كيف اكتشف العلماء بنية المادة الوراثية عبر استغلال خلاط المطبخ؟

عبر أعوام متعاقبة حاول الباحثون اكتشاف المكون الرئيس للمادة الوراثية؛ إلى أن تمكن العالمان ألفريد هيرشي ومارثا تشيس من إثبات احتواء الجينات على الحمض النووي وليس على البروتينات.

في عام 1900 استطاع الباحثون تحديد البنية الكيميائية للحمض النووي (شترستوك)

منذ 70 عاما، وتحديدا في 20 سبتمبر/أيلول عام 1952، نُشرت نتائج أحد أهم التجارب في تاريخ البيولوجيا الحديثة، وهي تجربة "خلاط وارنغ" (Waring blender experiment)، المعروفة أيضا باسم تجربة "هيرشي- تشيس" (Hershey-Chase).

وخلال تلك التجربة سعى الباحثان ألفريد هيرشي ومارثا تشيس إلى حل الخلاف الشائع خلال تلك الفترة المتعلق بطبيعة الجينات (المادة الوراثية) والإجابة عن سؤال: هل "الحمض النووي" (DNA) هو المسؤول عن نقل الصفات الوراثية من جيل لآخر، أم أن ذلك الدور يقع على عاتق البروتينات؟

ونتيجة لإسهاماته المتعددة في الكشف عن خصائص المادة الوراثية للفيروسات، حصل عالم الجينات هيرشي على جائزة نوبل في تخصص "علم وظائف الأعضاء أو الطب" في عام 1969، بالشراكة مع العالمين ماكس دلبروك وسلفادور لوريا.

اعتقادات متباينة بشأن طبيعة تكوين الجينات

تؤدي الجينات عدة أدوار مهمة، منها التحكم في نمو الكائنات الحية المختلفة عبر العمل على توجيه الجسم إلى صناعة البروتينات ذات الوظائف المتعددة، كما يقع على عاتقها دور نقل الصفات الوراثية الجسمية والحيوية بين الأجيال المتعاقبة.

وفي عام 1900 استطاع الباحثون تحديد البنية الكيميائية للحمض النووي، كما أثبتوا أن الحمض النووي مكون أساسي من مكونات الخلايا، إلا أن علماء عدة اعتقدوا أن الجينات مصنوعة من البروتينات، لا من الحمض النووي.

ودعمت فرضية العالم فيبس ليفين الباحث بمعهد روكفلر للأبحاث الطبية بمدينة نيويورك، المسماة "فرضية النوكليوتيد الرباعي" (Tetranucleotide hypothesis) ذلك الاعتقاد. وهي الفرضية التي أشارت إلى امتلاك الحمض النووي لعدد محدود من وحدات البناء، ما يعني عدم امتلاكه المرونة الكافية المطلوبة لحمل الصفات الوراثية الكثيرة، بعكس البروتينات التي تمتلك وحدات بنائية أكثر.

عام 1944 ثبت تحول أحد أنواع بكتيريا المكورات الرئوية إلى نوع آخر عبر تأثير "قاعدة التحويل" (شترستوك)

بدء الربط بين الحمض النووي والمواد الوراثية

في عام 1928 أجرى العالم فردريك غريفث عدة تجارب على نوعين من أنواع بكتيريا المكورات الرئوية، لاحظ خلالها ظاهرة فريدة خاصة بالبكتيريا وأطلق عليها "قاعدة التحويل" (Transformation principle).

وخلال التجارب لاحظ غريفث تحول الخلايا البكتيرية من النوع غير السام إلى السام عبر الجمع بين نوعي البكتيريا، ما يعني انتقال المادة الوراثية بينهما، إلا أنه لم يستطع تحديد ماهية تلك المادة.

وأيد لاحقا الباحث أوزالد أفري هذه القاعدة عام 1944، وأثبت وزملاؤه أن المادة الوراثية التي تتنقل من بكتيريا لأخرى تتضمن أجزاء من حمضها النووي، ما وضع حجر الأساس لتبني فرضية احتواء الجينات على الحمض النووي.

تجربة خلاط وارنغ تحسم الجدل

نشر ألفريد هيرشي ومارثا تشيس ورقتهما البحثية عام 1952 بعد إجراء عدة تجارب لتحديد المادة المكونة للجينات، واعتمدت التجارب على استخدام فيروس "بكتيريوفيج تي-2" (Bacteriophage T-2)، وهو أحد الفيروسات التي تُصيب بكتيريا "إي كولاي" (E-coli) وتُسبب موتها.

ووجد الباحثان أن الفيروس يُصيب البكتيريا عبر التعلق بغشائها الخارجي ومن ثم حقنها بالمادة الوراثية بهدف التكاثر داخلها. ولتحديد نوع المادة المحقونة داخل البكتيريا استخدم الباحثان تقنية "وسم النظائر المشعة" (Radioactive isotope labelling)، وتعني حقن مادة مشعة داخل كلا من البروتين الفيروسي وحمضه النووي بهدف تتبعهما.

وبعد إصابة البكتيريا بالفيروس ذي المادة المشعة، استخدم العالمان خلاط وارنغ لتدمير البكتيريا وفصل مكوناتها عن طريق دوران الخلاط، في إجراء يُشبه تقنية الطرد المركزي، وخلاط وارنغ جهاز تقليدي يُستخدم في المطبخ لأغراض إعداد الطعام والمشروبات.

وبتحليل المكونات المفصولة وجد الباحثان أن الحمض النووي المشع هو المادة المنقولة داخل البكتيريا لا البروتين، الأمر الذي حسم نهائيا الجدل الدائر عن مكونات الجينات.

وقد توالت الأبحاث خلال الأعوام التالية التي ساهمت في تطوير مفهومنا عن دور الحمض النووي وبنيته، ولعل أشهرها اكتشاف العالمين واتسون وكريك بنية الهيكل الحلزوني المزدوج للحمض النووي عام 1953، واكتشاف جون تجين تجو الكروموسومات الـ46 الموجودة في الخلايا البشرية عام 1955.

المصدر : مواقع إلكترونية