نحن والغرب.. تحليل للعلاقة وتحديد مكامن النقص

نحن والغرب.. تحليل للعلاقة وتحديد لمكامن النقص

 

الهدف من هذا المقال تحليل هذه العلاقة الصراعية التي تسود جدلنا مع الآخر/ الغرب، وبيان أوجه ومكامن النقص التي تحكم الرؤى والأفكار والأذواق. وذلك بقصد الدعوة إلى بناء منهجية جديدة في قراءة الحضارة الغربية، تقوم على معايير علمية ولا ترتهن إلى هيجان الانفعال.

أعتقد أن الحضارات في عمومها أنساق مغلقة، ولذا فهي لا تأخذ من بعضها عن طواعية واختيار، بل لا تأخذ إلا اضطرارا مع كثير تردد وشديد ممانعة.

"
عندما تنتقل الأمة من حالة الانهزام العسكري إلى حالة الانهزام النفسي، لا يبقى الصراع الفكري بين الأمة المغلوبة والأمة الغالبة فحسب، بل تنتقل المعركة إلى داخل كيان الأمة المغلوبة نفسها
"

ومن الطبيعي أن تكون الأفكار والعقائد آخر الحلقات تأثرا وأكثرها تمنعا، فالفكر والعقيدة خاصة؛ لأنها من حقل المقدس أكثر تجذرا في نفسية الشعوب من الأشياء والمظاهر.

ولذا لا يبدأ الفكر الدخيل بالتغلغل والانتشار الفعلي في واقع الأمة المغلوبة إلا بعدما تحصل الهزيمة النفسية التي تتلو في العادة الهزائم العسكرية الكبرى.

وعندما تنتقل الأمة من حالة الانهزام العسكري إلى حالة الانهزام النفسي، لا يعود الصراع الفكري بين الأمة المغلوبة والأمة الغالبة فحسب، بل تنتقل المعركة إلى داخل كيان الأمة المغلوبة نفسها، لأن الغلبة عندئذ تكون قد تجاوزت الناحية العسكرية إلى الناحية النفسية، فأنشأت أفرادا وفئات مسلوبة الوعي والسلوك.

ومن الملاحظ أن الفكر الدخيل يتموضع في البداية في الفئات الأكثر قربا واتصالا بالغالب ومعايشة له.

ومع تمكن ظاهرة الاستلاب -أي استقرار الفكر الدخيل في عقول ووجدان آحاد وجماعات من كيان الأمة- لا تعود جغرافية الصراع ملحوظة التضاريس والأبعاد بين أنا ممايز عن الآخر، كما هو الحال في الصدام العسكري، لأن الغالب لم تعد تفصله عن الأنا المتاريس والحواجز والخنادق العسكرية، بل أصبح الآخر يسكن الأنا داخلياً بما استلب من أفراد وفئات.

وفي هذه الحالة يأخذ الفكر الدخيل في محاولة التحرر من عجمته، إذ ينتشر بلغة أهل البلد وتحت أسمائهم، لأن جزءا من الأنا أصبح يحمله ويدعو له، فتقوم المعارك الفكرية وتحتشد جهود الطرفين، اتجاه الأصالة الداعي إلى الحفاظ على الخصوصية الثقافية للأنا، واتجاه الاستلاب الداعي إلى الأخذ بثقافة الآخر.

ومن البديهي أن يكون الصراع الفكري صراعا حادا، لأنه يقع في منطقة الحساسية الحضارية، أقصد في مجال الفكر والمعتقد.

ومعلوم أن للعقائد تأثيرا عميقا في نفسيات الشعوب، ولذا يشتد الجدال والصراع بين الفكر الدخيل والفكر الأصيل، صراع فيه من العاطفة وهيجان الانفعال والمشاعر أكبر مما فيه من الحوار المعرفي.

وخلال هذا الصراع تتشكل ظاهرة سلبية تحكم عموم الطرفين المتصارعين وتفقرهما إلى شروط الحوار الايجابي، حيث لا يقوم بينهما إلا حوار الطرش، ونقصد بهذه الظاهرة "الجهل المتبادل" إذ أن الطرف الذي يدعو إلى انتهاج الفكر الدخيل يكون في العادة سجين مقولات وأنساق هذا الفكر، مدمنا على الاطلاع ودرس الفكر الوافد، حتى إن فهمه لتاريخ الآخر وفكره يكون أكثر من فهمه لتاريخ أمته وتراثها وواقعها، وهكذا يصبح بحكم ألفته للفكر الأجنبي وطول تلقيه واحتذائه، عارفا بالآخر جاهلا بذاته وتراثه.

