مفلسون في المدينة الوردية.. ظروف كورونا تجبر بدو البتراء على العودة لكهوف أجدادهم

الكثير من البدول لا يزالون يصرون على الاحتفاظ بتراث أجدادهم بعيدا عن ضجة القرى والعيش بالكهوف وخاصة في ظل كورونا التي قضت على سياحة البتراء

البتراء الأردنية إحدى عجائب العالم تكاد تكون مهجورة تماما اليوم لانعدام السياحة بسبب كورونا (الفرنسية)

قبل شهرين، لجأ رياض البالغ عمره (24 عاما) مع زوجته غزالة التي تصغره بـ 5 أعوام إلى الكهف لعدم قدرتهما على دفع إيجار منزلهما في قرية مجاورة، بعد أن قضت جائحة كوفيد-19 على السياحة التي تعد المصدر الرئيسي للدخل في المنطقة.

وفي تقرير نشرته صحيفة "ذا تايمز" (thetimes) البريطانية، قالت الكاتبة لويز كالاهان إن منزل رياض البدول يبعد مسافة 10 دقائق سيرا على الأقدام عن آثار مدينة البتراء النبطية القديمة في عمق الصحراء الأردنية، لكن ذلك "المنزل" في الحقيقة كهف أبيض يعود إلى جدّه وكان حُفر على عمق 6 أمتار في الأحجار الرملية.

غياب ضجة السياح

فمع توقف الرحلات وغياب ضجة السياح، لم يعد أمام بعض القرويين الأردنيين خيار سوى اللجوء إلى مدينة الأنباط التراثية بشكل غير قانوني. وقد نسج رياض على خطى العشرات من البدو الذين قاموا بالمثل الأشهر الأخيرة. إنهم يعودون إلى أراضي أجدادهم وطريقة حياتهم التقليدية. لكن الحكومة الأردنية تعتبر أن ما يفعلونه مخالف للقانون ويعرّض موقع التراث العالمي للخطر.

وعلى غرار معظم الشباب في المنطقة، اعتاد رياض كسب دخله من السائحين، حيث يعرض عليهم ركوب الحمير مقابل 5 جنيهات إسترلينية (الجنيه يعادل 1.40 دولار) الذي يكفي لدفع الإيجار الشهري البالغ 120 جنيهًا إسترلينيًا لشقة من غرفتين. ولكن تفشي الوباء وإغلاق حدود الأردن تسببا في فقدانه مصدر رزقه.

الخزنة التي نُحتت بارتفاع 40 مترا بالجبل الصخري الوردي منذ ما يقرب من ألفي عام لا يزورها أحد بسبب كورونا (الفرنسية)

البتراء مهجورة تماما

أشارت الكاتبة إلى أن البتراء تكاد تكون مهجورة تماما اليوم، إذ إنها لم تجد عند زيارتها الأخيرة للموقع 9 صباحا سوى بعض السكان المحليين المستظلين تحت الخزنة التي نُحتت بارتفاع 40 مترا بالجبل الصخري الوردي منذ ما يقرب من ألفي عام كضريح لملك نبطي.

في السابق، كانت ساحات البتراء تستضيف حوالي ألفي سائح في الصباح الباكر، لتزداد أعداد زوارها خلال اليوم وصولا لحوالي 8 آلاف بحلول 6 مساءً. أما الآن، فلم تعد تسمع المدينة وقع خطوات الزوار، وانتقلت من وجهة سياحية مكتظة بالناس وأكشاك الهدايا التذكارية إلى صحراء مهجورة.

مدينة تجارية مزدهرة بناها الأنباط

في القرن الرابع قبل الميلاد، كانت البتراء مدينة تجارية مزدهرة بناها الأنباط العرب من بين التكوينات الصخرية الشاسعة في الصحراء بعدد محدود من المداخل لتكون ملاذًا آمنًا لهم من اللصوص وتحمي ثرواتهم.

وبحلول القرن الأول ميلادي، كان الرومان قد ضموا البتراء تحت إمرتهم وسط مساعيهم للتوسع شرقًا. ثم هجروها بعد حوالي 600 سنة بسبب وقوع عدد من الاضطرابات الجيوسياسية وزلزال كبير.

