العالم الإسلامي.. أزمة في التفكير وعبث في السياسة

العالم الإسلامي.. أزمة في التفكير وعبث في السياسة



ثمة ضريبة كبيرة دفعتها الأمة في القرن الأخير بدعوى التحرير والنهضة والاستقلال تحت عناوين ومضامين متباينة، إلا أن إخفاقها في تحقيق أي إنجاز ذي شأن في أي من تلك المجالات أحبطها وأفقدها ثقتها بإمكانية الخروج من الأزمات الخانقة التي تمر بها، فضلاً عن شعور غالبيتها الساحقة باستحالة إحداث تغيير نحو الأفضل في واقعها، وفقدانها الأمل في إمكانية تحقيق نهضة يعتد بها في المدى المنظور.

"
هناك خلل أساسي ملموس يسبق كافة ما يمكن إحصاؤه من الأسباب يتمثل في غياب الطريقة السليمة في التفكير، تلك العملية المجردة التي تحاكم الأشياء وتتعامل معها كما هي، لا كما تشتهيها النفس وترغب في تصويرها
"

ورغم تعدد أسباب الإخفاق وتنوعها فإن خللاً أساسياً ملموساً يسبق كافة ما يمكن إحصاؤه من أسباب يتمثل في غياب الطريقة السليمة في التفكير، تلك العملية المجردة التي تحاكم الأشياء وتتعامل معها كما هي، لا كما تشتهيها النفس وترغب في تصويرها.

وهذا ما يعتمده العقلاء لبناء أنفسهم وأممهم، وهو ما خطا الغرب فيه شوطاً متقدما، أدى إلى تقدمه المادي الملحوظ، وإلى سيطرته وهيمنته على بقية الشعوب والأمم، معولاً على الفهم والتخطيط وتدبر الأشياء كما هي لإدارة مصالحه فيما يتفق مع نظرته النفعية للحياة والقيم الخاصة التي يعتنقها.

في الوقت ذاته نجد الحركات السياسية في مشرقنا الإسلامي قد بالغت في العبث السياسي والتخبط الفكري إلى درجة الانحطاط المقزز في كليهما.

فمثلاً، وجدنا من ادعى تحرير بغداد من نظام بعثي مستبد مرتبط بالغرب حسب دعواه، وجدناه مقيماً في أحضان التوأم البعثي القائم في دمشق، يكيل له المديح والولاء على مر عقود من الزمان، كما أنهم لجؤوا إلى الغرب نفسه للخلاص من ذلك النظام، معللين التعامل مع الاحتلال الأجنبي بأنه مؤقت وأن طرده سيكون أقل كلفة وعناء من اقتلاع الطغيان المحلي.

وقد تحولوا مع قدوم الاحتلال إلى مجرد بيادق رخيصة لديه، يحركهم بالإشارة عن بعد، مصرين على بقاء الاحتلال كضرورة ملحة، في وقت بدأ العراق فيه يلفظ أنفاسه تحت مطرقة الاحتلال وأخذ يتلاشى على عجل بين أيدي عصابات مأجورة ومليشيات مجرمة وساسة أوباش.

فأي عقل ذاك الذي يستبدل قطا بضبع، وطاغية بطغاة ينتهكون الحرمات ويستبيحون المحرمات ويلحقون بالعراق وأهله الفواجع والخراب؟

وفي فلسطين أكثر قضايا الأمة حساسية والتهاباً، وجدنا من يرفع راية تحريرها متنقلاً بين عواصم لا تملك قرارها، رابضاً بين أيدي الأنظمة المتعفنة التي جرت الخيبات المتتابعة على فلسطين وأهلها، محاولاً كسب ودها وبناء جسور معها، رغم إدراكه مسبقاً أن همها الأوحد هو الاستئثار بالسلطة، وأن تلك الأنظمة وكيلة عن الدول الكبرى خادمة لها.

بل أكثر من ذلك شاهدنا السعي الحثيث من هؤلاء لنيل اعتراف الغرب بهم والتعاطي معهم بإيجابية وشفافية، مع أن الأنظمة السياسية في الغرب هي أس بلاء فلسطين والأمة، تلك الأنظمة التي لا تأبه إلا بمصالحها، معتبرةً "إسرائيل" خطاً أحمر لا يمكن المساومة على المساس به فكيف باقتلاعه.

رغم ذلك تتزاحم تلك المتناقضات وأشباهها في سياسات تلك الزعامات على نحو مضحك مبك في آن معاً، مبررة تصرفاتها بذرائع ممجوجة ومتناقضة ومفصومة العرى.

"
من المفارقات اعتماد حركات سياسية تدعي المبدئية فكرة الواقعية السياسية المقيتة، وبدل أن تغير الواقع بحسب مفاهيمها وتصوراتها، تجدها تتنازل رويداً رويداً عن أفكارها ومبادئها لتصبح من جنس الواقع نفسه
"

ومن المفارقات أيضاً اعتماد حركات سياسية تدعي المبدئية فكرة الواقعية السياسية المقيتة، تلك الحركات التي رفعت شعار التغيير على أساس الإسلام من أجل تحكيم شريعته وتوحيد الأمة، لتجدها فجأة بذريعة الحكمة والكياسة تبدل جلدها مع كل حدث يقع، وبدل أن تغير تلك الحركات الواقع بحسب مفاهيمها وتصوراتها، تجدها تتنازل رويداً رويداً عن أفكارها ومبادئها لتصبح من جنس الواقع نفسه.

