحد من النسل إلى إشكالية سكانية ترتكز على رؤية مالتوسية للعلاقة الجدلية بين الثروة والسكان، في حين أن الحد من الفكر قضية تنتمي إلى حقل الثقافة وما يرتبط بها من أسئلة التقليد والتجديد.

هذا صحيح، بيد أن الوصل بين هذين الحدين آت من ناظم مشترك نضعه منطلقا للتفكير والتوليف بينهما وهو الموقف الغربي من الآخر، حيث نعتقد أن المنطق الذي يحكم الموقف السياسي الراهن للغرب في علاقته مع الثقافات والحضارات المختلفة معه ليس فقط منطق التهميش، بل تجاوزه إلى الحد من الوجود أيضا، وضمن خطة الحد من الاستمرارية والوجود يأتي الحد من النسل والفكر ليشكلا معا مدخلين يتكاملان في إنجاز الإستراتيجية الغربية.

"
الحد من النسل والفكر يشكلان معا مدخلين يتكاملان في إنجاز الإستراتيجية الغربية, فالحد من النسل ترجمة لضيق الغرب من الوجود البيولوجي للآخر، والحد من الفكر هو بالضبط ترجمة لضيقه من وجوده الثقافي
"

فالحد من النسل ترجمة لضيق الغرب من الوجود البيولوجي للآخر، والحد من الفكر هو بالضبط ترجمة لضيقه من وجوده الثقافي.

إن الغرب رغم لغطه الكثير بشعارات التعددية والقبول بالاختلاف، هو في نهجه السياسي وتجربته التاريخية، يسكنه نزوع نحو محو الاختلاف وإلغاء التعددية والتأسيس للهيمنة والتنميط. ذلك لأن الحضارة الغربية تأسست منذ زمنها الإغريقي والروماني على وهم الاستعلاء العرقي، والنظر في صيرورة تاريخها يخلص إلى أن هذا الوهم ظل ملازما لها في مختلف اللحظات، منذ فكرة أرسطو عن السيد الإغريقي، ومنذ قانون "المواطنة" الروماني، حتى فكرة التفوق الآري في الفكر الفلسفي الغربي المعاصر.

فالحضارة الغربية لا ترتكز فقط على الاعتقاد بعلو فكرتها أو رسالتها، بقدر ما ترتكز على استعلاء أصلها العرقي! وهذه الرؤية الاستعلائية القائمة على فكرة أفضلية العرق لا نجدها تتداول على الهامش، أو في التيارات اليمينية الساذجة فقط، بل حتى على مستوى النخب، بدءا من التنظير لها مع جوبينو ورينان وانتهاء بصانع القرار السياسي الغربي اليوم.

وفكرة الحد من النسل رغم التغليف الاقتصادي والاجتماعي الذي تقدم به تختزن في العمق هذا اللاشعور العرقي الدفين. ولست هنا بصدد نقد إطلاق النسل ولا نقد الحد منه، فليس هذا موضوع مقالنا، وإنما القصد هو الكشف عن الهدف الذي يسكن الرؤية الغربية ويوجه مشروعها السكاني ورؤيتها الإستراتيجية لكوكب الأرض.

فالغرب يدرك أن الإنسان الغربي الأبيض حيوان في طور الانقراض، لذا يعمل على حفظ استمراريته بكل ما يمكن من وسائل، مع العمل على انقراض غيره بالحد من تناسله وتوالده.

ومن هنا نفهم بعض المواقف التي تبدو حاملة لمفارقة بينما هي في الأساس منسجمة تماما مع ذاتها، من حيث الرؤية الإستراتيجية التي تؤسسها، لأنها أصلا لا تنطلق من مبدأ بل من رؤية متمركزة حول الأنا، مثل رؤية الرئيس الأميركي جون كينيدي الذي كان من أشد المعارضين لخطة "تنظيم الأسرة" داخل الولايات المتحدة، لكنه في ذات الوقت كان من أكبر المدافعين عن تطبيقها في دول العالم الثالث.

"
رغم الانتقادات الكثيرة التي هزت مصداقية رؤية مالتوس الاقتصادية, فإنها لم تدفع الغرب على مستوى خططه السياسية وإستراتيجيته الاقتصادية لأن يعيد التفكير في أنماطه الإنتاجية القائمة على اختلال وظلم التوزيع
"

إن هذه المواقف صادرة في الأصل عن عقيدة الاقتصاد السياسي الحداثي الذي قام منذ طبعته المالتوسية على بلورة فوبيا وجود الآخر، حيث قدم مالتوس في القرن التاسع عشر تنظيرا في غاية الاختزال لمشكلة الندرة، منتهيا إلى أن سببها راجع إلى أن سكان الأرض يزيدون وفق متوالية هندسية في حين تزيد الموارد وفق متوالية حسابية.

