في المصالحة بين قبيلتي فتح وحماس

في المصالحة بين قبيلتي فتح و حماس


كيف فشلت القاهرة في ترتيب المصالحة؟
ماذا تضمنت الورقة المصرية؟
أين يكمن الخلاف الحقيقي؟

ليس الخلاف بين فتح وحماس -الذي كان من ثماره المُرة مؤخرا فشل حوار القاهرة- مجرد اختلاف حول قضايا شكلية، إنما الخلاف اليوم بينهما يبلغ مرتبة جذرية، حيث يمس الرؤية إلى القضية الفلسطينية في جملتها.

إنهما مشروعان متباينان في مقاربة الإشكال الفلسطيني وكيفية التعاطي معه. مشروعان لا يقسمان الفصائل الفلسطينية فقط، بل يقسمان أيضا الأطراف العربية ذات النفوذ على الوسط الفلسطيني وفصائله وتنظيماته. ومن ثم فالمصالحة لن تتحقق إلا بالبحث عن صيغة لتركيب وجهات النظر على نحو يضمن إعادة بناء وحدة الجسم الفلسطيني.

كيف فشلت القاهرة في ترتيب المصالحة؟
كما أنه من التسيب في التحليل الظن بأن مسؤولية فشل الحوار ترجع إلى مصر وحدها، فليس من مصلحة القاهرة أن يفشل مشروع رغبت وسعت في الاشتغال فيه طيلة شهور، لأنها تدرك أن الفشل يلحقها هي أيضا ويلحق مكانتها الدبلوماسية، خاصة في ظل وجود تنافس عربي على ريادة الدور الدبلوماسي الإقليمي من حيث القدرة على استحضار الفرقاء العرب وحل خلافاتهم. وهو الدور الذي تتجاذب قيادته اليوم ثلاث دول هي مصر وقطر والسعودية.

لكن مع هذا لا بد من الإقرار بأن الراعي المصري مسؤول عن مقدار من الفشل في ترتيبه للحوار. فإذا راجعنا صيرورة مشروع المصالحة ونظرنا في كيفية اشتغال مصر سنلاحظ أنه إلى حدود إصدارها لورقتها، كان ترتيبها للقاء الفلسطيني يسير وفق أجندة منتظمة منضبطة.

بدأت مصر بمسح استطلاعي لمختلف التنظيمات والفصائل الفلسطينية، يهدف إلى الوقوف مباشرة على وجهات النظر وتحديد جوانب الاختلاف وسقف المطالب، لإبصار المسافات الوسطى الممكن إيجادها بين الفرقاء، ثم انتقل إلى توسيع مدى اللقاء بوضع خمس قضايا للحوار.

"
يبدو أن الظرف الراهن الذي تمر به المشكلة الفلسطينية، والتباعد الكبير بين ما سماه البعض بقبيلتي فتح وحماس، يصعب أن يعالج براع واحد يتهم من طرف بأنه ليس محايدا
"

ثم فجأة وقبيل عقد اللقاء الحاسم أعلنت مصر عن ورقة عنونتها بـ"المشروع الوطني الفلسطيني". وقد ظنت التنظيمات الفلسطينية أن الورقة المصرية هي المسودة الأولية للاتفاق، لذا قامت بكتابة ملاحظاتها واستدراكاتها على الورقة وتسجيل مطالب، ثم ازداد الأمر تعقيدا عندما أعلنت القاهرة على نحو غير رسمي أن الورقة نهائية وغير قابلة للتغيير أو التعديل، فصارت الورقة المصرية مشكلا بدل أن تكون جزءا من الحل.

هل أخطأت مصر في أسلوب إدارتها للحوار بإخراج تلك الورقة؟ أم إن السبب يرجع -حسب تلميحات القاهرة- إلى تدخل طرف عربي أسهم في إفشال الحوار رغبة منه في عدم انفراد مصر بالملف الفلسطيني؟

سواء كان الأمر هذا أو ذاك، فإن ما تلا ذلك يؤكد ارتباك الراعي المصري. ولا أدل على ذلك من تسريبه لخبر يفيد بأنه تخلى عن الورقة، بعد أن كان حفيا بها ورافضا لإجراء أي تعديل عليها.

