إعادة فتح الأقصى أمام المصلين أثلج صدورهم وأشعل شجونهم

عودة المصلين إلى ساحات الأقصى بعد حرمان أكثر من شهرين أثار شجون رواد المسجد المبارك

العشرات منهم احتشدوا عند "باب حطة" أحد أبواب المسجد الأقصى قبل موعد أذان الفجر بنحو ساعتين.. لم تتراجع أقدامهم خطوة إلى الخلف، وانتظروا فتح الباب لتعانق أعينهم مهوى قلوبهم الذي حرموا منه 69 يوما، بعد إغلاقه في وجوههم منعا لتفشي فيروس كورونا.

في تمام الثالثة فجرا فُتح لهم الباب واستقبلهم مدير المسجد الأقصى عمر الكسواني والحراس والمتطوعون، اندفعوا مهرولين كل يحمل هاتفه الذكي ويوثق لحظة دخوله، هذا يخر ساجدا في الرواق المؤدي لمصلى قبة الصخرة المشرفة وذاك تصدح حنجرته بهتاف "بالروح.. بالدم.. نفديك يا أقصى"، وتلك تزين وجهها ابتسامة غلبتها الدموع.

من باب حطة وثقت الجزيرة نت لحظة دخول المنشد المقدسي أمير دعنا الذي سجد طويلا قبل أن ينهض، محاولا تمالك نفسه لكن دموعه كانت أقوى من أن يتمكن من حبسها.

هذا الشاب الذي يتحدث وينشد بسلاسة بدا متلعثما عاجزا عن التعبير عن مشاعره تجاه إعادة فتح المسجد، يعبر عن مشاعره بجملة ثم يصمت ويكرر الدعاء "يا رب يظل الأقصى مفتوحا دائما وعامرا بأحبابه وأهله وناسه".

المنشد المقدسي أمير دعنا يسجد سجود الشكر بمجرد دخول المسجد (الجزيرة)

بيت المصلين وراحتهم
اشتهر دعنا بمقاطع فيديو ينشد بها في جنبات الأقصى، وبعد إغلاقه حرص على الإنشاد على السور التاريخي وعلى المطلات التي تطل على المسجد، لكن أيا من هذه الفيديوهات لم تشف غليله، فسهر هذه الليلة يتدرب على أنشودة "يا عباد الله جدوا رُبّ داع لا يرد"، وقبل أن يهرول باتجاه المصلى القبلي أخبر الجزيرة نت أنه سيقوم بتسجيلها اليوم في المسجد الأقصى بمناسبة إعادة فتحه للمصلين.

كان من الملحوظ خلال جولة الجزيرة نت في ساحات الأقصى لهفة المقدسيين على التقاط صور للمسجد ولأنفسهم وكأنهم يدخلونه أول مرة، وأعاد هذا المشهد للأذهان تهافت مئات آلاف الفلسطينيين القادمين من كافة محافظات الضفة الغربية لالتقاط الصور خلال شهر رمضان المبارك في رحاب المسجد.

المتطوعون يقيسون درجة حرارة المصلين عند دخول المسجد الأقصى (الجزيرة)

تراوح عدد من وصلوا لأداء صلاة الفجر بين ثلاثة إلى أربعة آلاف مصل، منهم من كان يتردد على المسجد بشكل يومي قبل الإغلاق وحرص اليوم على الالتزام بارتداء الكمامة وجلب سجادة الصلاة من منزله، ومنهم وجوه جديدة لا تواظب على الصلاة في رحابه لكن الإغلاق الطويل أشعل حب المكان والانتماء إليه في قلوبهم.

على كرسي أمام المصلى القبلي، جلس المسن المقدسي ماجد وزوز يتنقل ببصره بين المصلين دون أن يغفل مراقبة حفيديه اللذين حرص على اصطحابهما لأداء أول صلاة في الأقصى بعد انتهاء الإغلاق.

وقال للجزيرة نت "شعرت بمجرد الدخول للأقصى أن النبض عاد لقلبي بعد توقفه منذ إغلاق الأقصى في وجوهنا.. شيء ما سرى في جسدي.. الآن أشعر بالسكينة والهدوء ولست خائفا من الإصابة بالفيروس وسأواظب على أداء كافة الصلوات هنا".

