الاقتصاد الفلسطيني في غرفة الإنعاش

الاقتصاد الفلسطيني

 

* ميرة النابلسي
**نضال العالول

الوضع الاقتصادي قبل اتفاقيات السلام
أوسلو.. انفراج اقتصادي أم مقدمة للانفجار؟
كسر للحصار أم تشديد له؟
الحل الجذري في مجابهة عمليات التجميل

رغم أن ممارسات دولة الاحتلال القمعية والممنهجة في حق المقدرات الاقتصادية للشعب الفلسطيني منذ إنشاء دولة إسرائيل، كانت هي العامل الرئيس وراء انهيار الاقتصاد الفلسطيني, فإنها لم تكن الوحيدة.

فالتقصير في إدارة الأموال الطائلة القادمة من الخارج وتسخيرها في دعم الصناعات الوطنية بالإضافة إلى العجز عن تأهيل الأيدي العاملة الفلسطينية للعمل في تطوير الاقتصاد الفلسطيني المحلي سرع من وتيرة الانهيار الحتمي لحياة المواطن الفلسطيني مما أدى في النهاية إلى وقوع كافة جوانب الاقتصاد الفلسطيني في قبضة إسرائيل.

إن مأساة الانهيار الكامل لكل مقومات الاقتصاد الفلسطيني داخل الضفة الغربية وقطاع غزة في الوقت الحالي لم تكن بالتحديد وليدة الظروف الراهنة التي رافقت سيطرة حماس على قطاع غزة بل مثلت القشة التي قصمت ظهر البعير لغاية عزل الاقتصاد الفلسطيني بالكامل عن العالم الخارجي وحتى عزله داخليا على مستوى المدن والقرى والمخيمات المتلاصقة مع بعضها البعض, وبالتالي جعل إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة أمرا مستحيلا على المستوى العملي.

"
سياسة "الخنق الاقتصادي" الإسرائيلية في ظل غياب تمثيل سياسي فلسطيني متماسك أدت إلى قيام مؤسسات المجتمع المدني مدعومة ببعض المنظمات الدولية التي تعمل كل منها وفق أولويات مستقلة عن احتياجات الشارع الفلسطيني
"

الوضع الاقتصادي قبل اتفاقيات السلام
لم يشهد الاقتصاد الفلسطيني أي انتعاش اقتصادي حقيقي منذ تاريخ الخامس من يونيو/حزيران 1967 وحتى يومنا هذا لأن إسرائيل عمدت إلى إحكام سيطرتها على موارد المياه ومصادرة الأراضي عشوائيا بشكل يعوق التواصل الجغرافي للأراضي الفلسطينية وهو العامل اللازم لقيام حركة اقتصادية متكاملة ومستقلة بين المدن الفلسطينية.

بالإضافة إلى ذلك, قامت إسرائيل بتعطيل كافة مخططات التنمية الاقتصادية في جوانب البنية التحتية ضاربة بذلك عرض الحائط بكافة المواثيق الدولية التي تحدد العلاقة بين الاحتلال والشعوب المحتلة مما أدى في نهاية المطاف إلى جعل الاقتصاد الفلسطيني يعتمد قصرا على اقتصاد دولة الاحتلال التي لم يكن في أجندتها بالطبع رفع المستوى المعيشي للمواطن الفلسطيني.

إن سياسة "الخنق الاقتصادي" التي اتبعتها سلطات الاحتلال في ظل غياب تمثيل سياسي فلسطيني متماسك في الأراضي المحتلة أدت إلى قيام مؤسسات المجتمع المدني مدعومة ببعض المنظمات الدولية بتولي مسؤولية التنمية في الأراضي الفلسطينية التي عمل كل منها وفق أجندتها الخاصة ووفق أولويات مستقلة عن احتياجات الشارع الفلسطيني.

