"الأراجوز" في تراث مصر.. صانع الكلام وبطل السخرية

Nagwan Lithy - ذكر الجبرتي في كتبه تلك الدمية التي تعبر عن الشكوى المقنعة بالضحك وتتحايل على الأحزان (يوتيوب) - "الأراجوز" بطل السخرية من الواقع.. يتحصن بحكايات الناس وضحكهم (نسخة مختصرة)
الأراجوز جزء مهم من الثقافة المصرية (الجزيرة)

نسمة تليمة-القاهرة

في الفيلم التسجيلي "أغنية توحة الحزينة" الذي قدمته المخرجة المصرية الراحلة عطيات الأبنودي، يبدأ الفيلم بصوت أغاني الأراجوز في الشارع بصحبة مغن آخر، وكلاهما يمدح الأيام تارة ويشكوها تارة أخرى، في وقت تنصف فيه الكاميرا الصوت وتدعمه من خلال الاقتراب من الرجل المحرك للأراجوز.

وفي الفيلم تراقب الكاميرا حركات الأراجوز خلف "البارافان" الخشبي الذي يحتمي خلفه الفنان الملهم للأطفال والقادر على تحريك ملامح وجوههم ما بين الشغف والابتسام والاندهاش والبهجة، والأطفال في الشارع يجلسون حوله ويستمعون إلى حكاياه وأغانيه.

ويصاحب الفيلم صوت الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي وهو يلقي قصيدته "الدنيا كورة، وناس بتتفرج على ناس"، في إشارة لهوية الصورة الموثقة من أجواء حقيقية في شوارع مصر منذ خمسين عاما.

مصرية الدمية
الأراجوز دمية يحركها لاعب متخصص يقدم بها عرضا تمثيليا غنائيا، كما تطلق الكلمة نفسها على اللاعب الذي يؤديها من خلال حوار تمثيلي من وحي خيال اللاعب، وذلك بمساعدة شخص آخر أو بمفرده، كما يغني أيضا خلال العرض، ويصدر صوته من خلال آلة صغيرة توضع في مكان شديد الحساسية والخطورة في نهاية الحلق مصنوعة من "الاستانلس"، تحتاج من الشخص مهارة خاصة وتدريبات.

اختلف التأريخ لدمية الأراجوز وعاداتها، وأعيدت إلى الأصول التركية، غير أن هذا تم نفيه علميا بالكثير من الوثائق التي قدمها مؤخرا أستاذ المسرح بجامعة حلوان بمصر الدكتور نبيل بهجت، حيث أثبت مصريتها وتم إدراجها منذ شهور من قبل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) على قوائم التراث الثقافي العالمي غير المادي.

ما حكاية الأراجوز؟
ذكر الجبرتي في كتبه تلك الدمية التي تعبر عن الشكوى المقنعة بالضحك، وتتحايل على الأحزان والمشكلات، وأحيانا تضع حلولا تشبهها، حين وصف المقاهي في مصر واعتبرها أماكن لأنشطة دينية وفنية مختلفة.

وقال "يمر بالمقاهي الأراجوز والقرداتي مصطحبا دفه وقرده، ويلقى هذا العرض استحسان الناس"، ومن الواضح في كلام الجبرتي وجود الأراجوز وأيضا خيال الظل، حين قال "يمر على المقاهي المخايلون لتقديم روايات خيال الظل، وهي لون من ألوان الفن الشعبي عبارة عن مسرح ظلي يعكس صورة يحركها شخص"، وهو ما ذكر في كتاب "سير المماليك"، كما ذكر ابن إياس في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" أنه أشيع أن سليم الأول أحضر خيال الظل ببعض الليالي في مصر.

ويقول الدكتور بهجت للجزيرة نت إن تجربته مع الأراجوز تقوم على شعار "لدينا من التراث ما يستطيع أن يعبر عن واقعنا"، مؤكدا حرصه على الفكرة من اختفاء النموذج المحلي لصالح النموذج الغربي، الذي يكرس في رأيه مفاهيم العجز وعدم الرضا عن الذات، وهو ما يجعلنا تابعين لبعض الإستراتيجيات الاستعمارية -على حد وصفه- التي ترانا سوقا لمنتجاتها، ويغذيها البعض بشعارات تربط الخلاص والتقدم بهذا الآخر.

