بناه الإسبان وقاطعه المصلون.. مسجد "بوزعافر" في شفشاون المغربية الذي لم تقم به صلاة

وحيد وبعيد ومهيب؛ هكذا يبدو مسجد صغير على قمة ربوة مطلة على مدينة شفشاون، كشرفة كبيرة على المدينة من جهتها الشرقية، يحج إليه السياح من مختلف الأجناس، ويجمع حوله عشاق منظر الغروب، وعشاق الشعر والموسيقى والألوان.

بصومعة ومأذنة وقاعدة تشبه الكنيسة .. مسجد فريد من نوعه وحيد في محيطه_
صومعة ومئذنة وقاعدة تشبه الكنيسة؛ عناصر تشكّل مسجد بوزعافر الفريد من نوعه والوحيد في محيطه (الجزيرة)

الرباط- يتذكر الفنان التشكيلي ابن شفشاون محمد لخزوم (في الستينيات من عمره) كيف كان الآباء قديما يحذرون أبناءهم من زيارة "جامع بوزعافر"، وقد كان عبارة عن مكان خراب بعيد ومعزول.

وفي حديث مع الجزيرة نت، يسترجع لخزوم -وهو الرسام العاشق للضوء واللون- شريط ذكريات الشباب؛ حيث كان المكان مزارا للتمتع بمنظر الغروب وطيف الألوان، ويقول "بالنسبة لي هو مزار نلجأ إليه، حيث تنام شفشاون قبله كعروس مستلقية في حضن الجبل، نتملى بألوان المغيب".

يبدو وحيدا وفريدا على قمة ربوة مطلة على المدينة من جهتها الشرقية، ويثير موقعه وشكله السؤال وتحاط حوله الحكايات والشبهات والأقوال. هو "المسجد الإسباني" (Spanish Mosque/la mezquita espanola) المعروف باسم "جامع بوزعافر"، مسجد بناه الإسبان ولم تقم فيه صلاة، فما قصته؟

تراث كولونيالي

يعود تاريخ جامع بوزعافر إلى مرحلة الاستعمار الإسباني لمدينة شفشاون، ويقول المؤرخون إنه بني من طرف سلطة الاحتلال.

وجاء في كتاب "من تاريخ شفشاون" -لمؤلفه طه ابن فاروق الريسوني- أنه تم تشييد المسجد بأمر من الضابط "فرناندو كابات" (Fernando Capaz) حاكم شفشاون، وبإنجاز سلطات الحماية.

وفي تصريح للجزيرة نت، يقول الباحث في تاريخ شفشاون جمال الدين الريسوني، إن هذا المسجد بني في فترة الحماية الإسبانية حوالي 1925 من طرف الحاكم العسكري الذي كان على رأس المدينة.

وبوزعافر كلمة باللهجة المحلية وتعني صاحب الشوارب الكبيرة، وتنتشر روايات حول التسمية؛ منها أن الحاكم العسكري الإسباني الذي بنى المسجد كان ذا شوارب كثيفة، وأخرى تقول إنه ينسب إلى المهندس الذي أشرف على البناء وكان أيضا بشوارب كثيفة، وأخرى تذهب إلى صاحب الأرض. في حين ذهبت بعض الروايات إلى كون "بوزعافر" هي تحريف لـ"أبي العصافير"، وقد كان بالمكان شاعر أندلسي رومانسي له طيور مختلفة وبساتين.

ويقول محمد لخزوم إن المعروف عن المسجد أنه بني في الفترة الكولونيالية، فوق ربوة سيرا على نهج الكاثوليك الذين يبنون كنائسهم بالمناطق الجبلية المعزولة.

صورة للمسجد قبل الترميم من مواقع التواصل الاجتماعي وتحمل توقيع عادل ازماط وتاريخ 2013
صورة للمسجد قبل الترميم من مواقع التواصل الاجتماعي وتحمل توقيع عادل ازماط بتاريخ 2013 (مواقع التواصل)

استلطاف واستدراج وممانعة

يذهب طه الريسوني في كتابه إلى أن سلطات الحماية كانت تدعم استقرارها بمنشآت إدارية تربوية ودينية بغية استلطاف السكان. فيما يقول محمد لخزوم -للجزيرة نت- إن المسجد بني بخلفية استدراج المقاومين الذين كانوا يتحصنون بالتضاريس الوعرة في الجبال بهدف ضبطهم ومراقبتهم.

ويوضح جمال الدين الريسوني -في حديثه مع الجزيرة نت- أن شفشاون تعرضت سنة 1925 للقصف من طرف طائرات أميركية بإشراف السلطات الإسبانية؛ حيث استعصى أمر اختراق المدينة نظرا لوعورة مسالكها ودروبها ووجود الهضاب والمسالك الضيقة والوعرة.

ويضيف أن وصول الاستعمار إلى شفشاون (في أكتوبر/تشرين الأول 1920) -بعد 7 سنوات من استعمار تطوان- يعطي دليلا أن المدينة والإقليم صعُبا على الاستعمار الإسباني، ويشير إلى أن هذه الصعوبة ترجمت في أشعار خطتها أنامل الإسبانيين الذين وصفوا شفشاون بالمدينة المقدسة.