وبالرغم من تفاوت حجم المقاومة الشعبية تجاه الممارسات الإسرائيلية, فإن الممانعة الاقتصادية الشعبية في وجه السيطرة الإسرائيلية وصلت ذروتها خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى باتخاذها طابع العصيان المدني العفوي الهادف إلى تجميد كافة المعاملات القصرية مع المحتلين.

الجانب الأهم لهذه الحركة الشعبية الجارفة كان عزوف ما يقارب 70% من العمال الفلسطينيين, من أصل 155,000 عامل, عن ممارسة أعمالهم داخل إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك فإن هذه المرحلة شكلت بداية تطور الوعي الفلسطيني الاجتماعي تجاه إمكانية فرض واقع جديد في الصراع من خلال مقاطعة كافة المنتوجات الإسرائيلية والعمل على إضفاء صبغة فلسطينية على الاقتصاد في الأراضي المحتلة.

إن أبرز ما كان يميز هذه المرحلة هو عدم استطاعة القيادات الفلسطينية في الخارج السيطرة على هذه الحركة الشعبية وإملاء الخيارات السياسية أو الضغوط الدولية على ما يجري داخل المدن الفلسطينية.

ومن اللافت للانتباه عند ذكر "النخب السياسية" أن نعرض ولو بشكل ملخص لوضع النخبة الفلسطينية ومننها القيادة السياسية.

فالمعاناة الإنسانية الاقتصادية للشعب الفلسطيني لم تشمل النخب السياسية والاقتصادية الفلسطينية التي كانت تحاول السيطرة على الحركة الشعبية الفلسطينية للخروج بأكبر قدر ممكن من المكتسبات السياسية. وتجلى ذلك من خلال عمل اللجان الاقتصادية العربية وأهمها اللجنة الأردنية الفلسطينية (تشكلت في عام 1978) التي ساهمت في تعويض أصحاب رؤوس الأموال الفلسطينية ومالكي المصانع من ذوي الحسابات المجمدة في الخارج.

إن قصور الأداء الفلسطيني على مستوى منظمة التحرير الفلسطينية وقيادات الشتات في إيجاد خطة تنمية شاملة ومتكاملة كان واضحا من خلال التخبط السياسي الذي عانت منه هذه القيادة بعد الدعم الصريح لغزو الكويت عام 1991 وما ترتب عليه من إيقاف الدعم الاقتصادي الخليجي ودعم المغتربين الفلسطينيين للقضية الفلسطينية.

فمفاوضات مدريد في بداية عقد التسعينيات لم تناقش آليات تخليص الفلسطينيين من عذاباتهم التاريخية, بل جاءت بشكل أساسي لإقناع إسرائيل بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني دون إلزامها بالاعتراف بفلسطين نفسها أو بتقديم تنازلات سياسية تتعلق بالأرض والعاصمة واللاجئين.

أوسلو: انفراج اقتصادي أم مقدمة للانفجار؟

"
أهم ما يميز مرحلة أوسلو اقتصاديا هو اتباع إسرائيل سياسة إغلاق المناطق الفلسطينية بشكل مستمر ومتعمد تحت ذريعة حماية أمن إسرائيل من هذا "الكيان" المجاور
"

في حين أن اتفاقيات أوسلو الموقعة بين طرفي الصراع أعطت للفلسطينيين سيطرة شكلية على جزء بسيط من الأراضي الفلسطينية, إلا أنها لم تحدد شكل العلاقة الاقتصادية وضوابطها بين الطرفين, مما أعطى ولو بشكل غير مقصود غطاء شرعيا دوليا للممارسات الإسرائيلية المتمثلة في حصار الفلسطينيين اقتصاديا والمبررة من الجانب الإسرائيلي بضمان استقلالية الطرفين على كافة الأصعدة تمهيدا "للانفصال النهائي".

إن الادعاءات الإسرائيلية بعدم وجود أي اتفاق دولي يلزمها بإعطاء الفلسطينيين كامل الحرية الاقتصادية كما السياسية، يدخل في صميم سياسة المناورات وتضييع الوقت الإسرائيلية خاصة إذا ما نظرنا بشكل أعمق إلى بروتوكولات باريس الموقعة في 29 أبريل/نيسان عام 1994.

