ضحايا الجريمة غير المرئية.. العبودية الحديثة في فرنسا ليست سهلة الإثبات

ضحايا العبودية الحديثة في كثير من الأحيان يكونون أشخاصا غير مرئيين ولا يعرفون حقوقهم (غيتي)

قالت صحيفة لوموند (Le Monde) الفرنسية إن قضايا الاتجار بالبشر نادرا ما تنتهي في المحاكم، وإنها لا تكاد تكون معلومة ويصعب تحديدها، لأن الضحايا -الذين هم في أغلب الأحيان من الأجانب- كثيرا ما يكونون في وضع غير نظامي، لا يسمح لهم بالتبليغ عن مستعبديهم.

وفي تقرير مشترك لسيمون بيل وجوليا باسكوال، استعرضت الصحيفة قضية ميتود سنداييغايا الذي يتردد على محاميه في باريس منذ "تحريره" عام 2018، من أجل الحصول على تعويض من دبلوماسيين بورونديين هما: غابرييل وكانديد مبوزاغارا، وزير العدل السابق وحفيدة آخر ملوك بوروندي، اللذان يتهمهما بأنهما استعبداه لمدة 10 سنوات طويلة.

ولكن بناء على طلب المتهمين، فقد تم تأجيل جلسة الاستماع، مما يشير إلى الرحلة الطويلة والصعبة لضحايا الاتجار بالبشر، وهكذا يعود سنداييغايا مرة أخرى دون أن يفل ذلك من عزمه، ليروي لصحيفة لوموند تلك السنوات العشر التي قضاها وهو ينام في قبو بدون تدفئة تزكمه رائحة وقود التدفئة القادمة من سخان مجاور.

سنوات القبو

نهار العمل بالنسبة لسنداييغايا يبدأ من السادسة صباحا ولا ينتهي إلا عند الواحدة من صباح اليوم التالي، وذلك لمدة 7 أيام في الأسبوع، ينظف خلالها ويطبخ ويعتني بأطفالٍ، أحدهم معاق شديد الإعاقة، ويهتم بالحديقة، ولا يغادر البيت إلا لإخراج القمامة.

حياة يومية خلف الأبواب المغلقة يتخللها التنمر والإذلال، كما يصفها: "إذا لم تعمل، سأبلغ الشرطة وسوف يضعونك في السجن ويقتلونك"، هكذا تقول مستخدمته باستمرار، مؤكدة له أن "الشرطة لا يمكنها دخول منزلنا" لحرمته الدبلوماسية.

وهكذا يعيش سنداييغايا الذي لا يعرف كلمة واحدة من الفرنسية والممنوع من مخاطبة الوجهاء البورونديين الذين يزورون أسياده وحتى رد التحية لهم، مقطوعا عن العالم، بعد أن صودر جواز سفره بمجرد وصوله فرنسا في يوليو/تموز 2018، إلا أن أحد الجيران تمكن من إخراجه من هذه المحنة، وهو يزن 40 كيلوغراما.

 إجراءات طويلة

منذ إخراجه من هذه الحياة، بدأت إجراءات طويلة، ليحكَم بعد عامين على السيد والسيدة مبوزاغارا بالسجن عامين مع وقف التنفيذ، والغرامة 70 ألف يورو تعويضا عن "الخضوع للعمل القسري" و"لظروف العمل والسكن المنافيين للكرامة"، ولكنهما استأنفا القرار، مما أدى إلى محاكمة جديدة من المقرر أن تبدأ في 17 فبراير/شباط القادم.

وفي دفاعهما، قال الزوجان مبوزاغارا المتورطان في أفعال مماثلة إن سنداييغايا كان يجوّع نفسه للحصول على اللجوء السياسي، وقالا أيضا إنهما يدفعان "لموظفهما" نقودا، نحو 250 يورو شهريا، وهو بدوره يرسلها لزوجته وأطفاله الذين استطاعوا الهروب إلى فرنسا بعد تعرضه لتهديدات على خلفية التهمة التي وجهها لمستخدميه.

وحتى الآن، لم تسمح أي من الإجراءات الجنائية أو غيرها بحصول سنداييغايا على أي تعويض، وهو يقول "لا أريد سوى استعادة حقوقي، فالعامل يحتاج إلى راتب".

ولكن كما يقول محامي العائلة المتهمة إن "مستخدمي سنداييغايا يشككون في الحقائق التي تم اتهامهم بها، وعلاوة على ذلك، تم إعداد محضر عن ظروفه المعيشية، إذ لم تكن كالتي وصفها"، مشيرا إلى أن الاستئناف قيد النظر.

ورأت الصحيفة أن قضية سنداييغايا في حد ذاتها يمكنها أن تلخص وتجسد جريمة غير مرئية، تؤثر بشكل أساسي في الأجانب رجالا ونساء، ممن هم في وضع غير نظامي، خاصة أن اللجنة الاستشارية الوطنية لحقوق الإنسان نبّهت إلى أن "الاتجار بالبشر لغرض الاستغلال والعمل حقيقة لا تزال شبه مجهولة في فرنسا، إما لأنها تهمّ المجال الخاص، أو لأن الضحايا في المجال المهني يترددون في الإبلاغ عنها".

