كركوك العراقية مدينة يحرقها نفطها

كركوك العراقية مدينة يحرقها نفطها



وليد الزبيدي

وجود الثروة النفطية
الموقع الجغرافي
التنوع السكاني

تشترك ثلاثة عوامل في إعطاء أهمية استثنائية لمدينة كركوك العراقية، هي وجود الثروة النفطية فيها، وموقعها الجغرافي الذي يربط بين المنطقة الكردية والمناطق العربية، وتنوع القوميات والطوائف في مدينة كركوك. ومن المعروف أن أوضاع المدينة وما يطلق عليه تقرير مصيرها، قد احتلا حيزا كبيرا من الأوضاع السياسية في العراق خلال السنوات الأربع المنصرمة.

وبدلا من أن ينعم الجميع بخيرات هذه المدينة يرى بعض المراقبين أن نفط كركوك -الذي هو جوهر الصراع والمحفز الأساسي للنزاع- قد يتسبب في حرقها، وهو ما يخشاه الكثيرون.

ولإعطاء تصور دقيق عن واقع ومستقبل مدينة كركوك لا بد من التوقف عند العوامل الثلاثة التي ذكرناها.

وجود الثروة النفطية
اتجهت الأنظار إلى المدينة التي ظهرت فيها النار الأزلية قبل اكتشاف النفط عام 1927، أي بعد سبع سنوات من تأسيس الدولة العراقية. وحرص البريطانيون على استثمار آبار النفط  التي تم اكتشافها هناك، وأعطتها الحكومات العراقية في العهد الملكي الذي انتهى عام 1958 والحكومات اللاحقة اهتماما خاصا نظرا لأهمية الثروة النفطية في دعم الاقتصاد العراقي الذي يعتمد بصورة رئيسية على صادراته من النفط.

"
كل من يدقق في النوايا والجهود المبذولة لتطبيع الأوضاع في كركوك يكتشف بسهولة أن الدافع هو الاستحواذ على الثروة النفطية الموجودة في هذه المدينة، وأن الشعارات والأحاديث الأخرى ليست سوى غطاء تتحرك تحته تلك الجهود
"

وبينما حرصت الحكومات المركزية في بغداد على استثمار هذه الثروة والاستفادة منها في التنمية، سعت الأحزاب الكردية العراقية لربط مدينة كركوك بالمناطق الكردية، وبذلت جهودا كبيرة في إضافتها إلى المحافظات الثلاث (السليمانية، أربيل، دهوك) ذات الغالبية الكردية.

وتم تأطير هذه المحاولات بشعارات سياسية، ومشاريع تتحدث عن إقليم كردي يمهد للانفصال وتشكيل كيان كردي مستقل في شمال العراق؛ ولهذا يرفع الأكراد شعارا يقول "كركوك قلب كردستان"، ويضعون هذا الشعار بأماكن كثيرة على هضاب الجبال في أربيل والسليمانية ودهوك.

وراقبت القوى السياسية الكردية ومعها قوات البشمرغة الأوضاع في العراق، وسارعت إلى استثمار التخلخل الأمني الذي حصل عقب انتهاء حرب الخليج الأولى عام 1991، لتدفع بالكثير من قواتها إلى مدينة كركوك في محاولة لضمها إلى المناطق الشمالية ذات الغالبية الكردية.

لكن حكومة بغداد حينذاك لم تقبل التخلي عن كركوك، في حين حصلت المحافظات الشمالية الأخرى على حماية من قبل الطيران الأميركي الذي واصل التحليق فوق ما أسماه الأميركيون "الملاذ الآمن".

وخلال عقد التسعينيات والسنوات التي سبقت الغزو الأميركي للعراق حرص السياسيون الأكراد في أنشطتهم مع المعارضين لنظام صدام حسين، على زج موضوع كركوك في جميع الاجتماعات والمؤتمرات والنقاشات التي تتناول مستقبل الأوضاع في العراق.

