مسلمو الهند في 70 عاما: من شركاء الاستقلال إلى ضحايا التطرّف الهندوسي

People shout slogans during a protest against the lynching of a Muslim man Tabrez Ansari by a Hindu mob, in Kolkata, India, June 28, 2019. REUTERS/Rupak De Chowdhuri
تردَّت طيلة العقود السبعة الماضية أوضاع مسلمي الهند بعد أن كانوا نخبة العالم الإسلامي وقادته قبل استقلال البلاد سنة 1947. (رويترز)

احتفلت الهند يوم 26 يناير/كانون الأول الماضي بعيد الجمهورية باحتفالات مدنية وعسكرية في العاصمة نيودلهي وعواصم الولايات، وكان الغائب الأكبر في هذه الاحتفالات هم مُسلِمي الهند، وعددهم حوالي 200 مليون نسمة، فلم يشعر بهم أحد، ولم يُدعَ زعماؤهم إلى الاحتفالات، ولم تتناول الصحافة المحلية دورهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية للبلاد. كيف إذن وصل مسلمو الهند إلى هذا التهميش بعد 75 سنة من الاستقلال؟ ولماذا انخفض حضورهم بعد أن كانوا يمثلون 45% من سكان البلاد عام 1947؟ وما الذي يحدث لأكبر أقلية مسلمة في العالم، وثاني أكبر تعداد للمسلمين في بلد واحد بعد إندونيسيا؟

 

تقسيم الهند الذي فَصَم عروة مسلميها

تظل الطامة الكبرى التي ضربت مسلمي الهند في الصميم هي تقسيم البلاد إلى ثلاثة أجزاء سنة 1947 إبّان الاستقلال، حين ظهرت دولة الهند بحدودها الحالية، ودولة باكستان بقسمها الغربي (باكستان اليوم)، ودولة باكستان بقسمها الشرقي (دولة بنغلاديش منذ استقلالها عن باكستان سنة 1971). وبعد أن تلاقت مصالح الإنجليز والهندوس وبعض قادة المسلمين على تقسيم البلاد، كانت النتيجة انقسام مسلمي الهند إلى 3 كُتَل سكانية منفصلة: جزء في الغرب (باكستان)، وجزء في الشرق (بنغلاديش)، وجزء بقي في الهند. وبينما صار الجزآن الغربي والشرقي دولتين مستقلتين، بات الجزء الثالث رهينة السياسات المحلية التي عملت في أحيان كثيرة على تهميشهم طيلة العقود السبعة الماضية.

 

لقد تبوَّأ مسلمو الهند قبل تقسيم البلاد مواقع الصدارة في العالم الإسلامي في مجالات عديدة سياسية وفكرية وعلمية، وظهر فيهم أمثال الزعيم "محمد علي جوهر" (المدفون في باحة المسجد الأقصى)، والشاعر "محمد إقبال"، والمؤرخ العلامة "شبلي النعماني"، وغيرهم كثيرون ممن أناروا الطريق في أحلك أيام الاستعمار، ورفعوا أصوات الشعوب الإسلامية المقهورة، وتصَدّوا للمستشرقين. وقد أتت أول هزة لمسلمي الهند حين هاجرت نخبتهم من سياسيين وتجار ومسؤولين وضباط إلى دولة باكستان الجديدة، علاوة على التهجير القسري للمسلمين على الحدود الغربية المتاخمة لباكستان، وبخاصة من ولاية البنجاب الشرقية (الهندية)، التي مثَّل مسلموها 33% من سكانها عند التقسيم، ثم هبطت نسبتهم في أول إحصاء بعد الاستقلال إلى 0.5% فقط، تاركين وراءهم آلاف المساجد والمدارس الدينية والمزارات والمقابر التي لا يزال معظمها في قبضة السيخ والهندوس.