وبناء على ذلك، اتخذ بهجت "ومضة" اسمًا لفرقته التي تعيد إحياء الأراجوز، وتوجده بشكل أوضح على الساحة الفنية الآن، واعتمدت عروض الفرقة خلال عشر سنوات على الأراجوز وخيال الظل، كلغة أساسية تمتزج بالراوي والغناء الشعبي، والرقص الشعبي أحياناً، بهدف الاستفادة من إمكانيات الفرجة الشعبية لتحقيق حالة مسرحية مصرية.

ملاطفة المرضى
قدم بهجت تجربته مع فن الأراجوز في كتاب عنوانه "الأراجوز المصري"، أفرد فيه فصلا كاملاً عن نشأة الأراجوز، الذي أكد أنه موجود في الحياة المصرية منذ زمن بعيد.

وقال إن بعض الفنانين في القرن العاشر الهجري كانوا يلاطفون المرضى بدمي خشبية فتتحسن حالاتهم، كما قدم وصفا لعلماء الحملة الفرنسية جاء فيه "وقد شاهدنا في شوارع القاهرة مرات عدة رجالاً يلعبون الدُّمى، ويلقى هذا العرض الصغير إقبالا كبيراً، والمسرح الذي يستخدم لذلك بالغ الصغر، يستطيع شخص واحد أن يحمله بسهولة. ويقف الممثل في المربع الخشبي الذي يمده بطريقة تمكّنه من رؤية المتفرجين من خلال فتحات صُنعت لهذا الغرض دون أن يراه أحد ويمرر عرائسه عن طريق فتحات أخرى، أما عن باقي الشخصيات فهي ابن الأراجوز وزوجته "نفوسة" (يطلق عليها البعض زنوبة) وزوجته السمراء "بخيتة" (يطلق عليها الست قمر) وغيرهم.

المحرك.. مرتجل مبدع
يقول بهجت في كتابه "لا بد أن يتّصف الفنان المؤدي (للأراجوز) بسرعة البديهة، فهو يغني ويحرك الدُّمى ويمثل ويرتجل النص في وقت واحد، وأن يكون ذا صوت حسن وقدرة على التحكم في أداء اللهجات المختلفة وتلوين الصوت واستحضار نبرات صوتية مختلفة، وقدرة فائقة على الارتجال والخلق الإبداعي المتجدد وتحويل أبسط الإمكانيات إلى أدوات للمتعة والتواصل المستمر مع الجمهور".

تركت العديد من الفنون الشعبية آثارها على فن الأراجوز، ومن ذلك ما نجده في "نمرة" أو فقرة "الست اللي بتولد" في رواية صابر المصري حيث نرى تأثره بما كان يقدم من ألعاب "القرداتي"، إذ تعتمد إحدى فقراته على أن يطلب من الحمار أن يختار أجمل بنت في الحلقة فيتقدم إليها وأنفه إلى وجهها فتضحك الفتاة والمشاهدون.

ويقول رئيس اللجنة العليا للأطلس المصري للفنون الشعبية مسعود شومان في تصريحات خاصة للجزيرة نت إن "الأراجوز جزء شاغل من الثقافة المصرية، وتسجيله في التراث العالمي أمر غاية في الأهمية، لأنه كان من المتداول أن أصوله اللغوية تركية وهو أمر مغلوط"، وزَعمُ أن مصطلح "قراقوش" هو أصل الكلمة تفسير لغوي غير منضبط، فأراجوز أو أراجوس مقطعان بمعنى رجل الكلام أو صانع الكلام".

ويأمل شومان أن يتم الاعتناء أكثر بهذا الفن من خلال مبدعيه وحفظته، وعددهم ليس بالقليل مع وجود عناصر خاملة يمكن إعادتهم مرة أخرى إلى ممارسة اللعبة.

المصدر : الجزيرة