وقد أصرّت قيادات الحزبين الكرديين (الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، والحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يرأسه مسعود البرزاني)على تغليف موضوع كركوك بالحديث عن الغالبية الكردية في هذه المدينة، للاستحواذ عليها والظفر بنفطها ضمن المشروع السياسي الذي خططوا له قبل غزو العراق، بتقسيم العراق إلى أقاليم وما يتضمنه ذلك من تقاسم للثروات، وهنا نلامس جوهر القضية وحقيقة الصراع على كركوك، وهو النفط.

أما في السنوات الأربع الماضية -أي بعد الاحتلال الأميركي للعراق في ربيع عام 2003- فقد تصدر موضوع مدينة كركوك النفطية الواجهة، وبذل السياسيون الأكراد كل ما في وسعهم لحسم موضوع كركوك. وانصبت جهودهم في ذلك على مرحلتين، الأولى تتمثل في إعلانها مدينة كردية وضمها إلى المناطق الكردية بصورة رسمية، والثانية هي تطبيق الفقرة الخاصة بالفدرالية التي حرص السياسيون الجدد في العراق على تثبيتها حيث عملوا على تقسيم العراق إلى فدراليات.

وبذلك يتحقق ما يهدف إليه الداعون إلى الفدرالية، والقصد منها تقسيم العراق على أساس وجود الثروة النفطية، ولهذا فإن التسمية الأكثر دقة هي الفدرالية النفطية.

إن كل من يدقق في النوايا والجهود المبذولة لتطبيع الأوضاع في كركوك، يكتشف بسهولة أن الدافع هو الاستحواذ على الثروة النفطية الموجودة في هذه المدينة، وأن الشعارات والأحاديث الأخرى ليست سوى الغطاء الذي تتحرك تحته تلك الجهود لتحقيق هذا الهدف، حيث تتواصل النشاطات والنقاشات والاتفاقات للحصول على الثروة النفطية والاستحواذ عليها بصورة كاملة.

الموقع الجغرافي

"
إذا فشل الأكراد في ضم مدينة كركوك إلى الإقليم الذي يعملون على تشكيله، فإن المناطق ذات الغالبية الكردية ستصبح في عزلة شبه تامة، ولن يتحقق غرض السياسيين الأساسي من الفدرالية وهو الاستحواذ على الثروة النفطية
"

تحتل مدينة كركوك موقعا جغرافيا في غاية الأهمية، فهي نقطة الاتصال المركزية بين المدن الكردية الرئيسية (السليمانية وأربيل…) والعاصمة العراقية بغداد، في حين تتصل مناطق دهوك بالموصل وتتماس كركوك بصورة مباشرة مع الأجزاء الشمالية من محافظة صلاح الدين، وترتبط بحدود واسعة مع مناطق ديالى.

كما أن الطرق الرئيسية التي تربط المحافظات الشمالية تتوزع من مفصل مدينة كركوك، وهناك طريقان رئيسيان يربطان بين بغداد وأربيل والسليمانية، الأول يمر عبر منطقة ديالى صعودا إلى كركوك، والثاني طريق الشمال الرئيسي وهو طريق دهوك-الموصل-كركوك، ومن هناك يتفرع إلى المناطق الشمالية، وينزل جنوبا إلى مدينة بغداد.

إن السيطرة على كركوك من قبل سلطة إقليم الشمال الذي يجري العمل على تأسيسه تمهيدا للانفصال عن العراق، يوفر مناطق تماس مع ثلاثة محاور رئيسية، الأول باتجاه العاصمة بغداد، والثاني باتجاه الغرب صوب الحدود السورية باتجاه الموصل، والثالث باتجاه الشرق صوب الحدود الإيرانية عن طريق النقاط الحدودية في منطقة ديالى، وتحديدا المعبر الرئيسي (المنذرية) وهو منفذ مهم مع إيران.

أما إذا تحقق ما يخطط له السياسيون الجدد (الذين أمسكوا بمفاصل السلطة في ظل الاحتلال الأميركي) من تقسيم العراق إلى أقاليم، فإن مدينة كركوك تحقق الاتصال بالإقليمين الرئيسيين، إقليم المنطقة الغربية عن طريق مناطق صلاح الدين المحاذية لكركوك من الجنوب الغربي، وإقليم بغداد من خلال مناطق ديالى.

