تحولات الدولة العظمى البطيئة

تحولات الدولة العظمى البطيئة



خطة النهوض لكسب النصر
-سيناريو الاستدارة البطيئة
 أين المحافظون الجدد؟

هل تشكل إستراتيجية بوش الهجومية هروبا باتجاه المزيد من الحروب في المنطقة، بمعنى أن تطال سوريا وإيران، حسب ما سرب بعض المحللين والصحافيين؟

هنالك تحليلان، الأول يرى أن الرئيس بوش يهرب إلى الأمام رافضا تقرير بيكر هاملتون في تمرد أشبه بعقدة قتل الأب (أو مخالفة كل عقلانية من الأب لإثبات ذاته) عبر مشروع ديك تشيني في معهد أميركان إنتربرايز لوضع مخطط يغطي على المقترحات التي ظهرت من بيكر هاميلتون.

خطة النهوض لكسب النصر
هذه الخطة الجديدة مبنية على فكرة "نهوض" للجيش الأميركي يمكن أن يجلب النجاح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية عام 2008، حسب قولهم.

ففي 14 ديسمبر/ كانون الأول أصدر أحد أعضاء معهد أميركان إنتربرايز، فريدريك كيغان مشروعه الطوباوي "اختيار النصر: خطة للنجاح في العراق".

وشدد كيغان على أن إضافة 50 ألف جندي أميركي في العامين المقبلين في محافظة الأنبار المنطقة السنية سوف يكسر شوكة العدو ويجلب السلام والاستقرار للمنطقة.

"
خطة "نهوض" الجيش الأميركي في العراق بزيادة عدد جنوده يمكن أن تجلب النجاح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية في 2008, لكنها تواجه مشكلتين، الأولى أنها ستصطدم مع الرأي السائد في الجيش الأميركي بعدم نجاعتها والثانية أنها ستصطدم بالكونغرس
"

هذا المشروع تبنى منه بوش ثلثه أي تدعيم عديد القوات في بغداد حصرا. وحسب مصدر مطلع على المناورة الأخيرة للمحافظين الجدد (على شرف من الحزب الديمقراطي وحركة لاروش)، فإن مخطط فريدريك كيغان شقيق روبيرت كيغان وابن الشتراوسي (نسبة إلى أستاذه الفيلسوف ليو شتراوس) دونالد كيغان كانوا كلهم مشاركين، هو مخطط من أجل تكوين جبهة سنية من الدول "المعتدلة" ضد إيران والشيعة في الخليج وشرق البحر المتوسط, وذلك بالتحالف مع إسرائيل.

والمشتركون في مخطط كيغان هم باستثناء بعض الجنرالات المتقاعدين، الجنرال جاك كين والجنرال الملازم ديفد بارنو، والكثير من المشتركين في "مشروع القرن الأميركي الجديد "الذي على أساسه قامت الإستراتيجية الأميركية الجديدة في سبتمبر/ أيلول 2002 التي بدأت الحرب على العراق واعتبرت الإرهاب هو العدو الأساس.

وفتحت على مشروع الديمقراطية للمنطقة من أجل إعادة تشظيها في "مشروع القرن الأميركي الجديد"، الذي يتضمن أيضا المؤسسين توماس دونولي وغاري شميت. وغيرهم من المحافظين الجدد الذين اشتركوا في المخطط هم مايكل روبين ورويل مارك غيريشت ودانييل بليتكا.

ولم يدع تشيني مجالا للشك بأنه شخصيا مشترك في مخطط معهد أميركان إنتربرايز، وذلك حين ذكر في إذاعة (NPR) في 21 ديسمبر/ كانون الأول بأن كيغان وايليوت كوهين وغيرهم من المعهد قد التقوا الرئيس بوش في البيت الأبيض في الأسبوع نفسه وتلقوا دعما قويا من أجل مخططهم من أجل النهوض.

كل هذا جاء رغم اعتراض قادة القوات الأميركية على زيادة القوات الأميركية، معبرين عن أن القوات البحرية والجيش في نقطة انكسار ولا يتحملون انتشارا قتاليا إضافيا.

للخطة مشكلتان، الأولى أنها ستصدم مع الرأي السائد في الجيش الأميركي بعدم نجاعتها، والثانية أنها ستصطدم بالكونغرس.

فحسب ما علمت به مجلة (إكزكتف إنتلجنس ريفيو) من مصادرها في بغداد، كان قد عقد لقاء مهم بين وزير الدفاع الجديد روبرت غيتس وقائدي الجيش جون أبي زيد والجنرال كيسي وآخرين وقد سخروا تماما من مخطط "النهوض" هذا.

ففي لحظة ما سأل غيتس ما الفرق بين وجود 180 ألفا و140 ألف جندي في العراق؟ فرد عليه الجنرالات: الفرق هو وجود عدد أكبر من الأهداف عرضة للاستهداف (من قبل نيران العراقيين). لا توجد هناك أي فائدة عسكرية لهذا المخطط.