يبدو أن الظرف الراهن الذي تمر به المشكلة الفلسطينية، والتباعد الكبير بين ما سماه البعض بقبيلتي فتح وحماس، يصعب أن يعالج براع واحد يتهم من طرف بأنه ليس محايدا. لذا كان لا بد لمصر من التفكير جديا في الاستعانة بقوى عربية أخرى لها ثقلها وتأثيرها في الأطراف الفلسطينية، كسوريا مثلا.

ومعلوم أنه بعد إصدار الورقة المصرية اجتمعت في دمشق الأطراف الفلسطينية المخالفة لخط فتح/أبو مازن (حماس، الجهاد، الجبهة الشعبية القيادة العامة، الصاعقة) ، واتخذت قرار مقاطعة لقاء القاهرة.

ماذا تضمنت الورقة المصرية؟
لنقتطف منها أهم بنودها:
* تشكيل حكومة توافق وطني ذات مهام محددة تتمثل في رفع الحصار وتسيير الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، والإعداد لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة والإشراف على إعادة بناء الأجهزة الأمنية.

* إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية على أسس مهنية ووطنية بعيدا عن الفصائلية.

* إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة في توقيت متفق عليه.

* تطوير وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

* الحفاظ على التهدئة في الإطار الذي توافقت عليه كافة الفصائل والقوى الفلسطينية خلال اجتماعاتها بالقاهرة يومي 29 و30/4/2008.

* الاتفاق على تشكيل اللجان التي تتولى مهمة بحث التفصيلات المطلوبة وآليات عملها، لوضع ما يتم التوصل إليه موضع التنفيذ، وذلك في إطار معالجة كافة قضايا الحوار والمصالحة (لجنة الحكومة، لجنة الانتخابات، لجنة الأمن، لجنة منظمة التحرير، لجنة المصالحات الداخلية) على أن تبدأ هذه اللجان عملها بعد انتهاء اجتماعات الحوار الشامل المباشر.

"
الوسيط المصري حرص على استعمال لغة متوازنة، فقد تجنب مثلا صيغة المبادرة اليمنية ولم يشر إلى وجوب إعادة وضع قطاع غزة إلى ما كان عليه قبل 14يونيو/حزيران عام 2007، واكتفى بالتأكيد على وحدة الأراضي الفلسطينية وعدم القبول بتجزئتها
"

* اتفقت جميع الفصائل وقوى الشعب الفلسطيني على أن إدارة المفاوضات السياسية هي من صلاحية منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الفلسطينية.

هذا في تقديري من أهم البنود التي تضمنتها الورقة المصرية، وبالنظر فيها يتبين أن الوسيط المصري حرص على استعمال لغة متوازنة، فقد تجنب مثلا صيغة المبادرة اليمنية، فلم يشر إلى وجوب إعادة وضع قطاع غزة إلى ما كان عليه قبل الرابع عشر من يونيو/حزيران عام 2007 (أي قبل الحسم العسكري لحماس)، بل اكتفى بالتأكيد على وحدة الأراضي الفلسطينية وعدم القبول بتجزئتها.

كما حرصت الورقة على التوازن في استحضار المرجعيات الحوارية السابقة، فإرضاء لحماس أشارت إلى اتفاقية مكة، وإرضاء لفتح أشارت إلى مبادرة عباس.

وفيما يخص المقاومة حرصت الورقة على الاقتراب من سياسة فتح، فاشترطت أن تكون المقاومة في "إطار التوافق الوطني".

