مع تصاعد العواصف الترابية.. جندي عراقي ينذر حياته لزراعة الأشجار وحماية البيئة

"وتوت" يتحدث بفخر عن نجاحه بزراعة أنواع نباتية نادرة تجاوزت الآلاف، وشجيرات سيكون لها دور رئيسي في حماية البيئة من التلوث، توزعت على عدة محافظات عراقية.

وتوت يقضي ساعات طويلة للعناية بالنباتات (الجزيرة)

بغداد- "غايتي واضحة، لا غرض لي بالشهرة، أو جمع مبادرات للحصول على الثناء والشكر، كل ما أريده هو أن أرى العراق يكتسي باللون الأخضر، وأن أساعد الناس في هذا البلد المتهالك".

هكذا يتحدث الجندي العراقي كاظم وتوت متحمسا، وهو يلقي بالمياه على عشرات الشتلات التي زرعها مؤخرا في عمله، حيث أخذ على نفسه، مهمة التطوع بنشر التشجير في العراق الذي يعاني اليوم من هجوم العواصف الترابية.

ويعيش وتوت (30 عاما) في محافظة بابل جنوب بغداد، لكن عمله في البصرة أقصى جنوب البلاد، إلا أنه يزرع حيثما تطأ قدمه.

تبنّى فكرة زراعة آلاف الأشجار الخضراء بدون ملل وكلل، حينما قص للجزيرة نت أصل الحكاية بالقول إن "الفكرة بدأت في باله عام 2017 بسبب فقدان الغطاء النباتي داخل مدينته الحلة التي كانت يوما ما تعج بالخضار، ولذلك قررت البدء بالزراعة، وأول تجربة كانت مع بذور البونسيانا الملكية وشجرة النيم دائمة الخضرة".

كان يستغل أوقات فراغه في مكان عمله أو استراحته لغرض زراعة حدائق المدارس والشوارع القريبة من سكنه وحتى البعيدة منها، وعندما يجد شخص يعتني بالمزروعات يفرح كثيرا، ويشعر أن الطبيعة تكسب أصدقاء جددا.

وواجه وتوت في بداية المشروع الزراعي صعوبات وتحديات، بسبب ثقافة المجتمع البسيطة، حيث يؤكد أنه كان يزرع، ويجد بعض النباتات قد اقتلعت في فترة قصيرة، كما صدمته عراقيل الجهات الحكومية مثل دائرة البلدية والأشخاص المستفيدين من الشتلات الحديثة ومحاولاتهم كسر حماسه بزرع الشتلات هذه، إلى جانب ما يواجهه من صعوبات في الزراعة داخل الأحياء السكنية بسبب رعي الأغنام بداخلها وأكل الحشائش وتدمير المزروعات.

وتوت يؤكد أن ما يفعله تطوعي بالكامل، ومن ماله الخاص، وبمساعدة بعض المتبرعين (الجزيرة)

حياة أطول

يتحدث وتوت بفخر عن نجاحه بزراعة نوعيات نباتية نادرة تجاوزت الآلاف، وشجيرات سيكون لها دور رئيسي في حماية البيئة من التلوث، توزعت على عدة محافظات عراقية.

ويضيف في حديثه للجزيرة نت أن مجموع ما زرعه يتوزع ما بين 100 شتلة في معسكرين للجيش بمدينة الكوت، وكذلك ألف شتلة في معسكرين آخرين في مدينة البصرة بدعم مباشر من القائد والآمر هناك، أما في مدينة الحلة فزرع 3 آلاف شتلة موزعة ما بين دوائرها ومدارسها وشوارعها.

وفيما يخص الأنواع التي اختارها فهي تلك التي تقاوم جو العراق الحار والصعب، مثل السدر والتوت والدفلة والجوري والياس والزهور الموسمية وغيرها.

ويؤكد وتوت أنه بعد موجات العواصف الترابية التي يشهدها العراق، تؤدي الأشجار دورا كبيرا بحماية البلاد من التلوث، ومن ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون، ومركبات الكربون الكلورية وغيرها من الملوثات، فضلا عن محاولة تعويض حالة تجريف البساتين والأشجار التي طالت العراق منذ سنوات.

وكان العراق تعرض مؤخرا لأكثر من 8 عواصف ترابية شديدة، نتيجة تعرية الغلاف الأرضي، وخلوه من التشجير، حيث ساهم تجريف البساتين المحاطة بالمحافظات، بازدياد ظاهرة العواصف الترابية، كما يقول خبراء.

وتوت (الثاني يمينا) يعتمد على أصدقائه للعناية بالنباتات في أثناء إجازته (الجزيرة)

الأشجار أصدقاء وأحبّة

الزراعة تعطي الإنسان بهجة روحيّة وتمنح زراعتها في البيت والأماكن الأخرى أملا صباحيا، كما يقول وتوت مبتسما.

ويحكي للجزيرة نت أنه منذ الصغر اعتاد على الزراعة وتشجير ما حوله رغم بساطة حياتهم، كان يزرع في أوان فخارية وبلاستيكية بسيطة، وذلك لعدم وجود حديقة في منزله المتواضع.

لكنه رغم ذلك كان حريصا على أن يحيط به السحر الأخضر والوردي من كل مكان، وما يريده دوما هو البهجة المزروعة والمعكوسة على وجوه المارة والمستمتعين بزراعة الشتلات والفسائل والزهور المتنوعة، فالزراعة -كما يقول وتوت- صديقة الإنسان وللأشجار دور مهم جدا في حياتنا، لأن الأشجار من أفضل أصدقائنا الملهمين، ولا نستطيع أن نقاوم تغيرات الجو في العراق بدون أن نسهم ولو قليلا بالتشجير.