ورغم الانتقادات الكثيرة التي هزت مصداقية هذه الرؤية المالتوسية، فإنها لم تدفع الغرب على مستوى خططه السياسية وإستراتيجيته الاقتصادية لأن يعيد التفكير في أنماطه الإنتاجية القائمة على اختلال وظلم التوزيع، فيعي أن أهم سبب لمشكلة الغذاء هو نهبه لشعوب الأرض وفرضه أنماطا إنتاجية وتوزيعية غير عادلة.

وإذا رجعنا مثلا إلى النصوص المؤسسة للسياسة الأميركية تجاه إشكالية النسل، أقصد الوثائق الثلاث التي تم رفع السرية عنها مؤخرا وإخراجها للتداول العلني، تلك التي كتبها هنري كيسنجر وبرنت سكوكرفت بين عامي 1974 و1976 حيث كانت الوثيقة الأولى وعنوانها "مذكرة دراسة الأمن القومي" تهدف إلى تحديد أثر النمو الديمغرافي العالمي على أمن ومصالح الولايات المتحدة الأميركية. أما الوثيقة الثانية وعنوانها "مذكرة قرار الأمن القومي" فتهتم بوضع السياسات العملية لمواجهة الخطر الذي تم تشخيصه في الوثيقة الأولى، في حين كانت الوثيقة الثالثة وعنوانها "التقرير السنوي الأول" تشخيصا وتقويما لمدى نجاح تلك السياسات العملية..

أقول: بالرجوع إلى هذه الوثائق الثلاث، نلاحظ أنها كلها تقوم على النظر إلى أن تمدد وتوسع الوجود البيولوجي للشعوب الأخرى تهديد للوجود الأميركي والغربي عامة، وبالتالي تجب معاملته بوصفه "خطرا أمنيا".

إن الرغبة في الحد البيولوجي للشعوب الأخرى يرافقه حد آخر على المستوى الثقافي، فإذا كان تحديد النسل تحركه إرادة داروينية لبقاء الغرب مسيطرا ومتمتعا بثروات الأرض، فإن هناك أيضا رؤية تنميطية تستهدف الحد من التنوع والاختلاف الثقافي، يصل إلى حد إلزام الشعوب بتغيير ثقافاتها وتبديل مناهجها في التفكير والاعتقاد والقيم.

فالغرب لا يقدم ثقافته ورؤيته للحياة كأحد المنظورات الممكنة، بل يقدمها بوصفها المنظور الوحيد الذي يجب أن يسود الأرض ويهيمن عليها. وهو قصد يتم العمل على تجسيده بمختلف الأساليب الملزمة بدءا بالترغيب وانتهاء بالترهيب.

"
نقد سياسة الهيمنة الثقافية الغربية لا يعني الدعوة إلى الانغلاق والجمود على مألوفنا في التفكير والعيش، بل لا بد من الانتباه إلى أننا في أمس الحاجة إلى تجديد طرائق تفكيرنا وحياتنا
"

وكمثال فقط على أسلوب الإلزام نشير هنا إلى أن البنك الدولي لم يعد -بل لم يكن يوما- مجرد مؤسسة للقرض، بل مؤسسة تتنطع إلى نمذجة وعي العالم بأكمله! حيث لا يقتصر على وضع شروط زمنية لأداء وسداد قروضه، بل يطالب فضلا عن ذلك بإنجاز مجموعة من التغييرات الثقافية التي تصل حد المناداة بتبديل جذري في المفاهيم التعليمية والقيم الاجتماعية.

وختاما لابد أن أقول حتى لا يساء فهم القصد من هذه السطور.. إنني بتركيزي هنا على نقد سياسة الهيمنة الثقافية الغربية لست أدعو إلى الانغلاق والجمود على مألوفنا في التفكير والعيش، بل لا بد من الانتباه إلى أننا في أمس الحاجة إلى تجديد طرائق تفكيرنا وحياتنا، لكن هذا التجديد كي يكون فاعلا حقا لا ينبغي أن يكون محض استنساخ للتجربة الغربية، ولا أن يكون نتاج إلزام من قبلها.

وكذلك الشأن بالنسبة لإشكالياتنا الديمغرافية، فلابد من اعتماد مقاربات تستجيب لمصالحنا نحن وتنسجم مع رؤانا وقيمنا الذاتية، لا لأجندة الآخر وأهدافه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.