البابا في منغوليا والعين على الصين

بابا الفاتيكان جالسا على كرسي خارج كاتدرائية القديسين بطرس وبولس الكاثوليكية في أولان باتار (الأوروبية)

من أجل 1450 كاثوليكيا فقط قطع بابا الفاتيكان فرانشيسكو (86 عاما) مسافة 8278 كيلومترا، من روما مقر الكرسي الرسولي، إلى أولان باتور، عاصمة منغوليا، حيث يوجد غالبية هذا العدد المتواضع من الكاثوليك.

ويختتم فرانشيسكو، اليوم الاثنين، زيارته إلى منغوليا التي استغرقت 4 أيام، وحملت شعار "الأمل معا " ليصبح بذلك أول بابا في التاريخ يزور منغوليا، في رحلة هي الـ43 له، وتصبح منغوليا الدولة الـ61 التي يزورها خلال فترة بابويته المستمرة منذ عقد من الزمن.

ومنذ انتخابه في 13 مارس/آذار عام 2013، زار البابا الأرجنتيني 12 دولة في الأميركتين، و11 دولة في آسيا، و10 دول في أفريقيا. وعلى الرغم من أن المقربين منه يقولون إنه شخص يكره السفر، فإنه قال للصحفيين أكثر من مرة إنه يريد السفر إلى بلدان ومدن لم يزرها أي بابا من قبل.

الهدف المعلن لزيارة البابا إلى منغوليا -بلاد جنكيز خان مؤسس الإمبراطورية المغولية، إحدى أضخم الإمبراطوريات فى التاريخ- هدف "رعوي". وتعليقا على تواضع عدد الكاثوليك هناك قال الكاردينال جورجيو مارينجو، مبعوث الكرسي الرسولي إلى منغوليا، "إن الزيارة تظهر أنه لا يوجد أحد مهملا، بغض النظر عن حجم المجتمع أو صغره، أو مدى بعده، أو مهما كان الوضع الذي هم فيه. الجميع جزء من عالمية الكنيسة الكاثوليكية".

البابا لدى توجهه لحضور اجتماع مسكوني بين الأديان في مسرح بالعاصمة المنغولية (الأوروبية)

منغوليا والدين

منغوليا التي حكمتها الشيوعية 70 عاما تقدم نفسها حاليا كأمة بوذية، على الرغم من أن معظم الناس هناك لا ينتمون إلى المعابد البوذية، ولا يمارسون أي دين، ولا تزال بقايا المشاعر المعادية للدين من الحقبة الشيوعية موجودة داخل الدوائر الإدارية.

وحسب بيانات وزارة الخارجية الأميركية فإن حوالي 60% من المنغوليين البالغ عددهم حوالي 3.3 ملايين يعتبرون أنفسهم متدينين. ومن بين هؤلاء 87.1% بوذيون، و5.4% مسلمون، و4.2% شامانيون، و1.1% أتباع ديانات أخرى.

وصل أول المبشرين الكاثوليك المعاصرين إلى منغوليا في عام 1992، بعد أن طلبت من الفاتيكان الاعتراف بها، والمساعدة في تلبية الاحتياجات الاجتماعية. فاستجاب الكرسي الرسولي بإرسال مبشرين من مختلف أنحاء العالم: بلجيكا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وكوريا الجنوبية، والفلبين.

كما كانت لـ"منظمة كاريتاس الدولية"، وهي المنظمة الخيرية العالمية التابعة للفاتيكان، بصمة في منغوليا منذ عام 2000، من خلال 7 برامج مساعدات تشمل التعليم، والمساعدات الاجتماعية والإنسانية، والأمن الغذائي والزراعة، والهجرة، ومشاريع بناء في المناطق الريفية، فضلا عن الحد من تداعيات الكوارث الطبيعية.

وعلى الرغم من ذلك يشكو الفاتيكان من أن تأشيرات المبشرين الأجانب في منغوليا، قصيرة الأجل حيث يضطرون إلى السفر للخارج كل 3 أشهر دون التأكد مما إذا كان سيسمح لهم بالعودة أم لا رغم أن بعضهم عمل هناك لمدة 20 عاما، وتعلموا اللغة المحلية.

بالإضافة إلى ذلك، تطلب الحكومة المنغولية رسوما كبيرة مقابل كل تأشيرة تبشيرية، وتشترط توظيف عدد من مواطنيها المحليين في المشاريع الكاثوليكية. ويعد هذا الموقف المتناقض للإدارة تجاه الكاثوليك من القضايا الداخلية الرئيسية التي يأمل الفاتيكان في مناقشتها مع الحكومة.