وكمقابل لهذا الجهل بالذات والتراث عند الاتجاه المستلب، يكون الاتجاه الأصيل جاهلا هو كذلك بتفاصيل الفكر الدخيل، وهكذا لا يستقيم بين الطرفين الحوار المعرفي المطلوب، لأن من أهم شروط الحوار أن تفهم محاورك.

ولكن الحاصل في الصراع الفكري بين هذين الاتجاهين هو الجهل الذي يحكم رؤية كل منهما للآخر، ولذا تنشب معارك -فكرية في ظاهرها- ولكنها عاطفية وجدانية في منطلقها ومنتهاها، فلا يحصل الحوار المعرفي، بل يتمحور الصراع على رفض الفكر قبل بحثه وفهم تفاصيله، سواء كان هذا الفكر من التراث والذات أو من الآخر الوافد.

ويبدو مبررا إلى حد كبير حصول هذا اللاحوار، لأنه جدل فكري بين عالمين متخالفين متمايزين، أو كوكبين متباعدين لكل منهما مداره واتجاهه وإيقاع سرعته وتطوره، رغم أنهما مجسدان في جغرافية مجتمعية واحدة.

"
الاحتياج إلى معرفة الشرق أثمر علم الاستشراق كحقل معرفي محدد الأدوات والمسالك المنهجية، مدفوعا بإرادة السيطرة عبر المعرفة، بينما استغرابنا لم يكن أكثر من استغراب بمدلوله اللغوي، فلم يكن من جهته مدفوعا بإرادة معرفية تنضبط لمنهج ويتم توظيفها قصدا لمعرفة الآخر من أجل السيطرة عليه
"

وعود على بدء، إن بحث التعالقات والتفاعلات الناظمة بين الأمم والحضارات ينبغي أن نميز فيه بين صيغتين: صيغة المثاقفة بما تعنيه من تبادل وتواصل وتفاعل وأخذ ومراجعة، وصيغة الاستلاب بما تعنيه من انبهار بالآخر وتقليد له.

فالصيغة الأولى هي التي تثري الأنا وتثري البشرية أيضا، وهي الصيغة المقصودة بنص القرآن الكريم (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا).

فالتعارف جدل معرفي يتناغم مع الانفتاح على الآخر ويناقض الانغلاق على الذات. ومن هنا أقول إن اتجاهاتنا الفكرية الإسلامية المعاصرة التي تنغلق على أناها الثقافي، وتتحرج من كل ما هو غربي، هي في تقديري تخالف من حيث لا تدري مبدأ التعارف المنصوص على ضرورته قرآنيا.

فخاطئ ذلك التصور المنغلق على الأنا القائل بأن لا شيء عند الغرب يستحق أن نتعرف إليه ونتعلم منه. كما هو خاطئ أيضا ذلك التصور الاستعلائي الذي يسكن الفكر الغربي منذ النزعة الهيغلية المستعلية على الآخر الشرقي، وانتهاء بالنزعة الفينومينولوجية الهوسرلية المنبهرة بأوروبا كهوية ثقافية.

إن هاتين النزعتين هما في نظري تعبير عن تمركز مغلق على الذات، بينما البشرية تحتاج دوما إلى إنصات بعضها إلى بعض.

وبالفعل عندما نحلل نتاج تفاعل فكرنا الإسلامي المعاصر مع الثقافة الغربية نلقى الكثير من الاختلالات الدالة على الانغلاق الساذج، ويكفي لتأكيد ذلك مراجعة الكتابات التي تعالج مسألة الأيديولوجيات المعاصرة أو الفكر الغربي، أو ما يسمى "الغزو الثقافي" إذ سنجد أن أغلب هذه الكتابات -إن لم نقل كلها- تظهر جهلا معيبا بالفكر الغربي وتاريخه واتجاهاته.