ومن الطرائف قول طه الريسوني إن الإسبان المقيمين بشفشاون بعد الحرب الأهلية سموا المسجد "سيدي والو" (أي لا شيء) لما تعرض له من مقاطعة صريحة وممانعة رافضة من لدن سكان شفشاون وأحوازها.

ويظهر من موقع المسجد الإستراتيجي أنه لم يكن بعيدا عن الأهداف الاستعمارية الرقابية، وكان يعتقد أنه يتم منه التجسس على باقي المدينة.

بعد الترميم وفي العشرية الأخيرة أصبح المكان محجا للسياح
بعد الترميم وفي العشرية الأخيرة أصبح المكان محجا للسياح (الجزيرة)

لم تقم فيه صلاة

يؤكد المؤرخون أنه لم يثبت قط أن أقيمت صلاة بمسجد بوزعافر ولم يكتب له أن يحتضن شعيرة دينية تعبدية باستثناء رفع الأذان.

ويُطل بوزعافر على كامل المدينة من هضبة ضريح سيدي أحمد الوافي، والتي تسمى "لوبار"، وهو مسجد بطاقة استيعابية صغيرة، كان يعتقد بعض الناس أنه كنيسة، ورغم توفره على صومعة مئذنة فإن قاعدته تقارب الكنيسة.

ويقول محمد لخزوم إن سكان شفشاون والمقاومين آنذاك فطنوا لحيلة الإسبان فلم يصلوا قط في المسجد، وارتبط في أذهانهم بالمستعمر النصراني وما يعنيه لديهم من نحس وفأل سيئ.

الرحالة الكوردي بدل رفو في صورة تذكارية من امام مسجد بوزعافر حيث يأخذ الزوار الصور _
الرحالة الكردي "بدل رفو" في صورة تذكارية من أمام مسجد بوزعافر (الجزيرة)

وجاء في كتاب من تاريخ شفشاون أن الفقيهين "الزنان" ومن بعده الشريف العلمي الغروزمي توليا لحقبتين مهمة التأذين بكيفية غير منتظمة، وكانا يصعدان الهضبة لرفع أذان الظهر والعصر مقابل أجرة شهرية من نظارة الأوقاف.

وفي سياق توضيح امتناع السكان عن الصلاة في بوزعافر، يضيف جمال الدين الريسوني أن مسجد بوزعافر اعتبر دينيا كمسجد ضرار، وأن السكان لم يستوعبوا كيف لحاكم إسباني أن يبني مسجدا، واعتبروه من نوادر الزمان.

ويضيف الباحث الشاب -الذي تمحورت أطروحة دكتوراه التاريخ التي اشتغل عليها حول تاريخ شفشاون وإرثها الحضاري والصوفي- أن أهل المدينة يرون في الحاكم العسكري مغتصب أرض ومحتل فكيف لهم أن يُسايروه في أمر أقدم عليه خصوصا أنه أمر ديني.

منظر بانورامي

مر المسجد قبل ترميمه منذ عقد بمرحلة كان فيها عبارة عن خرابة، ومأوى للسكارى والمجرمين، ومع ذلك فموقعه فوق الهضبة معزولا جعله بارزا يثير كل زائر للمدينة، وشكل موقعه الإستراتيجي جذبا لعشاق التأمل والعزلة.

في شهادة قدمها للجزيرة نت- الشاعر والمترجم بدل رفو (رحالة كوردي كرمته شفشاون بالمواطنة الشرفية عام 2018)، قال "رغم كل حكايات المغرب والإسبان، ورغم رفض المسلمون الصلاة فيه ورغم عدم تحويله لمتحف إنساني ليغدو واجهة إعلامية لقديسة الجبل ورغم كل ما يدور حوله من لغز لكونه شيده الاستعمار، لكنه يبقى إرث شفشاون الإنساني وبانوراما ساحرة وبالأخص وقت الغروب ويعد بدوره مركز الثقل للمدينة الزرقاء لأسباب كثيرة منها قربه من رأس الماء وسياحة للأجانب وجذبهم.

وبوسع (إدارة) إقليم الشفشاون بأن تستفيد منه ما دامت اتخذت درب السياحة.. جامع بوزعافر قصيدة ساحرة ولوحة جميلة وحكاية جميلة من زمن النضال ضد الاستعمار.. سبق أن قلتها في أحد محاضراتي من لم يزر جامع بوزعافر كمن زار باريس ولم ير برج إيفل أو فيينا لم ير كاتدرائيتها أو الهند لم يزر تاج محل!!".

والمسجد الإسباني مغلق رغم ترميمه، ومن السكان من طالب بإعادة فتحه غير أن صغر حجمه وغياب مرافق الوضوء به تجعل العديد لا يعتبره مسجدا إلى الآن. وترفع فعاليات بالمدينة مطالب بتحويله لمتحف.

ومسجد بوزعافر اليوم واحد من المعالم التاريخية والحضارية لمدينة شفشاون، يقصده كل زائر لأخذ صور بانورامية للمدينة، ويضم حوله السياح من مختلف الثقافات والأجناس عبر العالم.

فيما يشبه شرفة مفتوحة على الجمال تغص ساحته بعشاق منظر الغروب والألوان، وتحيطه دندنة عشاق الموسيقى ممزوجة بخرير مياه، وجاره منبع "راس الما" في سمفونية تزيد من رونق وجذب سادس أجمل مدينة بالعالم.

المصدر : الجزيرة