مع فتح الحدود جزئيا، توافد عدد قليل من الزوار الأجانب للاستمتاع بجمال البتراء، لكن ذلك لم يمح التداعيات الكارثية للجائحة على البدو بالمنطقة، التي تسببت بها فترة الركود في العام ونصف العام الماضيين.

نقلت الكاتبة عن فيصل سلامة البدول البالغ من العمر 31 عاما أن "الوضع سيئ للغاية" حيث عمل الشاب 15 عامًا في متجر للهدايا التذكارية لبيع الأوشحة وزجاجات الرمل الملون. وفي موسم الذروة، كان يجني 150 جنيهًا إسترلينيًا شهريا، وهو ما يكفي لرعاية زوجته وابنتيه. لكن دخله انخفض الآن إلى ما يقرب الصفر.

تزعم قبيلة البدول أنها كثيرا ما سكنت البتراء. ومع ذلك، لم يكن الكثير من الأوروبيين على اطلاع بوجود هذا المعلم إلى أن بدأ المستكشفون في التدفق إليه في القرن 19. أولهم كان العالم السويسري جون لويس بوركهارت الذي "أعاد اكتشاف" الأنقاض عام 1812 بعد أن تنكر كشيخ عربي وأقنع البدو المحليين بأخذه إلى الداخل.

سرعان ما انتشر الخبر عن الأطلال الرائعة في الصحراء. وخلال النصف الثاني من القرن الماضي، بدأ السياح في القدوم بأعداد متزايدة. عاما بعد عام، أصبح البدول أكثر اعتمادًا على الزوار. واليوم، يتذكر الأعضاء الأكبر سنًا في القبيلة استضافة الأوروبيين بكهوفهم، أو اصطحابهم للتخييم تحت النجوم.

عام 1985 صُنّفت البتراء ضمن قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي (الفرنسية)

البتراء على قائمة اليونسكو

عام 1985، صُنّفت البتراء ضمن قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي. ونتيجة لذلك، أصدرت الحكومة الأردنية قانونًا يمنع أي شخص من العيش هناك، وطلبت من البدول الانتقال إلى قرية قريبة، وأعطتهم مساكن ومدارس مدعومة. وقالت الحكومة إن الهدف من ذلك توطين البدو وإدماجهم في الحياة العصرية.

وكجزء من الصفقة، مُنح البدول حقوقًا حصرية للعمل في البتراء. وتكيف العديد منهم مع المعيشة في القرية التي تسمى أم صيحون، واستبدلوا الرعي والزراعة بالعمل في الإرشاد السياحي أو نقل السائحين المرهقين على متن الحمير.

وبعد عقود من مغادرتهم الكهوف، يشعر بعض البدول أن الحكومة لم تحترم روح الاتفاقية.

البدول يعودون إلى الكهوف

أكدت الأستاذة المساعدة في علم الأنثروبولوجيا أليسون ميكل -التي درست علاقة البدول مع الحكومة لأعوام- أن الكثير من الناس يعودون إلى الكهوف "لأنهم يشعرون أن الصفقة التي تمكنهم من العمل في البتراء قد تم خرقها بشكل فعال" حتى وإن لم يكن ذلك بسبب الحكومة.

وصرّح سليمان فرجات رئيس مجلس مفوضي سلطة إقليم البتراء التنموي السياحي بأن انتقال البعض للعيش في الكهوف يعزى إلى نقص المساكن. لكن الحكومة كانت تخطط لبناء مجمّع سكني جديد بعد التشاور مع السكان المحليين.

وأضاف فرجات أن عيش البدو في الكهوف يهدد بتدمير الموقع من جانب، وتدهور تعليم الأطفال من جانب آخر. ومن بين الدروس التي تعلموها من الجائحة أهمية تنويع الدخل ودمج المجتمعات البدوية مع المجتمعات الحضرية الأخرى.

لكن الكثير من البدول لا يزالون يصرون على الاحتفاظ بتراث أجدادهم بعيدا عن ضجة القرى، ويعيشون في الكهوف سواء أرادتهم الحكومة هناك أم لا.

المصدر : تايمز