هجوم "آكتوتون" وأسئلة تبحث عن إجابة

هجوم "آكتوتون" وأسئلة تبحث عن إجابة



-تساؤلات مشروعة
-حلقات مفقودة
-تداعيات الهجوم

الهجوم الأخير الذي استهدف مخفر "آكتوتون" الحدودي في بلدة شمدينلي بتركيا وراح ضحيته سبعة عشر جنديا تركيا بالإضافة إلى إصابة عشرين آخرين، صدم الشعب التركي وعزز المشاعر القومية في الشارع وأثار غضبا واسعا بين المواطنين.

وتكررت المشاهد التي اعتدنا رؤيتها بعد كل هجوم يسفر عن خسائر بشرية في صفوف الجيش التركي، حيث غمرت بيوت الشهداء مشاعر مختلطة، حزن وبكاء على فراق فلذات الكبد والأحباء وفخر واعتزاز بتقديم شهداء لحماية الوطن. وقال الآباء والأمهات في مراسيم تشييع أولادهم "ليعش الوطن".

ونشرت الصحف والمواقع الإخبارية قصصا تدمع لها العيون لجندي أنجبت زوجته قبل أربعين يوما فقط ولم ير ولده الرضيع وتركه يتيما، وآخر كتب وصيته وكأنه علم بمقتله، وثالث ترى أمه في منامها استشهاده قبل مقتله بليلة.

لكن الملاحظ هنا أنها المرة الأولى التي ارتفعت فيها أصوات تعارض الاستسلام للرواية الرسمية وتطالب بمساءلة المؤسسة العسكرية وتدعو إلى محاسبة المسؤولين العسكريين على فشلهم في مكافحة حزب العمال الكردستاني وتقصيرهم في اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المخفر والجنود. وأبدى الناس شكوكهم فيما إذا كان فلذات أكبادهم راحوا شهداء في سبيل حماية الوطن أو أنهم ضحايا لمؤامرة وحسابات قذرة.

تساؤلات مشروعة
وبعيدا عن المشاعر، هناك أسئلة تشغل الشارع التركي وتطرح على صفحات الصحف والمواقع الإخبارية بحثا عن إجابات لإزالة الشكوك والشبهات حول مقتل سبعة عشر جنديا في الهجوم الأخير:

* تعرض مخفر "آكتوتون"، الذي يبعد عن الحدود العراقية أربعة كيلومترات وعن الحدود الإيرانية أربعين كيلومترا، خمس مرات لهجوم كبير منذ العام 1992 وقتل فيها أربعة وأربعون جنديا. فلماذا لم تتخذ التدابير اللازمة لحمايته؟

* أعلن نائب رئيس الأركان الجنرال حسن إيغسيز في مؤتمر صحفي عقده بعد الهجوم الأخير أن خمسة مخافر حدودية بما فيها مخفر "آكتوتون" سيتم نقلها إلى أماكن أخرى. فإن كان موقع المخفر تستحيل حمايته فلماذا لم يتم تغييره إلى اليوم؟

* قالت مصادر إعلامية إن حوالي 350 مسلحا تسللوا من شمال العراق إلى الأراضي التركية ونفذوا الهجوم في وضح النهار. والسؤال المطروح: كيف عبر هذا العدد الكبير من المسلحين الحدود بأسلحة ثقيلة دون أن يراهم أحد أو تسجلهم كاميرات مراقبة الحدود؟

"
إذا كانت الولايات المتحدة التي تعلن بين الفينة والأخرى أنها تتعاون مع أنقرة في كفاحها ضد حزب العمال الكردستاني لم تقدم أي معلومات عن تحركات عناصر العمال الكردستاني قبل الهجوم الأخير، فأي تعاون هذا؟
"

