تجري من تحتها الأنهار وتحرم الماء.. التعطيش سبيل آخر للاحتلال لتهجير قرى الأغوار

الاحتلال يحرم سكان الفروش من مياه الأمطار المتدفقة لإجبارهم على الرحيل (الجزيرة)

الأغوار الوسطى – بلغت الشمس كبد السماء معلنةً انتصاف النهار ومؤذنة للمزارع الفلسطيني مجاهد كنعان بمواصلة عمله وانتهاز ساعات النهار المشمسة بعد أسبوع ماطر لنزع الحشائش الزائدة التي نبتت بين محصوله من الفول البلدي.

في قرية "فروش بيت دجن" بالأغوار الوسطى بالضفة الغربية، يصل المزارعون ومعهم كنعان ليلهم بنهارهم في رعاية زراعتهم ليحظوا بربح قليل يُعوِّض خسارة ومعاناة يسببها الاحتلال الإسرائيلي، كان آخرها هدم إحدى البرك الزراعية قبل أيام بحجة عدم الترخيص ووقوعها بمنطقة "سي".

وفي جولة اصطحبنا كنعان في أرضه ليرينا عن قرب كيف أنه قبل 20 عاما اقتلع كل أشجاره من الحمضيات (ألفي شجرة) وتحوَّل لزراعة الخضروات ولا سيما الشتوية، محاولا التخفيف من استخدامه للمياه التي تصادرها إسرائيل أصلا من باطن الأرض وظاهرها.

ويقول كنعان إن الهدم الأخير طال بركة خصصها الأهالي لمياه الشرب بسعة 500 كوب، وأخرى للري، "بل حرمنا الانتفاع من مياه الأمطار المتدفقة عبر الأدوية".

ثائر خطاطبة فرّ من جور المستوطنين في طانا ليجده مضاعفا في فروش بيت دجن (الجزيرة)

الماء والهدم وأشياء أخرى

وليس بمنع الماء وحده يعاقب الاحتلال سكان الفروش لتهجيرهم، فهو يحظر البناء الجديد وترميم القديم، وهذا واقع تواجهه معظم منازل القرية المبنية من الطين أو الإسمنت المسقوف بالصفيح لتفادي الهدم الاحتلالي.

ثمة شيء آخر لا تقل فيه معاناة السكان، وهو تقليص مساحات الرعي وملاحقة أصحاب الماشية التي تناقصت من أكثر من 20 ألف رأس قبل عقدين إلى نحو ألفين الآن، منها 100 هي كل ما تبقى للمواطن ثائر خطاطبة (39 عاما) من أصل 200 رأس دفعه سوء الحال وضيق المكان وملاحقة الاحتلال لبيعها.

وجدنا خطاطبة يرعى أغنامه على بعد مئات الأمتار من منزله في أرض صنفها الاحتلال بأنها "مناطق عسكرية"، فالاحتلال يقسم القرية لمناطق "سي" وأخرى عسكرية، وبالتالي يحظر عليه الاقتراب منها، وأي خرق سيعرضه للمساءلة والتغريم ماليا وربما الاحتجاز له ولماشيته.

المزارع مجاهد كنعان يقف قرب بركة الماء التي هدمها الاحتلال من وقت قريب (الجزيرة)

قبل 11 عاما لجأ خطاطبة للعيش في "الفروش" قادما من خربة طانا القريبة هربا من جور المستوطنين وجيش الاحتلال، الذي هدم مسكنه 3 مرات في الخربة وشرَّده وأغنامه في العراء، ويقول للجزيرة نت "هنا الحال ليست أفضل، فالاحتلال يخطرنا بهدم حظيرة الأغنام ويلاحقنا على قطرة ماء".

وتصادر إسرائيل 11 ألف دونم (الدونم يساوي ألف متر مربع) من أصل 14 ألف دونم هي كل أراضي الفروش، وتصنف ما تبقى -وهي 3 آلاف دونم- مناطق "سي"، أي الخاضعة لسيطرتها الأمنية، وبالتالي لا متنفس للأهالي إلا بموافقة الاحتلال، وهذا ينعكس بتردي بنيتها التحتية والخدمية.

وبالمقابل يسيطر "كوكي" -وهو مستوطن إسرائيلي- على أكثر من 25 ألف دونم من أرض الفروش والمناطق المحيطة بها، بل قام بمساعدة سلطات الاحتلال بشق طريق في الجبل خلال أسبوع فقط يوصله للبؤرة الاستيطانية التي يشيدها فوق القرية.

كما تجثم مستوطنتا "الحمرة" و"ميخورا"، التي يقطنها بضع عشرات من المستوطنين، على أراضي القرية، إضافة إلى وجود معسكر للجيش وحاجز عسكري يحاصرها ويتلذذ بتعذيب المارين إليها عبره.