فلا تجد في هذه الكتابات إلا معلومات سطحية وأفكارا عامة، وانتقادات قلما تنفذ إلى العمق والصميم، فعندما ننتقد فرويد مثلا سرعان ما نرفع فكرة الليبيدو الجنسي، ونقيم الدنيا ونقعدها بكلمات وعبارات إنشائية متشنجة، ثم نخلص مباشرة إلى إعلان تهافت فرويد، هكذا بكل بساطة، وبلا حاجة إلى إحاطة شمولية بفكره وإسهاماته، وإبراز نواحي الإيجاب فيها ونواحي السلب.

وحين نأتي إلى نقد داروين سرعان ما تنتصب فكرة "القرد أصل الإنسان" فننصرف عن قراءة واعية لفكر داروين إلى نقد انفعالي لا طائل تحته. وكذلك الأمر مع دوركايم وسارتر وليفي برول وغيرهم.

فما العمل؟ وما هو المطلوب اليوم في جدلنا الحضاري مع الآخر/ الغرب؟
من الواضح أن إشكالية "الآخر" تعد من الموضوعات التي تحضر بقوة في المشهد الثقافي العربي في لحظته الراهنة، ولعل ما يؤشر على هذا الحضور الكثيف هو جملة من الإصدارات التي تترى متخذة من موضوع الآخر وإشكال التعامل معه محور التفكير والاهتمام.

وإذا كان التفكير في الآخر/ الشرق قد أثمر عند الغرب علماً خاصاً موسوماً بنعت علم الاستشراق، فلا ينبغي أن ننسى أن الوطن العربي أيضا في بداية اتصاله مع الغرب أنتج دراسات وأبحاثا اتخذت من العمران الأوروبي موضوعا لها.

في هذا السياق يقول الأستاذ بنسالم حميش في كتابه (في معرفة الآخر) "كان للإسلام أيضا مستغربوه وحتى إغرابيوه (exotes) وهم إجمالا أصناف الإخباريين وأهل الجغرافيا والرحلات والسفارات، وكانوا بنحو من الأنحاء مولعين بالغير من حيث ثقافاته ومقولاته وأنماط عيشه".

وهو بذلك يلفت إلى حقيقة قد يغفل عنها الكثيرون، وهي أن الغرب كما استشعر الحاجة إلى معرفة الآخر "الشرق" فأنتج استشراقا ومستشرقين، فإن الشرق الإسلامي استشعر الحاجة نفسها فأنتج "مستغربين".

في هذا السياق، سياق الاهتمام بالآخر/ الغرب، يمكن إدراج كتابات ابن فضلان في القرن العاشر الميلادي عن الصقالبة والخزر والروس والترك، وكتاب البيروني في القرن الحادي عشر عن الهندوس، وكتابات بن جبير عن الصقليين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وكتابات ابن بطوطة في القرن الرابع عشر عن المغول والصينيين..

كما يمكن إضافة كتابات رواد ما يسمى عصر النهضة العربية كالطهطاوي في "تلخيص الإبريز" والشدياق في كتابه "الواسطة في أخبار مالطة" والمغربي الحجوي في كتابه "الرحلة الأوروبية" وغيرهم من الذين كان الغرب الأوروبي موضوع تفكيرهم وانشغالهم.

بيد أنني أضيف أن ثمة فارقا بين استغرابنا واستشراقهم، فالاحتياج إلى معرفة الشرق أثمر عند الأوربيين علم الاستشراق كحقل معرفي محدد الأدوات والمسالك المنهجية، مدفوعا بإرادة السيطرة عبر المعرفة، مجسدا بذلك تلك المقولة الفلسفية التي تكررت في الفكر الغربي بدءا من ديكارت وفرنسيس بيكون في القرن السابع عشر إلى نيتشه نهاية القرن التاسع عشر، وأقصد بها مقولة "اعرف لكي تسيطر".

ولها في صيغتها الفرنسية إيقاعية تعبيرية سجعية جعلتها سهلة التردد على الألسن والشفاه (savoir pour pouvoir) بينما استغرابنا مع ابن بطوطة وابن جبير وكذا مع الطهطاوي والشدياق.. لم يكن أكثر من استغراب بمدلوله اللغوي كاندهاش، فلم يكن من جهته مدفوعا بإرادة معرفية تنضبط لمنهج.