* ألم تقدم الولايات المتحدة معلومات استخباراتية؟ إذا كانت الولايات المتحدة التي تعلن بين الفينة والأخرى أنها تتعاون مع أنقرة في كفاحها ضد حزب العمال الكردستاني لم تقدم أي معلومات عن تحركات عناصر حزب العمال قبل الهجوم الأخير، فأي تعاون هذا؟

* يقدر عدد عناصر قوات الأمن في المنطقة بـ240 ألف جندي و50 ألف شرطي بالإضافة إلى 60 ألف حارس قرية. وفي المقابل يقدر عدد عناصر حزب العمال الكردستاني بين 1500 و1700 مسلح في الأراضي التركية بالإضافة إلى 3500 مسلح في شمال العراق. كما أن الجيش التركي يتفوق بطبيعة الحال على المنظمة من حيث العدة والعتاد. فكيف يتلقى الجيش كل هذه الضربات الموجعة رغم تفوقه الكبير من حيث العدد والعدة والعتاد؟

* قام الجيش التركي بعمليات برية وجوية في شمال العراق لتدمير معاقل حزب العمال، حتى قال رئيس الأركان التركي السابق الجنرال ياشار بويوكانيت إن المنطقة أصبحت مكشوفة أمام الجيش التركي بحيث يراقب جميع تحركات عناصر حزب العمال الكردستاني. أفلا يثير الهجوم الأخير شكوكا وتساؤلات حول نجاح تلك العمليات والغارات ومصداقية تصريحات بويوكانيت؟

* بدأت الاشتباكات في الظهر واستمرت خمس ساعات. فلماذا تأخر الدعم الجوي؟ ولماذا لم يرجع قائد القوات الجوية الذي كان يشارك في مسابقات غولف بمدينة أنطاليا السياحية إلى عمله؟ هل الفوز في لعبة غولف أهم من حياة سبعة عشر جنديا؟

* قال نائب رئيس الأركان التركي الجنرال حسن إيغسيز إن المخافر الحدودية الخمسة لم يتم نقلها بسبب النقص في ميزانية رئاسة الأركان، ولكن سجلات وزارة المالية تشير إلى عكس ذلك حيث تثبت أن رئاسة الأركان أعادت في السنتين الأخيرتين 1.600 مليار ليرة تركية (حوالي 1.230 مليار دولار) من مخصصاتها المالية إلى الخزانة دون أن تستخدمها.

والأدهى من ذلك وأمر، شرعت قيادة القوات الجوية في إنشاء ملعب غولف كبير (500 ألف متر مربع) في القاعدة الجوية بمدينة قونيا وسط تركيا بتكلفة تكفي لإنشاء 15 مخفرا جديدا. فهل إنشاء ملاعب غولف أهم وأولى من نقل المخافر الحدودية؟

هذه وغيرها من الأسئلة المطروحة قد تجيب عليها رئاسة الأركان التركية وقد لا تجيب، وهذا هو المرجح، ولكن الرأي العام التركي بات يطالب المؤسسة العسكرية بقوة بأن تركز اهتمامها على وظيفتها الأصلية وهي الدفاع عن الوطن وعن كوادرها، بدل أن تقحم نفسها في شؤون السياسة الداخلية.

حلقات مفقودة
يقول المتابعون لحزب العمال الكردستاني إن هناك حلقات مفقودة ومناطق مظلمة في مسيرة الحزب وحياة زعيمه عبد الله أوجلان، لا بد من كشفها لفهم ما جرى وما يجري على الشريط الحدودي بين العراق وتركيا، وبدون معرفة تلك الحلقات وتسليط الضوء على المناطق المظلمة لرؤية الصورة كاملة سيظل أي تحليل للتطورات المرتبطة بحزب العمال سطحيا وقاصرا.

تأسس حزب العمال الكردستاني يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1978 كحزب سياسي كردي ذي توجهات يسارية ماركسية لنينية، ثم تحول في بداية الثمانينيات إلى منظمة مسلحة تدعو إلى إنشاء دولة مستقلة للأكراد.