وحول العناية وكيفية الاهتمام بتلك الشتلات وما تحتاجه الفسائل من وقت للعناية بها، وأي الأنواع حصل عليها ومدى ملاءمتها لطبيعة تربة العراق، يقول وتوت -وهو يستذكر عددا من أصدقائه ومساندتهم له- "الأشجار كالأطفال داخل البيت، تحتاج عناية خاصة واهتماما مختلفا، بعض الشتلات أشتريها من مالي الخاص لأنني خصصت مبلغ ثابتا من راتبي لهذا الغرض كل شهر، وبعض الشتلات تأتيني تبرعات من الأصدقاء وميسوري الحال ولدينا حاليا موقع إلكتروني خاص لغرض جمع التبرعات وزراعة الشتلات كجزء من حملة باسم "من الصحراء إلى الخضراء".

ويضيف "أما البعض الآخر فيأتي دعما لا محدودا من قادتي في معسكر الجيش، علما أننا في جنوب العراق جلبنا نوعية الشوكيات وذلك لقوة تحملها الظروف المناخية مثل الجلفلور والنيم ولوز الهندي والأثل والكوزورينا، وخصصت أنواعا معينة تتحمل أقسى ظروف العراق بسبب التقلبات المناخية من الصفر شتاء إلى 52 درجة في الصيف، وهذا يعد عامل تحدٍ للمزارعين والناشطين الزراعيين".

وتوت تطوع لزراعة النباتات منذ عام 2017 بعد أن آلمه زيادة التصحر في العراق (الجزيرة)

إلى جانب ذلك، يتعامل وتوت مع أساتذة ومهندسين زراعيين يمكن الاستفادة منهم لمحاربة التصحر الذي يهدد العراق والمناطق المحيطة به، عن طريق تعليمه كيفية العناية بالشتلات، مع المتابعة طول الوقت، وأثناء الدوام يكتفي هو بالاعتناء بها، أما عند إجازته، فيراقب الزرع من خلال الاتصال بأصدقائه للعناية بها.

"في مدينتي كذلك عند نزولي في إجازة أعتني بما زرعته، والأمر لا يقتصر على السقي بالماء وحسب، بل إني أجلب بشكل مستمر منشطات للنباتات، وأدوية مكافحة الحشرات والتعفن، علما أننا نواجه صعوبة في زراعة أحزمة خضراء خارج المدينة وذلك لعدم جدية الحكومة المحلية في… بالعناية والمتابعة، إني ممتن لأصدقائي الذين يدعمون خطواتي"؛ يستطرد وتوت.

ليث: ما يفعله وتوت محل تقديرنا ويتعين على جميع العراقيين الحذو حذوه (الجزيرة)

لقمة العيش مُرّة

يتحدث الناشط البيئي مهدي ليث للجزيرة نت عن التغيرات المناخية والاحتباس الحراري وآثارهما في زيادة التصحر وشحة الأمطار، ويقول إن العراق شهد ارتفاعا غير مسبوق لدرجات الحرارة وشح المياه وعواصف ترابية عديدة حولت البلاد لكتلة كثبان رميلة، مما يؤدي إلى مخاطر عديدة منها التصحر وجفاف الأنهار وهجرة العوائل المستفيدة من المياه في وسط وجنوب البلاد، ولا سيما سكان عرب الأهوار، ونزوحهم إلى المحافظات الأخرى للحصول على لقمة العيش، موضحا أن قلة التشجير سبب رئيسي للتصحر في العراق.

ورأى ليث أن ما يفعله وتوت محل تقدير الجميع ويتعين على العراقيين الحذو حذوه، "إذ وبعد حجم الخراب الذي طال البساتين وتجريفها، نحتاج لإعادة التوازن البيئي، من خلال تعويض نقص الأشجار التي احترقت أو تعرضت للقطع، وزراعة أعداد مقاربة، كل شجرة منها تمتص ثاني أكسيد الكربون وتُسهم بترطيب الجو، حتى نستطيع قليلا، السيطرة على الوضع الكارثي هذا".

أما عمار حسن، وهو صديق وتوت ورفيقه في وحدته العسكرية في البصرة، فيوضح للجزيرة نت، أنهما كلما انتقلا لوحدة عسكرية جديدة، يرى وتوت يعتني بالأشجار، ويشتري من راتبه الخاص، ليزرع، أينما وجد مكانا صحراويا، أو مهيئا للزراعة ومتروكا، ورغم أنه ليس من هواة الزراعة، إلا أن تحفيز وتوت له جعله محبا لها.

ويذكر حسن بحديثه للجزيرة إحدى المواقف مع وتوت قائلا "ذات مرة، تقرب مني ومنحني مجموعة من الشتلات وطلب مني أن أزرعها بالقرب من مكتبي الذي كان أمامه منظر صحراوي كئيب، وحضر لي مرة ثانية وجلب لي مجموعة من البذور، كان شعورا رائعا، أن أرى هذه البذور تتحول لشجيرات بمباركة واهتمام صديقي وتوت".

ويشير حسن إلى أن وتوت ورغم ضغوط العمل وساعاته الطويلة، فإنه يستمر بسقي الزرع والعناية به من مكان لآخر رغم بعد المسافات، حيث يبدو سعيدا بما يعمل لدرجة تشعرك بضرورة أن تحذو حذوه، ليكون العراق أفضل.

المصدر : الجزيرة