ويوفر ذلك فرصة للانفتاح مستقبلا على هذين الإقليمين، ولن تكون هناك أية صعوبات في التواصل مع إقليم الجنوب، عن طريق مناطق ديالى المحاذية لعدة مناطق تابعة لمدينة كركوك.

لكن إذا فشل الأكراد في ضم مدينة كركوك إلى الإقليم الذين يعملون على تشكيله، فإن المناطق ذات الغالبية الكردية (أربيل، السليمانية، دهوك) ستصبح في عزلة شبه تامة، ولن يتحقق غرض السياسيين الأساسي من الفدرالية، وهو الاستحواذ على الثروة النفطية الهائلة في مدينة كركوك، ووجود مناطق تماس عديدة مع مناطق العراق (الفدرالية).

التنوع السكاني في كركوك
يسكن مدينة كركوك خليط من القوميات الرئيسية الثلاث في العراق وهي التركمان والعرب والأكراد، كما يسكن فيها المسيحيون، وكان يقطنها اليهود أيضا حتى بداية خمسينيات القرن العشرين عندما تم تهجير غالبية اليهود العراقيين إلى فلسطين في الفترة الممتدّة من 1949 إلى 1951.

ويتوزع السكان على الكثير من القبائل والعشائر الكردية العراقية، كما يسكن في كركوك ما يزيد على أربعين عشيرة وقبيلة عربية، ولم تسجل أية نزاعات أو خلافات بين أبناء مدينة كركوك إلا في السنوات الأربع الماضية بعد احتلال العراق، حيث حصل الكثير من التوترات بسبب ممارسات الأحزاب السياسية التي تعمل على تنفيذ أجندة خاصة بها تخدم مشاريعها الرامية إلى السيطرة على كركوك والاستحواذ على ثروتها النفطية، والاستفادة من موقعها الجغرافي.

"
تشهد الاجتماعات والنقاشات وتقاسم المناصب والسلطات حوارات طويلة حول مستقبل مدينة كركوك حرصا من السياسيين الجدد على الاستحواذ على ثروة المدينة النفطية، رغم وجود احتمالات قوية باشتعال المدينة بسبب طمع هؤلاء في نفط كركوك الذي قد يتسبب في حرقها كاملة
"

وهناك مخاوف من السعي لتغيير هوية مدينة كركوك بهدف ضمها للإقليم الكردي، ومن أن يتم ذلك على حساب أبناء المدينة الذين عاشوا فيها مئات السنين. وتحاول العديد من القوى السياسية إثارة الحساسيات بين المكونات الاجتماعية والعرقية في مدينة كركوك، ضمن برنامج مخطط له بدقة يهدف إلى إشعال الفتنة بين مكونات المجتمع العراقي.

لكن العديد من القوى والشخصيات الوطنية تبذل جهودا مضنية للمحافظة على العلاقات بين أبناء كركوك، بعيدا عن مشاريع السياسيين العراقيين الجدد ومخططاتهم التي تهدف إلى تقسيم العراق إلى أقاليم، على طريق تمزيقه وتفتيته.

وتطفو مناطق كركوك على مخزون هائل من النفط، وبدلا من أن تصل خيرات النفط إلى العراقيين هناك من يعمل على إشعال نار النفط فوق الأرض، وبسبب الطمع في هذه الثروة والتفكير الضيق ذي التوجهات الفئوية، الذي يزخر بالأنانية ولا علاقة له بالمشروع الوطني العراقي، فإن المحاولات جارية لإشعال النفط على أوسع نطاق.

ولهذا خصص السياسيون الجدد في العراق مادة في قانون إدارة الدولة الذي وضعه حاكم الاحتلال الأميركي بول بريمر، لمدينة كركوك هي المادة (58), كما خصصوا لها المادة (140) من الدستور.

وتشهد الاجتماعات والنقاشات وتقاسم المناصب والسلطات حوارات طويلة حول مستقبل مدينة كركوك حرصا من أصحاب هذا التوجه على الاستحواذ على ثروة المدينة النفطية، رغم وجود احتمالات قوية باشتعال المدينة بسبب طمع هؤلاء في نفط كركوك، الذي قد يتسبب في حرقها بالكامل.
ــــــــــــــ
كاتب عراقي

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.