وبدل أن يكون تجسيد القيم التي تحملها هو الهدف يصبح الحصول على السلطة هو الغاية المرجوة، لتنتهي قضية الإسلام إلى مجرد التمسك بشكليات لا أكثر، وكأن المسألة هي تغيير أشخاص لا سياسات ونظم، وكأن القضية هي من يكون على كرسي الحكم لا المنهج الذي يسود بين الناس ويحكم.

كما بتنا نشاهد في واقع الحال اضمحلال فكرة الأمة لدى هؤلاء لصالح فكرة القطر والطائفة وصولاً إلى اقتصارها على الحزب أو الجماعة.

ومن أغلب ما عم وطم سيطرة تصورات غامضة على عقول الناس من مثل أن سوء الأوضاع وكثرة المصائب بشير فرج تلقائي، مع أن تفشي الوباء يسبب المرض العضال وبالتالي الموت والهلاك إن لم تتم الوقاية منه، والفقر يدفع الناس إلى الجريمة والرذيلة إن لم تتم العناية بأصحابه ورعايتهم، والظلم يزداد فحشاً ووحشية وسطوة إن لم يجد من يزيله، وهكذا فإن سوء أوضاع الناس نذير شؤم لا بشير فرج إن لم تتخذ إزاءه أعمال جدية للحد من آثاره والخلاص منها.

هذا غيض قليل من فيض كثير نطل من خلاله على تلك العقلية السائدة في عالمنا الإسلامي، تلك العقلية التي تعتمد الهشاشة في التفكير وتحاكم الأحداث بشكل سطحي، معتبرة السلوك المشين الذي تنتهجه مجرد مسايرة مؤقتة لواقع لا بد وأن يتغير جراء أزمات متراكمة ومصادفات متوقعة وآمال عريضة متخيلة في الذهن، بدل بناء أفعالها على أسس وقواعد سليمة في الفهم والتحليل لتحقيق أهدافها.

ويعزز حالة التناقض والضبابية في التفكير خمول الناس وتقاعسهم، إضافة إلى ترسيخ حالة من الشلل والعجز لديهم، فضلاً عن تأصيل التفكير السطحي والنفعي الآني والانحطاط في سلوكهم ليصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتهم.

من جهة أخرى فإن هذا الواقع المقزز، مع تعطل الآلية السليمة في التفكير بالانعتاق منه، يستفز بدوره فئات أخرى للقيام بأعمال غير مبررة، ارتجالاً وردة فعل وتمرداً على واقع مفجع، ثائرين عليه متوقعين أن أفعالهم تلك ستكون بمثابة صاعق متفجر يؤدي إلى تغيرات في حركة التاريخ، أو أنها ستتسبب في فتح أبواب السماء لتهبط المعجزات عليهم تباعاً، معولين على أفهام مجملة متجاهلين قوانين الله في الطبيعة وكأنها بحكم الملغاة من حساباتهم.

"
السعي للتحرير والنهضة والارتقاء يجب أن يأخذ مجراه وفق قوانين الطبيعة وسنن الحياة، أي ضمن المقاييس المادية التي فرضها الخالق سبحانه على المادة لتُفهَمَ وتحلل ويبنى عليها
"

وفي الحالتين السائدتين يغيب العقل وتتحول الحياة إلى مجرد أعمال عشوائية ومصادفات وابتذال في إسباغ المنطق المتهافت على الأفهام السقيمة والسياسات والتصرفات الشائنة والشاذة والمنحرفة.

ويعلل فريق من هذه الأمة تلونه بالواقع ليصبح جزءا من نسيجه الفاسد بحجة اعتماده منطقاً واقعياً رغم أنه منطق سطحي وهش ومغلوط يغذي الفساد ولا يغيره ويتحول إلى عائق إضافي في عملية التغيير.

وفي حين يركن هذا الفريق إلى الغرق في الواقع والذوبان فيه، نجد فريقاً آخر يعتمد ردات الفعل والارتجال والاندفاع نحو المجهول من غير الأخذ بأسباب الحياة وقوانينها، مما يدفع الناس بالمحصلة إلى قبول الأمر الواقع والتسليم بعدم جدوى السعي لتغييره.

وهذا سيدفع الناس إلى التمسك بالواقع القائم بحجة الأمن والاستقرار وعدم جدوى مثل تلك الأعمال وبالتالي نفور الناس منها وإنكارها.

وخلاصة المقصود هنا يكمن في ضرورة ربط أسباب التغيير بمسبباته الحقيقية، لا بالتذاكي الذي يتعامى عن حقائق الأشياء ومقتضياتها، وأن السعي للتحرير والنهضة والارتقاء يجب أن يأخذ مجراه وفق قوانين الطبيعة وسنن الحياة، أي ضمن المقاييس المادية التي فرضها الخالق سبحانه على المادة لتُفهَمَ وتحلل ويبنى عليها.

وإن اعتماد الإسلام كمبدأ للتغيير والنهضة يقتضي تعزيز التفكير الجاد الآخذ بأسباب الحياة لا العبث والتعامي عن حقائق الأشياء.

وذلك هو الذي أدى بالمسلمين الأوائل إلى اكتساح العالم ورسم سياساته ردحاً طويلاً من الزمان، وهو ما لم يكن ليتحقق بالدجل والترهات ولا بالارتجال وردات الأفعال، بل بالأخذ بأسباب الحياة وعقل الأشياء على النحو الذي خلقها الله سبحانه عليها، حتى استحق هؤلاء نصر الله وتأييده بعد أن عضدت القوة المادية قوة روحية هائلة أنجزت تلك المهام العظام، حين كانت مفاهيم العقيدة عامل قوة ومحفزاً للتفكير المستنير والحرص والتدبير، عامل شحذ للهمم، لا عامل ضعف أو تقاعس وخمول وركون إلى الواقع والغرق فيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.