"
الحاجة اليوم ماسة إلى قراءة ثقافة الغرب ومنتجاته الفكرية بالحس النقدي خاصة أن لحظتنا المعاصرة تتسم بزوال الحواجز أمام عبور الأفكار، وبهيمنة ثقافية أميركية مصحوبة بإرادة السيطرة، وفي مثل هذا المناخ المريض نحتاج إلى الوعي النقدي لنقرأ الغرب قراءة مستقلة لا قراءة تابعة منبهرة
"

فرحلات ابن جبير وابن بطوطة وابن فضلان رغم قيمتها الاثنوغرافية والتاريخية، تبقى ملحوظات وصفية استفزها الاستغراب من الاختلاف، ولم يكن الدافع إليها تأسيس حقل علمي ذي قواعد ومنهج أو حتى حقل معرفي يتم توظيفه قصدا لمعرفة الآخر من أجل السيطرة عليه.

أما رحلات الشدياق والطهطاوي والحجوي فلم تنفلت هي أيضا من منطق الاستغراب بمدلوله كاندهاش، لأنها بالأساس لم تقصد تأسيس علم، بقدر ما استهدفت الإجابة عن سؤال يكفي بصيغة طرحه أن يكشف عن عقلية الاندهاش والاستغراب التي وجهته وهو: لماذا تأخرنا وتقدم الغرب؟

هذا فارق أساسي أريد أن أبرزه بوضوح للانتقال إلى نقد اصطلاح "علم الاستغراب" لأنه اصطلاح يتداوله الباحثون والكتاب من دون انتباه إلى أنه تعبير قاصر وفاسد لا يصلح للتعبير عن طموحنا الحالي في تأسيس قراءة علمية نقدية لثقافة الغرب، وهذا الاصطلاح اشتهر به حسن حنفي، وخصص له كتابا من كتبه عنوانه "مقدمة في علم الاستغراب".

ومن خلال قراءتي لهذا الكتاب يمكن القول إن هذا النوع من الدراسات مؤشر على الانتقال من تلك النظرة الاندهاشية التي حكمت الرؤية إلى الآخر الغربي من قبل المفكرين العرب بداية عصر النهضة، لكن لا بد من الإشارة إلى أن هذا الانتقال في الرؤية لم يتحقق ابتداء مع حسن حنفي بل تحقق قبله.

فحتى داخل نصوص بعض الرواد الأوائل للنهضة العربية نجد حسا نقديا لبعض الظواهر الفكرية والاجتماعية، لكن ميزة دراسة حنفي هذه هي الوعي بضرورة إنشاء علم مخصوص يعتني بدراسة ثقافة الغرب دراسة تحليلية نقدية، في مقابل علم الاستشراق الذي وضعه الغرب لدراسة ثقافة الشرق.

لكن ثمة عيبا لم يتنبه إليه صاحب الكتاب، وهو عيب رغم كونه شكليا في ظاهره يبقى دالا على نقص بنيوي في رؤيتنا للغرب، وهو أن اصطلاح علم الاستغراب هو في صيغة طرحه يؤكد أنه حصيلة انفعال أكثر منه نتاج فعل اجتهادي إبداعي، إذ هو في نحته اللغوي مجرد رد فعل لاصطلاح استشراق، من دون انتباه إلى أن كلمة استغراب تحمل من دلالة الاندهاش أكثر مما يمكن أن نحملها إياها من دلالة علم يهتم بدراسة الغرب.

لذا كان من المفروض في مشروع يجتهد لتجاوز عقلية ردود الأفعال وسلوك الانفعال أن يبتدئ منذ البدء، أي من التسمية فيختار لنفسه اصطلاحا غير هذا.

إن الحاجة اليوم ماسة إلى قراءة ثقافة الغرب ومنتجاته الفكرية بالحس النقدي، خاصة أن لحظتنا المعاصرة تتسم بزوال الحواجز أمام عبور الأفكار، وبهيمنة ثقافية أميركية مصحوبة بإرادة السيطرة وإلزام الشعوب بتغيير عوائدها وقيمها، وفي مثل هذا المناخ المريض نحتاج إلى الوعي النقدي لنقرأ الغرب قراءة مستقلة لا قراءة تابعة منبهرة، قراءة تخلصنا من عقلية التقليد وعقلية الرفض المتشنج لأن كليهما مجرد انفعال لا يفيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.