جئنا حفاة عراة.. نازحون أذربيجانيون في قره باغ يروون حكايات النزوح والرعب والأمل

لاله زار حسنوفا - تقرير من قرة باغ
لاله زار حسنوفا تتشوق للعودة إلى قريتها (الجزيرة)

قره باغ- على بعد 3 كيلومترات من خط النار، ومن أمام بيتها المدمر الذي دفنت فيه قذيفة أرمينية فلذة كبدها، جلست لاله زار حسنوفا تندب حظها العاثر وتروي حكايات النزوح والمعاناة.

لا تفتأ لاله ترسل طرفها بعيدا في الأفق، ثم تهوي به إلى مستقر الوادي أسفل قرية حسن قايا في إقليم ناغورني قره باغ، حيث الخضرة والجمال، ثم ترجعه كَرّة مع التفاتة حزينة إلى بيتها المدمر، حيث دُفنت ابنتها ذات الـ16 ربيعا، في قصف عنيف للقرية نفذه الأرمن أبريل/نيسان 2016.

حكت لاله (60 عاما) عن كل المرارات التي قاستها أيام النزوح الطوال، وعن لحظات الفرار قبل نحو 30 عاما حين باغتهم الجيش الأرميني عام 1993 في قريتهم الوادعة في منطقة كلبجار، فاستحال الأمن خوفا وأيام الصفو إلى بؤس وشقاء.

تقول لاله، وهي ترسل زفرات بين الفينة والأخرى، "جئنا حفاة عراة بدون أي شيء وأقمنا في هذه القرية التي فر أهلها منها مع اقتراب الجيش الأرميني"، وكانت وقتها لا تبعد عن خط النار إلا كيلومترا واحدا، بينما اتسع الفاصل مع الجبهة إلى 3 كيلومترات، إثر الحرب الجديدة عام 2020.

ولا تبعد منطقة كلبجار، حيث مسارح اللهو ومعاهد الصبا، عن قرية حسن قايا، أكثر من 60 كيلومترا، ولكن الوصول إليها يتطلب سلوك طريق التفافي يصل إلى 450 كيلومترا لتجنب قطاعات الجيش الأرميني، مع أن الحكومة الأذربيجانية لم تسمح بعد للنازحين بالعودة إلى قراهم، منتظرة تطهيرها من حقول الألغام التي زرعها الجيش الأرميني في كل مكان.

ولا تخفي لاله شعورها بالضيق من التساؤل عن أوجه الشبه بين حياتها في كلبجار وأيامها في قرية حسن قايا، فتقول "لا وجه للمقارنة بين حياتنا هناك في مسقط رأسي، حيث تتجمع 7 أنهار في منطقة صوقوفشان -التي تعني باللغة الأذربيجانية ملتقى المياه- وحيث جميع الفواكه، إنها الجنة، لم نكن نعرف كلمة ’سوق‘؛ حيث كان يتوفر جميع أنواع الفواكه والخضار واللحوم والألبان في بيوتنا.. لا تمكن مقارنة ذلك بحياة البؤس هنا، حيث لا غاز تدفئة، وحيث المشاكل في التزود بالماء والكهرباء".

وتضيف أن الأرمن قطعوا عنهم عام 1996 مجرى نهر ترتر الذي يمر عبر كلبجار، "فاستحالت حياتنا إلى جحيم".

2. جوليات حسنوفا - تقرير من قرة باغ
جوليات حسنوفا فقدت عينها بقذيفة مدفع أرمينية (الجزيرة)

ليست الوحيدة

ولا يختلف وضع لاله زار حسنوفا عن مآل كثير من قريناتها في هذه القرية، فهذه جوليات حسنوفا ذات الـ39 ربيعا، النازحة من قريتها كلبجار في "عمليات تطهير عرقي على يد الأرمن" عام 1993، وقد أصابتها قذيفة مدفع تسببت لها في عمى إحدى عينيها وإصابات بالغة في بطنها، وأضحت تصاب بنوبات إغماء، وقد خضعت لعمليات إنبات شعر بعد أن اقتلعت القذيفة منابت شعر رأسها كليا.

تقول جويليات -وهي أم لطفلين وزوجها نازح من لاتشين وقد قتل عام 2014 بسبب لغم أرضي- إن الحادثة وقعت لها وهي في حالة فرار على رجليها بعد أن تعرضوا لقصف مدفعي في أثناء الحرب الأخيرة عام 2020، أدى لتدمير بيتها بالكامل.

وتنتشر قرى النازحين على مناطق واسعة من قره باغ، لم تخضع للاحتلال الأرميني، وفي غيرها من مناطق أذربيجان.

وفي ضاحية محافظة ترتر على بعد 327 كيلومترا من العاصمة باكو، مررنا على 34 بناية يعيش فيها 5300 شخص جميعهم نازحون، في أنموذج لتلك التجمعات السكنية المنظمة التي بنتها لهم الدولة.

وتقدر الحكومة الأذربيجانية عدد النازحين الفارين من ديارهم في حرب قره باغ الأولى بنحو مليون شخص.

3. أحد تجمعات النازحين من مناطق الصراع في إقليم قرة باغ - تقرير من قرة باغ
أحد تجمعات النازحين من مناطق الصراع في إقليم قره باغ (الجزيرة)

دعم المجتمع المدني

وينشط المجتمع المدني في مساعدة النازحين. وتقوم مؤسسة أوراسيا الدولية، فضلا عن مكافحة الألغام، بدور اجتماعي كالتدريبات المهنية، مثل دورات الخياطة والحلاقة والطهي والحاسب الآلي، ومساعدتهم في ابتداء مشروعات صغيرة، وفق تصريح أوغوز أومود، مدير المكتب الإقليمي للمؤسسة في منطقة قره باغ، لمركز الجزيرة للحريات.

وقد استحكمت حلقات الصراع ذي الجذور الممتدة لعشرات السنين مع هجومين أرمينيين رئيسين في 1992 و1993، وقتل فيهما حوالي 30 ألف شخص، وأصبح مئات آلاف الأذربيجانيين في عداد النازحين، وازداد اشتداد وطأته مع الحرب الأخيرة عام 2020.

لكن تلك الحرب بمعطياتها الميدانية التي رجحت كثيرا لصالح أذربيجان -بفعل الدعم التركي الذي يشيد به الجميع هنا- أتت بآمال عراض للنازحين، حيث تحررت العديد من مدنهم وقراهم، ومنها كلبجار ذاتها.

وتقول لاله زاره حسنوفا إنها، رغم ما قاسته، تنظر الآن بشيء من الأمل إلى الحياة، بعد الحرب الأخيرة، وهذا الشعور ذاته تشاطرها فيه جوليات حسنوفا، التي تقول إنها تعيش على أمل العودة، وإنها مستعدة للعودة إلى موطنها "ولو على ركبي"، وإنها لا تنتظر إلا إشارة من الحكومة بأن الأرض أضحت آمنة.

المصدر : الجزيرة