حقيقة غير معروفة

وذكّرت الصحيفة بحكم صدر في قضية مهمة أمام محكمة ريمس في يوليو/تموز الماضي، وهي قضية غير مسبوقة من حيث عدد الضحايا المتورطين الذين زادوا على 100، واعتبرتها رمزا للقطاعات التي تتطلب الكثير من العمالة، حيث يتم تنظيم التعاقد من الباطن بشكل متتال مما يخفف تدريجيا مسؤوليات المديرين ويقلل هوامش الوسطاء في كل مستوى.

ففي صيف 2018، اتصل جامعو عنب أفغان بقوات الدرك للتبليغ عن صاحب عملهم الذي جعلهم يعملون عدة أيام دون توقيع عقد أو دفع أجور، مع إيوائهم في ظروف غير لائقة. وبالفعل استطاع الدرك مشاهدة السكن الذي كان عبارة عن مفروشات مكدسة في معصرة أو في قبو أو خيام في حديقة، كما اكتشفوا عدم كفاية الحمامات والمراحيض وغياب الماء الساخن، وكان بعض العمال جوعى، ومعظمهم من طالبي اللجوء أو اللاجئين أو ممن هم في وضع غير قانوني ولا يتحدثون الفرنسية.

كان نسيم (اسم مستعار) أول من دق جرس الإنذار، فقد تم تجنيد هذا اللاجئ الأفغاني للعمل في شركة يديرها زوجان من سريلانكا مع 100 عامل آخر، ونقل من باريس في شاحنات إلى ريمس، حيث وضع في منزل كان ينام فيه على الأرض دون بطانية أو ماء ساخن، مع حمام واحد لـ36 شخصا.

يعمل نسيم (25 سنة) من السابعة صباحا وحتى العاشرة مساء دون عقد، ولكنه أنه بعد 5 أيام قام بتنبيه قوات الدرك المحلية، وساعده في الترجمة ضابط أمن قابله في حديقة، كما تشرح كاتبتا التقرير.

صحيفة لوموند تحدثت عن الرحلة الطويلة لضحايا الاتجار بالبشر  في المحاكم لنيل حقوقهم (غيتي)

يتذكر نسيم أنه لم يستطع العودة إلى باريس على الفور، وبعد أن طلب منه رجال الدرك الحضور وتقديم شكوى في اليوم التالي، اضطر إلى الاختباء وقضاء الليل في مزارع الكروم مع 3 أفغان آخرين، وقد قال بفرنسيته المتلعثمة لصحيفة لوموند إنه كان طوال التحقيق -باعتباره أحد الشهود الرئيسيين- ينام في الشارع في باريس، مضيفا "كان الأمر صعبا للغاية".

وأشارت الصحيفة إلى أن النتائج كانت دون التوقعات في هذه المحاكمة، مما أصاب المشتكين بالإحباط. كما ترى أنابيل كنزيان منسقة الدائرة القانونية في لجنة مناهضة العبودية الحديثة، أن عدم الاهتمام بالشهود مؤشر على انخفاض مستوى الاهتمام بأصوات الضحايا في هذه القضايا.

ويقول المحامي دافيد ديغرانج "لقد ناضلنا لسنوات من أجل الحصول على نصوص، والآن نكافح لتطبيقها والحصول على إدانات"، خاصة أن من الصعب توصيف جريمة "الاتجار بالبشر"، وغالبا ما يعاد تصنيفها على أنها "عمل خفي".

أشخاص غير مرئيين

وفي مواجهة المستغلين الأثرياء -كما تقول رئيسة جمعية مناهضة العبودية الحديثة سيلفي أودي- يكون الضحايا في كثير من الأحيان "أشخاصا غير مرئيين ولا يعرفون حقوقهم، لأنهم مختبئون في أقبية منازل خاصة"، مشيرة إلى أن جمعيتها تتلقى أكثر من 300 تقرير سنويا، عُشرها تقريبا يقع ضمن ولايتهم، معتبرة أن تلك هي "قمة جبل الجليد" فقط.

وتقول أنابيل كنزيان إنهم في جمعية مناهضة العبودية الحديثة، يأسفون لإحجام بعض مراكز الشرطة عن تلقي الشكاوى وإحجام المحافظات عن إصدار تصاريح الإقامة.

وتضيف "في باريس، تصدر الخدمات إيصالا لمدة 6 أشهر، وعندما يكون لدينا خطاب من المدعي العام فهذا لا يكفي، وإذا تم تسجيل الشكوى على أنها حالة استرقاق وليست اتجارا بالبشر، فهذا لا يكفي أيضا".

وقد راجعت الصحيفة وثيقة لشرطة باريس توضح الاحتياطات المتخذة في هذا المجال، حيث تستفسر المحافظة حول "أساس الشكوى"، وتسأل "هل يمكن اعتبار المشتكي ضحية للاتجار بالبشر"، على الرغم من أن تحديد الوقائع من اختصاص السلطة القضائية.

وبحسب تحليل رئيسة جمعية مناهضة العبودية الحديثة، فإن "فرنسا تخشى من أن الاتجار بالبشر سوف يستدعي الهجرة غير النظامية".

المصدر : لوموند