ومع تفكك الأنظمة الشيوعية بالاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية في ثمانينيات القرن الماضي، بدأ حزب العمال يتخلى عن مرجعيته اليسارية، بل تحول في نهاية المطاف إلى منظمة مرتزقة تتحرك وفق أجندة الولايات المتحدة التي تستخدمها كورقة للتضييق على إيران من جهة، ولابتزاز تركيا من جهة أخرى.

ويرى بعض المراقبين أن ورقة حزب العمال الكردستاني يتم توظيفها أيضا في معركة الأطراف المتصارعة على الحكم داخل تركيا وتغيير الخارطة السياسية لصالح أحزاب على أخرى حسب توقيت الهجمات وتصعيدها.

تزوج زعيم حزب العمال الكردستاني في العام 1978، العام الذي أسس فيه حزبه، من كسيرة يلديريم ابنة العميل لوكالة الاستخبارات الوطنية التركية (MIT) المعروف بلقب "الطيار نجاتي" وانتقلت كسيرة مع أوجلان إلى سهل البقاع بلبنان.

"
البعض يتهم أوجلان بالعمالة وأنه أسس حزب العمال الكردستاني بمساعدة وكالة الاستخبارات التركية، وأن الصحفي الشهير أوغور مومجو تم اغتياله في يناير/كانون الثاني 1993 لأنه وصل إلى أدلة ووثائق تكشف حقيقة هذا الحزب ومصادر تمويله
"

وقال الزعيم الكردي إبراهيم غوتشلو في تصريحاته لصحيفة "آيدينليك" التركية إنه لاحظ أثناء زيارته البقاع في العام 1980 أن كسيرة كان لها دور فعال أكثر من أوجلان نفسه في اتخاذ القرارات أو تغييرها.

وقد اعترف أوجلان فيما بعد بأن زوجته الأولى "كسيرة" كانت تعمل لحساب وكالة الاستخبارات الوطنية التركية ولكنه نأى بنفسه قائلا بأن الاستخبارات التركية كانت تحاول اختراق حزب العمال الكردستاني. وبعد نشوب خلافات حادة بينها وبين عبد الله أوجلان، هربت كسيرة عام 1988 إلى أوروبا عبر قبرص خوفا على حياتها.

ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك، حيث يتهم أوجلان بالعمالة وأنه أسس حزب العمال الكردستاني بمساعدة وكالة الاستخبارات الوطنية التركية، وأن الصحفي الشهير أوغور مومجو تم اغتياله في يناير/كانون الثاني 1993 لأنه وصل إلى أدلة ووثائق تكشف حقيقة هذا الحزب ومصادر تمويله.

ويقول المحامي جيهان مومجو إن أخاه كان ينوي قبيل اغتياله إصدار كتاب لكشف هذه الحقائق، مؤكدا أن عبد الله أوجلان كان رجلا يتم توظيفه منذ بداية الأمر. وهذا ما يؤكده أيضا النائب الكردي السابق عبد الملك فرات.

وهناك مؤشرات أخرى تشير إلى علاقات عبد الله أوجلان برجال الاستخبارات، منها ما نشرته وسائل إعلام تركية نقلا عن مصادر كردية وشهود من داخل حزب العمال الكردستاني أن أوجلان كان في فترة إقامته بالعاصمة السورية يسكن في عمارة يسكن فيها الملحق العسكري للسفارة التركية العقيد (الرائد آنذاك) حسن آتيلا أوغور، وكان الجاران على علاقة حميمة.

واعتقل العقيد حسن آتيلا أوغور بتهمة الانتماء إلى شبكة "أرغينيكون" في حملات الاعتقال التي شنتها قوات الأمن التركية في إطار قضية محاولة الانقلاب على حكومة أردوغان. وهذا بالإضافة إلى لقاء أوجلان عدة مرات في البقاع اللبناني مع دوغو برينتشاك المعتقل هو الآخر بتهمة الانتماء لشبكة "أرغينيكون" والتنظير لها. ويدعى رئيس دائرة الاستخبارات السابق في الشرطة التركية بولنت أوراك أوغلو بأن عبد الله أوجلان عضو في هذه الشبكة المعروفة في تركيا بـ"الدولة العميقة".