وأهم ما يميز هذه الاتفاقيات هو اعترافها الصريح بمبدأ "حرية القرار الاقتصادي" الذي يشمل حق الجانب الفلسطيني في تبني سياساته الاقتصادية التي يراها مناسبة وحقه في عقد الاتفاقيات الاقتصادية مع أي من الأطراف الدولية دون قيود.

وبالطبع فإن تطبيق مثل هذا الضمان الشرعي كان شبه مستحيل نظرا لأن ميزان القوى, الأشبه بقانون الغاب, بين الفلسطينيين والإسرائيليين رجح كفة القوى المحتلة لغاية فرض نفس سياسات القمع الاقتصادي المتبعة سابقا.

إن أهم ما يميز مرحلة أوسلو اقتصاديا هو اتباع إسرائيل سياسة إغلاق المناطق الفلسطينية بشكل مستمر ومتعمد تحت ذريعة حماية أمن إسرائيل من هذا "الكيان" المجاور. وبالطبع فإن هذه السياسات ألقت بظلالها القاتمة على الاقتصاد الفلسطيني. ففي عام 1996, انخفض إجمالي الناتج الوطني الفلسطيني (GNP) بنسبة 39% في قطاع غزة و18.2% في الضفة الغربية.

والمتضرر الأكبر جراء هذه السياسات كانت العمالة الفلسطينية, فقد أضحى 66% من الفلسطينيين إما عاطلين عن العمل أو عمالا موسميين, خاصة إذا ما علمنا أن السوق الإسرائيلي بدأ يستعين بالعمالة الأجنبية القادمة من شرق آسيا لسد النقص في العمالة المؤهلة في بعض القطاعات.

قد يبدو للوهلة أن توظيف السلطة الفلسطينية لما يقارب 90 ألف فلسطيني في دوائرها كان خطوة إيجابية على طريق قطع الاعتماد على إسرائيل, إلا أنها بحسب رأي الخبراء كانت كالذي يعالج آلام السرطان بالمسكنات. إذ إن النسبة الأعلى من إيرادات السلطة, التي طالما بقيت تأتي على شكل مساعدات خارجية, كانت تذهب لغاية دفع رواتب الموظفين الذين بدورهم أثقلوا كاهل الخزينة الفلسطينية بالنفقات التي جاءت على حساب مشاريع التنمية والتطوير.

إن تحليلنا لانهيار الاقتصاد الفلسطيني سيعد منقوصا بالتأكيد إذا لم يتم الحديث عن الفساد والمحسوبية في أجهزة السلطة الفلسطينية, فحالة الضياع الإداري ونهب الأموال في مؤسسات السلطة الفلسطينية بالإضافة إلى عدم النزاهة والوضوح في كشف ملابسات هذه الجرائم، أدت إلى استنزاف الموارد المالية المتوفرة للسلطة الفلسطينية في ظل عدم وجود أفق سياسي لقيام دولة قادرة وقوية.

كسر للحصار أم تشديد له؟
ينتقد الكثير من المراقبين الآليات التي تم من خلالها تقديم المساعدات المالية والتي وصلت خلال الأعوام 1994-1998 إلى 2.5 مليار دولار, حيث يرى هؤلاء أن هذه المنح لم تتجاوز كونها أداة للضغط السياسي.

من جهة أخرى, أخذ على وكالات الدعم الأجنبي بطؤها في إقرار المشاريع المتبناة وتطبيقها على أرض الواقع. كما كان يلاحظ في كثير من الأحيان وجود فجوة ثقافية بين موظفي وكالات التنمية الأجانب ونظرائهم الفلسطينيين, وذلك لأن هؤلاء الموظفين الأجانب كانوا من أصحاب النظرية الواقعية في التطبيق (Realpolitik) معتمدين عادة على مجريات الأحداث على الأرض التي كانت غالبا ما تفرض نفسها على سير هذه المشاريع وخاصة عندما كان الأمر يتطلب التنسيق مع الجانب الإسرائيلي, الأمر الذي لم يكن في كثير من الأحيان متوقعا عند وضع مخططات المشاريع.