يشيد المزارعون بركا من الصفيح وأخرى من التراب لجمع مياه الأمطار ولكن الاحتلال يهدمها (الجزيرة)

زراعات أخرى رغم تنغيصات الاحتلال

وحسب توفيق الحج محمد منسق لجنة الدفاع عن فروش بيت دجن، المياه "سر القرية" وسبب استهداف الاحتلال لها وحرمانه سكانها من أبسط احتياجاتهم.

ويقول محمد للجزيرة نت التي التقته في مزرعته التي توصف بأنها وأخرى قريبة منها آخر معاقل شجر الحمضيات الذي شكَّل "بطاقة تعريف" لقرية الفروش في تسعينيات القرن الماضي بإنتاجها 50% من سلة الحمضيات الفلسطينية آنذاك، "كانت تصدر للأردن فقط 30 طنا يوميا على مدى 5 أشهر بأفضل الأسعار وأعلى جودة".

وبعد العام 2000، يردف محمد، تحوّل سكان الفروش وبشكل تدريجي للزراعات الشتوية وأخرى عبر الدفيئات التي لا تحتاج لمياه كثيرة ويُتحكَّم في ريِّها، وهنا شيَّد المزارعون بركا من الصفيح والتراب لجمع مياه الأمطار وتلك المستخرجة عبر الآبار، ورغم ذلك فإن الاحتلال يلاحقها بالهدم.

وبمقارنة بسيطة أدركنا حجم سيطرة إسرائيل على مياه الفروش وعنصرية توزيعها، فمن أصل 5 آبار ارتوازية فلسطينية بقيت 3 فقط بعد أن جفت اثنتان منها بفعل 3 آبار شبيهة حفرها الاحتلال بأعماق أكبر وتجري لها صيانة دورية، وبالمقابل يمنع الفلسطينيون من صيانة آبارهم أو منحهم تراخيص لأخرى جديدة أو حتى إقامة برك لجمع المياه.

وبينما تضخ البئر الفلسطينية بأحسن أحوالها 100 كوب في الساعة، تنتج نظيرتها الإسرائيلية 700 كوب ينقلها عبر أنابيب أضخم وأوسع من مثيلتها الفلسطينية إلى مستوطنات البحر الميت التي تبعد 40 كيلومترا.

وجفَّف الاحتلال الينابيع المغذية للفروش كنبع "عين شبلي"، ومنع الاستفادة من مياه الأمطار الجارية عبر الأدوية، وقطع أنابيب يقول إنها "غير قانونية" وصلها بعض المزارعين سرا بشبكة المياه الإسرائيلية التي كلفتهم مبالغ كبيرة تبلغ 10 آلاف دولار أميركي للخط الواحد، بل يغرم من يقوم بذلك ويعتقله أحيانا ويحتجز معداته "وقد حصل أن غرَّم أحدهم 15 ألف دولار أميركي قبل مدة"، يؤكد الحج محمد.

بئر ارتوازية إسرائيلية ضمن أخرى يحفرها الاحتلال بأعماق كبيرة لتجفيف مياه الفلسطينيين في الفروش (الجزيرة)

المدرسة.. "طابو" القرية وعنوان صمودها

ومن المفارقة أن قرية الفروش التي يقطنها ألف نسمة الآن (كانوا 7 آلاف قبل عام 1967 وتناقصوا بعد احتلال الضفة الغربية) تتلقى خدماتها من مياه الشرب والكهرباء عبر مدرسة القرية لكونها مرخصة إسرائيليا، ويعتبرها السكان "الطابو" الذي عزَّز وجودهم بالقرية، في حين يرى الاحتلال ترخيصه لها قبل 4 عقود "خطيئة كبرى"، يقول الحج محمد.

وبكل قوته يسعى الاحتلال لتهجير "فروش بيت دجن" وتفريغها من السكان، ويعرقل كل الخدمات المقدمة بعدم منحه التراخيص المطلوبة سواء لتوصيل الخدمات أو لبناء المنازل، المهدم جزء منها ومخطر معظمها بالهدم.

وبهذا يطبق الاحتلال خطة "الضم والتوسع" على قرية الفروش كجزء من خطة إيغال ألون -وزير الزراعة الإسرائيلي الأسبق- الهادفة لعزل كامل الأغوار الفلسطينية والسيطرة عليها لا سيما أنه الآن يضع يده على 88% منها عبر عشرات المستوطنات ومعسكرات الجيش.

ويقول عازم الحج محمد رئيس مجلس محلي فروش بيت دجن إن قريته تتربع على خزان مائي كبير، وهذا هو سبب استهدافها المباشر، فإسرائيل تسيطر على 83% من مياه الفلسطينيين.

وإضافة للمياه، هناك أسباب أمنية وأخرى "دينية توراتية" يريد الاحتلال عبرها تهويد الفروش؛ "فهي تحتل موقعا إستراتيجيا بفصلها شمال الضفة عن جنوبها وتسير بمحاذاة خط ألون الاستيطاني".

جنة على الأرض يراها أهلها، وكنز مائي وإستراتيجي يعدها الاحتلال، "والبقاء لصاحب الحق وليس للأقوى" يقول الأهالي.

المصدر : الجزيرة