تداعيات الهجوم
جاء هجوم "آكتوتون" في وقت تستعد فيه المحكمة الدستورية لإعلان قرارها النهائي في قضية إغلاق حزب المجتمع الديمقراطي المتعاطف مع الأكراد، وبعد الهجوم الأخير فإن أعضاء المحكمة الدستورية سيجدون صعوبة بالغة في رفض إغلاق الحزب الذي يعد لدى المؤسسة العسكرية الذراع السياسي لحزب العمال الكردستاني.

كما جاء الهجوم والبلاد مقبلة على الانتخابات المحلية التي ستجرى في مارس/آذار 2009، ومن المعروف أن حزب العدالة والتنمية يتنافس مع حزب المجتمع الديمقراطي في مناطق جنوب شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية، ويسعى للفوز برئاسة بلدية مدينة ديار بكر التي تعد قلعة حزب المجتمع الديمقراطي.

ولا شك أن أي تصعيد في المنطقة وقيام الجيش التركي بعملية برية في شمال العراق سيؤدي إلى تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية بين الأكراد. وأما حزب المجتمع الديمقراطي فإن مرشحيه بإمكانهم أن يخوضوا الانتخابات المحلية كمستقلين إذا أغلقت المحكمة الدستورية حزبهم.

لفتت رئاسة الأركان التركية في بيانها إلى أن الخسائر البشرية في هجوم "آكتوتون" كان معظمها نتيجة نيران الأسلحة الثقيلة التي أطلقها مسلحو حزب العمال الكردستاني من وراء الحدود. واتهم نائب رئيس الأركان التركي الجنرال حسن إيغسيز قادة إقليم كردستان العراق بتقديم الدعم اللوجستي للعمال الكردستاني.

"
أنقرة سعت في الآونة الأخيرة لتطبيع علاقاتها مع أكراد العراق ولكن الهجوم الأخير والاجتياح المحتمل سوف يقضي على أجواء التفاؤل والتقارب ويعزز مشاعر الكره والعداء بين الطرفين، وحتى بين المواطنين الأتراك والأكراد في داخل تركيا
"

هذا التركيز في خطاب العسكر يشير بوضوح إلى رغبة الجيش التركي في التوغل بشمال العراق. ولا ننسى هنا أن التفويض الذي وافق البرلمان التركي على تمديده بأغلبية ساحقة في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الجاري والذي يسمح للحكومة التركية بأن تصدر تعليماتها إلى القوات المسلحة للقيام بعمليات برية أو جوية في شمال العراق، قدر صدر بعد هجوم مماثل لحزب العمال الكردستاني على مخفر "داغليجا" في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي وأسفر عن مقتل 12 جنديا.

وكانت أنقرة تسعى في الآونة الأخيرة لتطبيع علاقاتها مع أكراد العراق ولكن الهجوم الأخير والاجتياح المحتمل سوف يقضي على أجواء التفاؤل والتقارب ويعزز مشاعر الكره والعداء بين الطرفين، وحتى بين المواطنين الأتراك والأكراد في داخل تركيا.

ولعل النتيجة الأهم لهجوم "آكتوتون" هي عودة العسكر إلى الساحة السياسية من باب آخر وتقدمهم أمام السياسيين في إدارة البلاد وسط أجواء الحرب والتدابير الأمنية الصارمة ودخول تركيا مرحلة قد تؤدي بها إلى العزلة وتراجع الإصلاحات الديمقراطية وتوقف مسيرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولذا على الحكومة التركية الصبر والتعقل وحسن إدارة الأزمة حتى لا تفوت الفرصة لمن يريد الاصطياد في الماء العكر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.