عند التدقيق في هذا الدعم الخارجي من وجهة نظر مالية, نجد أن نسبة كبيرة جدا من هذه المساعدات كانت على شكل قروض مستردة. وبما أن إجمالي إنفاق السلطة الفلسطينية كان أعلى بكثير من إيراداتها (المستحقة من الضرائب), فإن إمكانية سداد مثل هذه الديون المتراكمة على هذه المؤسسة المحاصرة أصلا كانت شبه مستحيلة. الأمر الذي زاد من حجم الضغوط الدولية على القيادة الفلسطينية من أجل تقديم تنازلات سياسية كبيرة في مقابل إعفاء السلطة من دفع مستحقاتها.

واللافت للانتباه أن السلطة الفلسطينية لم تتوقف عن طلب القروض من الدول المانحة مما يدفعنا إلى التساؤل عن غاية هذه الاستدانة غير العلمية إذا لم تكن لغاية التنمية الدائمة والمخططة في الأراضي الفلسطينية.

الحل الجذري في مجابهة عمليات التجميل

"
أي تطبيق عملي لمبدأ مجابهة إسرائيل اقتصاديا يجب أن يكون خلاصة تعاون وتنسيق مشترك بين أفراد الشعب والمؤسسات المدنية والشعبية كافة تحت غطاء سياسي عربي موحد
"

الأرقام الرسمية الصادرة عن منظمة العمل الدولية (ILO) تشير إلى أن نسبة البطالة في الضفة الغربية وقطاع غزة قد تجاوزت 40% بعدما كانت أقل من 17% قبيل انتفاضة الأقصى الثانية. الأمر الذي انعكس بالتأكيد على مستوى معيشة العائلة الفلسطينية.

فقد أشار تقرير البنك الدولي الأخير إلى أن 70% من العائلات الفلسطينية في مناطق السلطة تعيش تحت خط الفقر, وبالتحديد في قطاع غزة الذي كان يصدر أكثر من 700 شاحنة يوميا من منتوجاته في عام 2005 ليصدر اليوم ما مقداره 34 شاحنة يوميا فقط.

الاقتصادي عادل سمارة يؤكد أهمية نظرية التنمية المعتمدة على الحماية الشعبية. وتعود أهمية هذه النظرية بشكل أساس إلى فشل النخب السياسية والاقتصادية الفلسطينية في انتشال الاقتصاد من الهاوية ومجابهة الممارسات الإسرائيلية.

وتعتمد هذه النظرية بشكل أساسي على إعادة الكرة إلى الملعب الفلسطيني من خلال دعم الصناعات الوطنية الفلسطينية بشكل كامل, خاصة في القطاعات التي فشلت إسرائيل في احتكارها طوال سنوات الاحتلال, بالإضافة إلى تفعيل مبدأ مقاطعة كافة المنتوجات الإسرائيلية فلسطينيا وعربيا ودوليا.

وبالطبع فإن هذه النظرية ستبقى مجرد فكر أكاديمي إن لم تحاول القيادات الفلسطينية والعربية كافة قطع الطريق على التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل من خلال تحالفاتها الطبيعية داخل الدول العربية وحتى حول العالم أجمع.

إن أي تطبيق عملي لمبدأ مجابهة إسرائيل اقتصاديا يجب أن يكون خلاصة تعاون وتنسيق مشترك بين أفراد الشعب والمؤسسات المدنية والشعبية كافة تحت غطاء سياسي عربي موحد يعي خطورة الوضع الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية الذي قد دخل بالفعل في غرفة الإنعاش, فلم تعد الوعود والمؤتمرات تنفع في إخراجه من حالته الحرجة.
________________
* كاتبة فلسطينية
**كاتب أردني

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.