أقيمت الصلاة بعد حث المشايخ المصلين على التباعد والالتزام بالتعليمات اللازمة للوقاية من الإصابة بالفيروس، وبمجرد إقامة الصلاة عمّ الهدوء وخشع الجميع، وانهمرت دموع كثيرة عندما صدحت حنجرة الإمام بالدعاء في الركعة الثانية من صلاة الفجر الأولى بعد غياب طويل.

صلاة الفجر الأولى في الأقصى بعد انتهاء الإغلاق.. والمقدسيون يصلون متباعدين (الجزيرة)

روحانيات استثنائية
قطط المسجد الأقصى تنقلت بين المصلين وكأنها ترحب بهم، وغردت الطيور وحلقت مع انقشاع الظلام وبدء ظهور الخيوط البيض الأولى في السماء.

منذ عام 2000 وبمجرد عودة المقدسي زهدي عليان من أميركا للعيش في القدس لم ينقطع عن أداء صلاة الفجر في الأقصى، وعاد اليوم بعد غياب شهرين ونصف الشهر، وعن ذلك قال إنه لم يتوقع أن يحرم يوما من الصلاة في المسجد بسبب فيروس مستجد لأنه اعتاد أن يحرم بسبب الاحتلال فقط.

"أدخل دائما من باب حطة وأسير في طريق معين للوصول للمصلى القبلي واليوم من عمق سعادتي ودهشتي سرت في طريق آخر.. ما زلت متألما لمضي شهر رمضان دون دخولي الأقصى الذي أقضي به معظم وقتي خلال الشهر الفضيل".

طفل مقدسي يلتقط الصور له ولوالده مع مصلى قبة الصخرة المشرفة (الجزيرة)

الصحفية المقدسية سندس عويس كانت من أوائل من وصلن للمسجد وهي التي لم تتوقف عن الحديث عبر المنصات الاجتماعية عن شوقها له، وكثفت من ذلك خلال الساعات الأخيرة فكتبت:

"التفكير سيد الموقف، بعد أكثر من شهرين من حرماننا من المسجد الأقصى، ومن مصلانا وبيتنا وملاذنا، كيف سيكون اللقاء؟ شو رح (ماذا) نعمل لحظة فتح الأبواب، شو رح نعمل (كيف نحن) لحظة دخول الأقصى؟ رح نبكي (سنبكي) ونسجد سجدة شكر طويلة، رح نركض (وسنركض) بالساحات، ونتأمل كل حجر وكل زاوية وكل شجرة وكل حيطة وكل بلاطة".

"رح نطوف (سنطوف) حول القبة، ونتجول بكل ساحة من الساحات، ونصلي بكل مربع من مربعات الأقصى ونتصور مع كل حجر صورة، هناك رح تكون (ستكون) الراحة، هناك رح تكون (ستكون) السعادة وترجع البسمة اللي انحرمنا (التي حرمنا) منها أكثر من شهرين، هناك رح يرجع (سيرجع) النبض للقلب وترجع لروحنا الحياة راجعين يا أقصانا راجعين أكم ساعة (ما هي إلا ساعة).. راجعين".

المصلون توافدوا إلى المسجد الأقصى متبعين الإجراءات الوقائية (الجزيرة)

نبشت سندس ذاكرتها وتحدثت عن آخر يوم صلت فيه بالأقصى قبل الإغلاق، وقالت "صلينا العشاء ونحن ننتحب… ملأ صوت بكائنا ساحة مصلى باب الرحمة، وقلت لصديقاتي ليتني متُّ قبل سماع هذا الخبر.. حياتي كلها في الأقصى ولا يمكنني العيش لحظة واحدة دون هوائه ومائه وحجارته ومصلياته".

غادرت سندس الأقصى يومها على صوت الشبان ينشدون "لبيك أقصى البطولة كلنا نفدي الحمى" ودخلته اليوم على وقع التكبيرات والهتافات، وهي مضطربة وتتمنى لو بإمكانها تجاهل عملها الصحفي والانسجام في الروحانيات التي اعتادت أن تعيشها في مصلى باب الرحمة الذي لم تغادره منذ انطلقت هبّته شتاء العام المنصرم.

تعتزم الصحفية الشابة قضاء يومها في المسجد لتفقد كل شبر فيه، لكنها لن تنعم بذلك دون منغصات، إذ تحشد جماعات الهيكل المتطرفة منذ أيام أنصارها لاقتحام جماعي للأقصى اليوم وإقامة صلوات الشكر داخله تحت قيادة الحاخامات.