ورغم ذلك لا تخلو زيارة البابا من أبعاد جيوسياسية تتعلق في المقام الأول بالموقع الإستراتيجي لمنغوليا بين الصين جنوبا وروسيا شمالا، وهما الدولتان اللتان تشكلان حاليا اهتماما بالغا لدى الفاتيكان الذي يسعى إلى تحسين وضع الكاثوليك في الصين والذين يقدر عددهم بـ12 مليون نسمة وسط علاقات متوترة مع الحكومة الشيوعية.

النفوذ الصيني

كانت منغوليا جزءا من الصين حتى عام 1921، وما زالت تتمتع بعلاقات وثيقة مع بكين، ويرى دبلوماسيون أنه يمكن استخدامها كوسيط مع الصين التي تعد أكبر سوق لصادرات منغوليا، من الفحم والنحاس والصوف، كما تعتمد على شبكة السكك الحديدية الصينية لتصدير بضائعها إلى دول أخرى.

ومنذ انهيار الحكومة الشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفياتي في عام 1990 شهدت منغوليا محاولات إحياء البوذية التبتية التي يعتبر الدالاي لاما الزعيم الروحي الرئيسي لها. لذلك، مارست الصين ضغوطا متكررة على منغوليا حتى لا تسمح للزعيم التبتي المنفي البالغ من العمر 88 عاما بالزيارة، ووصفته بأنه "انفصالي خطير".

وردا على سؤال عن النفوذ الصيني قال الأب بول ليونغ، مندوب الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في منغوليا، "إن الصين ومنغوليا عدوان تقليديا، لذلك حتى اليوم لا يحب العديد من المنغوليين الصين".

البابا أبدى رغبته في زيارة الصين منذ توليه منصبه الديني قبل 10 سنوات (الأوروبية)

العين على الصين

منذ أن أصبح رئيسًا للكرسي الرسولي قبل 10 سنوات، أبدى البابا فرانشيسكو اهتمامًا بالصين. وقال إنه يريد زيارة البلاد، وأرسل برقية إلى الرئيس الصيني شي جين بينغ.

ومن المفارقات أن البابا فرانشيسكو تولى منصبه في 13 مارس/آذار 2013 قبل يوم واحد فقط من تولي شي جين بينغ منصب الرئاسة في الصين، وأرسلت وزارة الخارجية الصينية برقية تهنئة طويلة إلى البابا انطلاقا من النظرة إليه كمدافع عن "لاهوت التحرر" في أميركا اللاتينية المتعاطف مع الماركسية.

وفي عام 2014 أصبح فرانشيسكو أول بابا يحلق فوق المجال الجوي الصيني وذلك خلال زيارته لكوريا الجنوبية والفلبين. وخلال تحليق طائرته في الأجواء الصينية أرسل رسالة ودية إلى شي والشعب الصيني، معربًا عن استعداده "لزيارة الصين في أي وقت".

وفي 14 سبتمبر/أيلول من العام الماضي، كان البابا فرانشيسكو وشي جين بينغ في العاصمة الكازاخستانية أستانا، وكان الرئيس الصيني هناك في زيارة دولة قصيرة قبل أن يتوجه إلى أوزبكستان. لكنه رفض مقابلة رئيس الكنيسة الكاثوليكية حسب ما أكدت مصادر الفاتيكان في ذلك الوقت.

تباين

على الرغم من أن الفاتيكان أصغر دول العالم مساحة (0.4 كيلومتر مربع)، وسكانا (519 نسمة) وأن الصين رابع أكبر دول العالم مساحة (9.6 ملايين كيلومتر مربع) وكانت حتى وقت قريب أكثر دول العالم سكانا (1.412 مليار نسمة)، فإن دولة الفاتيكان الدينية التي يحكمها الكرسي الرسولي تدير الشؤون الدينية للكاثوليك في جميع أنحاء العالم الذين يقترب عددهم من عدد سكان الصين.

وفي الوقت الحالي، لا توجد علاقات دبلوماسية بين جمهورية الصين الشعبية والفاتيكان؛ وبدلاً من ذلك يعترف الكرسي الرسولي بحكومة جمهورية الصين في تايوان. كما أن الصين لا تسمح لمواطنيها الكاثوليك بالاعتراف بسلطات البابا.