وكما أكد كثير من الخبراء العسكريين بأن أحد قواعد ومبادئ قوات حفظ السلام هو أنه إذا أرادت إدارة عملية حفظ سلام، خاصة وسط حرب أهلية وتطهير عرقي، فإن المتطلبات سوف تكون جندي واحد لكل 24/25 نسمة في البلد.

وبما أن العراق يسكنه 26 مليون نسمة فعليك الحساب وفقا لذلك، هذا يعني مليون جندي لإنهاء العنف في العراق، هذا لم ولن يحصل أبدا.

في الشق الثاني من المشكلة أن هذا السياق سيعني تحرشا بدول المنطقة كإيران وسوريا، وسيعني مزيدا من التفاف الأنشوطة حول رِأس الرئيس بوش، واصطداما حقيقيا في الكونغرس مع الحزب الجمهوري قبل الديمقراطي، نظرا لأن تقرير بيكر هاميلتون كان يعبر عن رأي الأمة الأميركية على المستوى السياسي في محاولة إيجاد (إستراتيجية خروج).

ما سيعني أنه يتمرد على المؤسسات ويحاول أن يركب رأسه إيديولوجيا، وهو سيكون حالة استثنائية في تاريخ السياسة الأميركية، ساحة عملياتها منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، وهو تحليل يبالغ في دور الإيديولوجيا في مرحلة أفولها، لكنه يصلح إذا كان بمثابة طلقة الرحمة للإيديولوجيات السياسية وقت انحسارها.

سيناريو الاستدارة البطيئة
التحليل الثاني يرى أن بوش لا يستطيع أن يخالف المؤسسة الحزبية وتقليد العمل السياسي الرسمي في الولايات المتحدة الأميركية، خاصة بعد خسارة الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ ومجلس النواب والتفوق في عديد حكام الولايات، ما سيعني انهيارا مقبلا على صعيد الانتخابات الرئاسية.

ويستدل على ذلك بأنه قد قام بما يوحي بأنه مقبل على تنفيذ تقرير بيكر هاملتون، مع إزاحة رمسفيلد وبولتون دون إعلانات استعراضية تعكس (هزيمته) التي تعني حسب ما جاء في بيانه الرئاسي هزيمة للولايات المتحدة، وهو ما لا تحتمله دولة عظمى بهذه الصورة.

المعلومات الواردة كما قلنا تذهب إلى أن وزير الدفاع الأميركي الجديد قد سخر من تقرير معهد أميركان إنتربرايز، المعقل الأساسي للمحافظين الجدد الذي رسم خطة هجومية وحاول رمسفيلد تسويقها في المنطقة قبل الخطاب الرئاسي ففوجئ بتساؤلات خليجية وعربية عن ماذا بعد؟، واعتبرها بمثابة انتحار لأنها ستعني مزيدا من الأهداف الأميركية في ساحة مفتوحة على المقاومة والإرهاب.

"
هامش الدول العظمى في تحركها ضيق بقدر كبرها كما هو حال القاطرة والمقطورة تحتاج إلى دائرة التفاف أوسع بكثير من دائرة التفاف السيارة العادية, محاولة لكسب الوقت من أجل أفضل صورة إستراتيجية خروج ولكن من موقع الآخر المهدد القوي والصلب
"

إلا أن هذا التحليل يقارب الأول في نقطة مركزية، وهي أن سياسة الهروب الظاهري إلى الأمام قد تفسح في المجال أمام إرساء هدوء (عنيف) مؤقت جدا للعمليات وتهدئة نسبية للحرب الطائفية، تفسح في المجال أمام تطبيق من موقع فيه (مهابة) لتقرير بيكر هاملتون، في وقت يتم فيه إرسال إشارات إلى إمكانيات فتح ملف السلام الشامل في المنطقة لاحقا وإشارة كوندوليزا رايس يوم 15/1/2007 بأن الوقت لم يحن لفتح ملف السلام الشامل في المنطقة.

إنها محاولة لكسب الوقت يمكن أن تقارن بالقرار الذي اتخذ عام 1968 للانسحاب من فيتنام ولم ينفذ إلا في نهايات النصف الأول من السبعينيات.

هذا هو حال الدول العظمى هامش تحركها ضيق بقدر كبرها، كما هو حال القاطرة والمقطورة تحتاج إلى دائرة التفاف أوسع بكثير من دائرة التفاف السيارة العادية، محاولة لكسب الوقت من أجل أفضل صورة إستراتيجية خروج ولكن من موقع الآخر المهدد القوي والصلب.