وهذا الاقتراب أيضا ملحوظ في الفقرة الخاصة بالأجهزة الأمنية. لكن في الفقرة المخصصة للحكومة حرصت الورقة المصرية على عدم التصريح بوضوح، مكتفية بتعبير "حكومة التوافق الوطني" دون النص على طبيعتها (هل تتشكل على أساس تكنوقراطي أم فصائلي أم جمعا بينهما؟). بينما الوثيقة الأولى لعمر سليمان كانت تنص على حكومة توافق وطني انتقالية غير فصائلية، وهو ما رفضته حماس بدعوى أن "لا وجود لمستقلين في صفوف الشعب الفلسطيني".

وإذا كانت فقرة الحكومة قد راعت مطلب حماس فإن الفقرة المخصصة للانتخابات كانت أقرب إلى موقف فتح، حيث لم تشر إلى القانون الأساسي الذي تعتمد عليه حماس لإعلان نهاية ولاية عباس في 9/1/2009، بل ذهبت أكثر من ذلك وهو النص على إجراء "انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة".

وعلى المستوى التنظيمي كانت الورقة المصرية حريصة على ضبط لغة متوازنة بين الطرفين، فعند حديثها عن منظمة التحرير الفلسطينية لم تستعمل تعبير حماس (إصلاح منظمة التحرير)، بل استعملت عبارة "تطوير وتفعيل منظمة التحرير".

وإذا كان استحضار الورقة المصرية لهذا البند مخالفا لمطلب عباس الذي رغب في تأجيله، فإنها في المقابل حرصت على عدم تحديد جدول زمني لإنجاز هذا التطوير والتفعيل، وهي بذلك رفضت مطلب موسى أبو مرزوق الذي حدد أجل شهرين من انتهاء الحوار للبدء في إصلاح المنظمة.

وفي ملف المفاوضات كانت الورقة آخذة بموقف فتح، حيث أرجعت صلاحية إدارة التفاوض مع إسرائيل إلى رئيس السلطة ومنظمة التحرير.

"
الوسيط الناجح هو إما أن يقف في الوسط، فيحس طرفا الحوار أنهما لو اقتربا منه فإنهما سيقفان في منطقة وسطى, وإما أن يكون ذا ثقل يجعله قادرا على الضغط على طرفي الحوار أو أحدهما, ويبدو أن الراعي المصري لا يتوفر على الصفة الأولى ولا على الثانية
"

وبصرف النظر عن لغة الورقة، فإن حماس تشعر بأن مصر لا تتوفر على صفة الوسيط المحايد، ومؤشرات ذلك عديدة، آخرها ما لحق فشل المصالحة من اتهام وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط حماس بعرقلة حوار القاهرة. وقبلها إعلان رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشعب المصري مصطفى الفقي أن مصر "لن تسمح بقيام إمارة إسلامية على حدودها الشرقية".

إن الوسيط الناجح هو إما أن يقف في الوسط، فيحس طرفا الحوار أنهما لو اقتربا منه فإنهما سيقفان في منطقة وسطى تقربهما من بعضهما دون أن يخسر أحدهما موقعه أو يلغيه.

وإما أن يكون الوسيط ذا ثقل يجعله قادرا على الضغط على طرفي الحوار أو أحدهما فيرغمه على التنزيل من سقف مطالبه. ويبدو أن الراعي المصري لا يتوفر على الصفة الأولى ولا على الثانية، فهو في نظر حماس ليس محايدا. كما أنه لا يملك الثقل الكافي للضغط عليها.

صحيح إن سلطة حماس لم يعد لها سوى رئة واحدة هي معبر رفح المتنفس الوحيد لمليون ونصف المليون فلسطيني محاصر في غزة. لكن أسلوب حماس في تسييرها لمشكلات القطاع لا يقوم على تقديم تنازلات في سبيل رفع الحصار. فهي تحسب أن تلك الآلام مجرد جزء من التضحيات التي قدمها وسيقدمها الشعب الفلسطيني من أجل تحرره.

لذا فالضاغط الحقيقي لا يتوفر إلا بدخول طرف آخر ينضاف إلى مصر ليكون ثمة توازن فعلي في الوساطة كالطرف السوري مثلا. لكن ما رشح من خلاف بين مصر وسوريا، واتهامات ضمنية يؤكد بحد ذاته أنهما هما أيضا قد يحتاجان في القريب إلى عقد لقاء مصالحة.

