بحبوب الشاي والزعفران الحر.. شاب مغربي يرسم الصحراء وسحرها بتقنية ورثها عن الأجداد

استخدام الشاي والزعفران طريقة اعتمدها شيوخ قبيلة "آيت بن حدو" في الماضي لإرسال الرسائل السرية قبل أن يحولها الأحفاد إلى أسلوب فني يميز المنطقة ويعرف بها

ينقع الشاب المغربي محمد أوتي حبوب الشاي وخيوط الزعفران الحر في وعائين مختلفين بهما ماء، ويتركهما مدة من الزمن إلى أن يتشرب الماء لون المادة المنقوعة فيه.

ويأخذ ريشة وورقة بيضاء، ويشرع في نقل مشاهد من بيئته الصحراوية، حيث يعيش في قصبة (منطقة) "آيت بن حدو" التي تقع على بعد 30 كيلومترا عن مدينة "ورزازات" و500 كيلومتر عن الرباط العاصمة.

ينتهي محمد من رسم بيوت طينية بألوان باهتة غير ناصعة، ثم يشعل نار موقد الغاز، ويحرك الورقة فوقها يمينا ويسارا، فتبدأ ألوان الرسمة تظهر شيئا فشيئا إلى أن تتضح معالمها.

محمد أوتي يرسم إحدى اللوحات بمنقوع الشاي والزعفران الحر (الجزيرة)

إرث الأجداد للأحفاد

في ورشته الواقعة داخل القصبة يقضي محمد أيامه في الرسم ويجد في زيارة السائحين للمدينة فرصة للتعريف بها وبفنه الذي يشاركه فيه بعض شباب القصبة.

يقول محمد للجزيرة نت إنه تعلم الرسم بالشاي (الأتاي) -كما يسميه المغاربة- والزعفران، على يد واحد من أهم فناني المنطقة ويدعى "لحسن فرتال"، وهو الرجل الذي أخرج هذه التقنية من صفحات تاريخ القصبة ومارسها في ورشته وعلمها لأجيال من بعده.

وكانت هذه الطريقة التي اعتمدها شيوخ قبيلة "آيت بن حدو" في الماضي لإرسال الرسائل السرية، وفق رواية محمد وزملائه، قبل أن يحولها الأحفاد إلى أسلوب فني يميز المنطقة ويعرف بها.

الرسام محمد أوتي في ورشته بقصبة "آيت بن حدو" (الجزيرة)

ويعرف المغاربة الشاي بوصفه المشروب الوطني الأول، بينما الزعفران الحر هو "ملك التوابل" بالنسبة لهم، ويسمى "الذهب الأحمر"؛ لندرته وفوائده الصحية وغلاء ثمنه ونكهته المميزة التي يضفيها على الأطباق التقليدية، غير أن محمد وعدد من رفاقه يرسمون بهما (الشاي والزعفران) لوحات وصلت لمختلف بقاع العالم بفضل السائحين الذين أعجبوا بها واقتنوها منهم.

وتتميز هذه اللوحات بغلبة لونين؛ اللون البني المائل للصفرة الذي يُستخلص من منقوع الزعفران الحر، واللون الأسود الذي مصدره منقوع الشاي، ومعظم رسومات محمد أوتي تجسد مواكب الجمال وحياة الرُّحّل في الصحراء والعمران في قصبة "آيت بن حدو"، ويستعين أحيانا بألوان أخرى كالأزرق الذي يستخرجه من حجر النيلة؛ ليلوّن السماء والمياه.

بعض رسومات الشاب محمد أوتي (الجزيرة)

تعلّم الرسم ويُعلمه

قبل 7 سنوات اشترى محمد -كما يحكي للجزيرة نت- ورشته التي كانت في ملكية الرسام "لحسن فرتال"، وقد تعلم هذه التقنية على يده، ثم قضى فترة يملأ الأوراق برسومه، إلى أن تملّك ناصية الفن التشكيلي واقتحم عوالم الرسم الشاسعة.

وفي هدوء قصبة "آيت بن حدو"، يقضي محمد يومه في الورشة، ولا يقطع الصمت سوى زوار القصبة القادمين لاستكشاف سحرها وما يختبئ خلف الأبواب المغلقة.

يتحلق السياح حوله، يتابعون عمله بإعجاب، أما هو فلا يدخر جهدا في تعريفهم بأسلوب الرسم الذي يميز رسّامي القصبة، ويقوم بالعملية كاملة أمامهم، فهو يعتبر ذلك جزءا من مهمته وواجبه تجاه إرث أجداده.

مدخل ورشة الرسام محمد أوتي بقصبة "آيت بن حدو" (الجزيرة)

يقول محمد إن السائحين عند زيارتهم للقصبة يحبون أخذ تذكار من ورشته يجسد مشاهد من حياة أمازيغ المنطقة وبيئتهم الصحراوية والبيوت الطينية المميزة لقصبة "آيت بن حدو" الشهيرة.

ومن خلوته، يتواصل محمد برسوماته مع العالم الخارجي من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، حيث مكنته من التعرف على محبي الرسم من كل جهات العالم وتبادل التجارب، وقد تلقى عرضا للمشاركة بلوحاته في معرض فني بإيطاليا.

قصبة "آيت بن حدو" تتميز بأسلوب بنائها من الطوب الطيني وتتوزع المساكن التقليدية على ارتفاع الهضبة (الجزيرة)

القصبة كنز أثري

تعتبر قصبة "آيت بن حدو" -التي شيدت في القرن الـ18- مزارا سياحيا يقصده المغاربة والأجانب من كل حدب وصوب، فهي قلعة مبنية على هضبة محصنة تطل على واد، وتعتبر من الكنوز الأثرية المغربية، وقد صنفتها اليونسكو تراثا عالميا إنسانيا.

وتتميز هذه القصبة بأسلوب بنائها الذي يميز الجنوب الشرقي، فهي مبنية بالطوب الطيني، وتتوزع المساكن التقليدية على ارتفاع الهضبة، ويحيط بها سور دفاعي.

وظلت القصبة مأهولة بالسكان إلى مرحلة الاستقلال، حيث بنيت على الضفة الأخرى من الوادي بيوت جديدة انتقلت إليها معظم الأسر، ولم يبقى فيها إلا بعضهم، فيما فتح آخرون محلات تجارية داخلها يعرضون فيها بعض المنتجات التي تميز الجنوب الشرقي المغربي.

قصبة "آيت بن حدو" -التي بنيت في القرن الـ18- تجذب السائحين والزوار من داخل المغرب وخارجه (الجزيرة)

سياحة وتصوير

وتحاول الأسر الحفاظ على بيوتها بترميمها بين الفينة والأخرى، ويفتحونها لاستقبال السياح ليطلعوا على نمط عيشهم وعيش أجدادهم، ويقضوا لحظات تواصل مع ثقافة المكان وأهله.

وتجذب المنطقة السياح والزوار من داخل المغرب وخارجه، ليس فقط لقيمتها التاريخية والتراثية، ولكن أيضا لكونها موقع تصوير عدد من أشهر الأفلام العالمية.

ويسعى محمد وشباب المنطقة -من خلال ورشاتهم الفنية ومحلاتهم التي تبيع منتجات محلية- إلى الحفاظ على القصبة حية، وذلك بالبقاء فيها والاستمرار في مزاولة أعمالهم ومن خلال نشر حكايتها لكل الزائرين.

المصدر : الجزيرة