هذا التحليل يبقى أقرب إلى المنطق باعتباره يلج حقيقة أن العودة إلى السياسة الواقعية بديلا من السياسة الأيديولوجية هو أكثر من قرار أنه إستراتيجية سياسية لأمة فقدت بوصلتها إلى حين.

 أين المحافظون الجدد؟
المؤكد –أقله بالنسبة لنا- أن المحافظين الجدد لن يستسلموا بسهولة. خسروا الحرب: نعم، ولكن لا يريدون أن يخسروا المشروع. واضح أنهم يتراجعون تكتيكيا دون أن ينكفئوا.

لا يجوز في السياسة أن نتحدث عن خاسر أو رابح بالمطلق، خاصة في دول من نموذج الولايات المتحدة الأميركية.

نعم خرجوا من الواجهة، ولكن من أخطر من هو في صلب قضايا الشرق الأوسط هو زلماي خليل زاد، وانتقاله إلى الأمم المتحدة يعني تكتيكا لقنص فرص لاستكمال مشروع العماه الخلاق (Creative chaos)، الذي يترجم خطأ في أدبياتنا العربية الفوضى الخلاقة، فالمشروع ضد الفوضى لأنه لا يعترف أن بلدانا مثل العراق وسوريا ولبنان والسعودية يمكن لها أن تكون دولا أصلا.

إنها حسب هذا المشروع ليست أنظمة يجب خلق الفوضى بها، إنها حسب د.فؤاد عجمي وزلماي خليل زاد وبرنارد لويس -بدعم أعمى من ريتشارد بيرل ومايكل ليدن على اعتبار أن الاثنين أدرى بالمنطقة- لا يمكن أن تكون دولا، إنها عماه (chaos) لا يمكن أن تتشكل كدول، إنها متشظية إلى ملل ونحل وطوائف عشائر وأديان وإثنيات.. لا يمكن أن تكون مرجعتها دولا، ويجب أن تبقى شظايا.

يكمل عجمي وخليل زاد أن وجود أنظمة مركزية (يدعونها حسب أستاذهم الفيلسوف ليوشتروس طاغية) قد لَحَم ما لا يلحم وخلق نوعا من الوطنية اللاصقة التي حرمت الولايات المتحدة من السيطرة على تلك الشظايا.

للعودة للسيطرة عليها وتحريكها لا بد من إعادة تشظيها عبر إزالة الدول المركزية بدعوى الديمقراطية، مستفيدين من الخلط الدائم في الشرق العربي بين الشق المتعلق بالحريات العامة والشق المتعلق بتداول السلطة في الديمقراطية، خاصة أن الشق الأول له تداعياته وضروراته وهو ما يشكل هوية المزاج العام الشعبي.

"
اللعبة تتجسد في محاولة استبدال الصراع الشيعي السني بالصراع العربي الإسرائيلي, حيث الصراع الشيعي السني هو الطريق إلى التشظي وإلى إرساء العماه بديلا عن الدول المستقلة
"

هنا يكمن الفخ الذي يستكمل في الشق الثاني المتصل بتداول السلطة من حيثُ هي وسيلة لإعادة تشكيل التشظي الذي يلغي الدول ذات الاستقلال، فالملل والنحل والطوائف والعشائر والقبائل… كشظايا لن تكون لها مرجعيات وطنية، وهي الفرصة لرسم مرجعيات أميركية لدى تلك الشظايا، حيث يستدل على ذلك فؤاد عجمي بالنموذج اللبناني في مقالته الشهيرة في الـ(Foreign Affairs) حيث إن الديمقراطية اللبنانية كرست تشظي لبنان كطوائف بديلا من الدولة، وجعلت القوى السياسية مرهونة للخارج، والأولى حسب زلماي خليل زاد وفؤاد عجمي أن تكون الولايات المتحدة الأميركية هي المرجعية لهذه (الشظايا السياسية).

اللعبة تتجسد في محاولة استبدال الصراع الشيعي السني بالصراع العربي الإسرائيلي، حيث الصراع الشيعي السني هو الطريق إلى التشظي وإلى إرساء العماة بديلا عن الدول المستقلة.

ويأتي إعدام صدام حسين بهذه الطريقة وما تلاها من فصل رأس برزان هي آخر رسائل المحافظين الجدد وممثلهم في العراق (قبل أن يرحل إلى الأمم المتحدة) زلماي خليل زاد من أجل تسعير الخلاف الطائفي، خاصة مع محاولة شيطنة (مقتدى الصدر) بإدراجه في الفيديو المسرب والسيناريو المسرحي لتوقيع رئيس الوزراء المالكي قرار الإعدام تلفزيونيا.

كل ذلك يسعر محاولة غسل دماغ العامة من الناس تجاه الشيعة، وبالتالي ما يستتبع ذلك إحراج حزب الله ولجمه والإساءة إلى صورة هذه المقاومة التي تجاوزت طائفتها ودينها ودولتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.