أين يكمن الخلاف الحقيقي؟
ليس الخلاف فقط على إرادة الهيمنة والتفرد من قبل فتح، وليس سببه هو تشبث حماس بكرسي السلطة في غزة مهما كان الثمن المدفوع، وهو الثمن الذي لفداحته قد يؤول في النهاية إلى ضرب شعبية حماس ذاتها. إنما الخلاف يكمن جوهريا في وجود تصورين رئيسين للمشكلة الفلسطينية، وطبيعة الخيارات المطلوب انتهاجها في التعاطي مع إسرائيل.

لذا فالمصالحة الحقيقية لا ينبغي أن تطلب في حدود آنية، بل لا بد من انطلاق حوار فلسطيني شامل يعيد النظر في مسلسل أنابوليس، وبنية منظمة التحرير الفلسطينية وطبيعة دور المجلس الوطني من أجل إفراز صيغة ديمقراطية لتصريف الخلاف الفلسطيني.

ثم إن المعالجة الفعلية للمشكلة الفلسطينية تحتاج من جميع الأطراف مراجعة مواقفها وتجديد رؤيتها لطبيعة الصراع وأدواته:

"
لأن التغيير في الرؤى السياسية يكون بطيئا على صعد الواقع فإن المرتقب ليس سوى مزيد من الغطرسة الإسرائيلية، والتواطؤ الأميركي، مع انشغال قبيلتي فتح وحماس بمعارك بينية صغيرة في بواعثها، كبيرة في حجم آلامها، تماما كتفاهة أسباب حرب داحس والغبراء
"

تحتاج فتح إلى تجديد ذاتها، والتقليل من حجم أوهامها التاريخية، فقد ذهب زمن الممثل الواحد والوحيد للشعب الفلسطيني. وتحتاج حماس إلى التمييز بين كرسي السلطة والتزاماتها الاقتصادية والسياسية تجاه ناخبيها، وبين المقاومة وجنودها وأجندتها.

وتحتاج الدول العربية إلى تفعيل مؤسسة الجامعة العربية، وإعطائها صفة مؤسسية تكون قادرة على ممارسة دور الوسيط العربي لحل الخلافات، والتقريب بين الأطراف المتنازعة.

وبما أن القضية الفلسطينية مرتهنة في الجانب الآخر بإسرائيل، فلا سبيل للضغط عليها إلا من طرف الولايات المتحدة الأميركية. وهي أيضا قد تخلفت عن تجديد سياستها الخارجية تجاه المنطقة. فلا تزال أميركا تحلل منطقة الشرق الأوسط بذات الأسلوب الذي حللته به في زمن الحرب الباردة، خلال تنافسها مع الاتحاد السوفياتي.

فتظن أن إسرائيل نقطة ارتكاز ضرورية لحفظ مصالحها في المنطقة، وأن أمن المصالح الأميركية مضمون بما يمكن أن توفره إسرائيل وساحلها البحري من تسهيلات للوجود العسكري الأميركي.

بينما التسهيلات لوجودها العسكري اليوم متوفرة في مختلف البلدان العربية، ومصالحها مع الدول العربية أكثر عمقا واتساعا. لكن رغم كل ذلك لا يزال العقل السياسي الأميركي سجين تصوراته الموروثة عن حقبة تغيرت معطياتها وتبدلت بشكل كبير.

ولأن التغيير في الرؤى السياسية حتى إن حصل على المستوى النظري، يكون بطيئا في تنزيله على صعد الواقع فإن المرتقب ليس سوى مزيد من الغطرسة الإسرائيلية، والتواطؤ الأميركي، مع انشغال قبيلتي فتح وحماس بمعارك بينية صغيرة في بواعثها، كبيرة في حجم الآلام التي تثيرها، تماما كتفاهة أسباب حرب داحس والغبراء وعظم حجم آلامها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.