"تصيين" الدين

بعد استيلاء الحزب الشيوعي الصيني على السلطة عام 1949، تم طرد المبشرين الكاثوليك والبروتستانت من البلاد ووُصفت المسيحية عموما بأنها "مظهر من مظاهر الإمبريالية الاستعمارية الغربية"، وبعد 8 سنوات، أنشأت الحكومة الصينية "الجمعية الوطنية الكاثوليكية الصينية" التي ترفض سلطة الكرسي الرسولي وتقوم بتعيين أساقفتها التفضيليين.

ولكن منذ سبتمبر/أيلول 2018، تم التوصل إلى اتفاق مؤقت لمدة عامين ثم تجديده لمدة عامين آخرين في عام 2020 يمنح البابا سلطة الاعتراض على أي أسقف توصي به الحكومة الصينية، ومع ذلك زعمت الكنيسة أن هذا الاتفاق قد تم انتهاكه في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 ويوليو/تموز 2023 عندما تم تعيين أسقفين دون موافقة مسبقة أو تشاور مع الفاتيكان.

ومن المقرر أن ينتهي الاتفاق في أكتوبر/تشرين الأول المقبل. فهل سيتمكن الجانبان من تجديده أو التوصل إلى اتفاق رسمي ودائم قبل ذلك الوقت؟

تتبع بكين سياسة "إضفاء الطابع الصيني" على الدين، في محاولة لاستئصال التأثيرات الأجنبية وفرض الطاعة للحزب الشيوعي. وتشير تلك السياسة إلى خوف بكين من السيطرة الأجنبية على الممارسات الدينية داخل الحدود الصينية وتعتبرها مسألة تتعلق بالأمن القومي.

ويعمل الرئيس شي جين بينغ على تعزيز الدور المهيمن الذي يلعبه الحزب الشيوعي الصيني في كافة المجالات، بما في ذلك الدين، منذ عام 2012، زاعما أن " الحزب يمارس القيادة الشاملة في كل مجالات النشاط في كل جزء من البلاد".

وفي محاولة لطمأنة بكين قال البابا فرانشيسكو أول أمس في كلمة له بالعاصمة المنغولية "إن الحكومات ليس لديها ما تخشاه من الكنيسة الكاثوليكية لأنه ليس لدينا أجندة سياسية".

وفي خطاب للأساقفة والكهنة والمبشرين والعاملين الرعويين، قال البابا "إن يسوع لم يمنح تفويضا سياسيا لرسله، لكنه طلب منهم تخفيف معاناة الإنسانية الجريحة من خلال الإيمان".

وأضاف "لهذا ليس لدى الحكومات والمؤسسات العلمانية ما تخشاه من عمل الكنيسة التبشيري، لأنه ليس لديها أجندة سياسية للتقدم، ولكنها تدعمها قوة نعمة الله الهادئة ورسالة الرحمة والحق"، والتي تعني "تعزيز الخير للجميع".

المنسيون

بالمناسبة تقدر نسبة المسلمين في الصين -حسب الإحصاءات الرسمية- بـ1.6%، وتذكر موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي أنّ عدد المسلمين وصل إلى 150 مليون مسلم في الصين في أواخر القرن الماضي، وذلك بحسب إحصائيات عام 1992 أغلبهم من أهل السنة والجماعة ينتمون إلى 10 قوميات، ومنها: الأوزبك والإيغور وسالار من الأتراك، وهوي من الصينيين، وباوان من المغول، والقازان، وغيرها من القوميات.

ويعيش هؤلاء في بكين وشنغهاي وغيرهما من المدن الكبرى، لكن أغلبهم يعيش في تركستان الشرقية شمال غرب البلاد والتي تطلق عليها الصين اسم إقليم شنغيانغ، وحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان صدر في 31 أغسطس/آب 2022 فإن هناك "انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ترتكب بحق أقلية الإيغور المسلمة في شنغيانغ ترقى إلى حد جرائم ضد الإنسانية".

ويعاني هؤلاء تحديات وجودية وسياسات عنصرية وتمييزية سلبية واضطهادا في صور مختلفة تقوم بها الحكومات المركزية في بكين، وينتظرون قيادة سياسية أو دينية تهتم بمعاناتهم التي لا تذكر إلا لماما وفي إطار التوظيف السياسي الغربي الموسمي لها، فهل يجدون من يتذكرهم مقارنة بالآخرين؟!

المصدر : الجزيرة