رئيس الوزراء الأول للبلاد "جواهرلال نهرو"، والقائد المسلم المتحالف معه "أبو الكلام آزاد"
رئيس الوزراء "جواهرلال نهرو"، والقائد المسلم "أبو الكلام آزاد". (مواقع التواصل)

تزامنت مع التقسيم اضطرابات طائفية في معظم أنحاء شمال الهند وشرقها وغربها؛ ما أدى إلى هجرة 10 ملايين مسلم إلى الدولة الجديدة، قُتِل منهم نحو 3 ملايين في الطريق. وقد تم استُولي على عشرات الألوف من ممتلكات المسلمين حتى حين هاجر أحد أفراد الأسرة فقط وظل بقيتهم. وحين هدأت الأمور، بدأ مسلمو الهند لملمة جراحهم، وساعدهم في ذلك وجود زعيم علماني مثل رئيس الوزراء الأول للبلاد "جواهرلال نهرو"، والقائد المسلم المتحالف معه "أبو الكلام آزاد"، أول وزير تعليم للهند بعد الاستقلال.

 

اتسمت حقبة الخمسينيات بالهدوء، فعَكَف المسلمون على إعادة ترتيب أوراقهم، ولكن ما إن ضعفت قبضة "نهرو" في أوائل الستينيات حتى بدأت الاضطرابات الطائفية من جديد في أماكن عديدة تمتَّع فيها المسلمون بحالة اقتصادية جيدة، وقد أدى هذا إلى موجة جديدة من الهجرة إلى باكستان الغربية والشرقية، ولم تنتهِ الهجرة إلا بعد هزيمة باكستان أمام الهند سنة 1971 وظهور دولة بنغلاديش، إذ أيقن مسلمو الهند حينها ألّا مستقبل لهم إلا في الهند، ومن ثمّ بدؤوا يهتمون ببناء حياتهم ومؤسساتهم رغم تنامي حضور الحركة القومية الهندوسية، التي هدفت إلى تهميشهم وتحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية.

 

استمرت الاضطرابات الطائفية من وقت لآخر، لا سيَّما في المدن، التي تمتّع مسلموها ببعض الرفاهة الاقتصادية وبالسيطرة على بعض الصناعات، مثل صناعة النسيج في "واراناسى" و"ماليغاؤن" و"بْهِيواندي"، وصناعة الأواني النحاسية في "مراد آباد"، ومصنوعات الزجاج في "فيروز آباد"، والأقفال في "عليغَرْه". ومن أمثلة المدن التي شهدت اضطرابات طائفية كبرى في هذه الفترة: "أحمد آباد" (1969)، ومراد آباد (1980)، وبْهِيواندي (1984)، و"ميروت" (1987)، و"بهاغلبور" (1989)، علاوة على اضطرابات في شتى أنحاء شمال الهند ومومباي عقب هدم المسجد "البابري" (1992)، وأحداث "كوجرات" الدامية عام 2002 حين كان "نارِندرا مودي"، رئيس وزراء الهند الحالي، رئيسا للولاية، وأخيرا أحداث "مُظفَّر ناغار" عام 2013 ودلهي عام 2020. وفي كل من هذه الأحداث قُتِل مئات بل وأحيانا آلاف من المسلمين، وحُرِقَت ممتلكاتهم، وفي بعض الأحياء اضطر المسلمون إلى النزوح عن قُراهم وأحيائهم. وتقع الاضطرابات الطائفية في الهند حاليا بمعدل حوالي 750 مرة سنويا بحسب تقارير وزارة الداخلية الهندية، التي لم تعد تعلن تفاصيلها منذ تولِّي "مودي" رئاسة الوزراء عام 2014.

 

صعود القومية الهندوسية

Activists from various Hindu right-wing groups shout slogans during a protest against the students of Jawaharlal Nehru University (JNU) outside the university campus in New Delhi, India, February 16, 2016. REUTERS/Anindito Mukherjee
بدأ مسلمو الهند ببناء حياتهم ومؤسساتهم رغم تنامي حضور الحركة القومية الهندوسية، التي هدفت إلى تهميشهم وتحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية. (رويترز)

اتخذ تهميش المسلمين أشكالا عديدة حتى عندما حكم حزب المؤتمر "العلماني" البلاد، فقد أزيحت اللغة الأُردية باعتبارها "لغة المسلمين" (والأُردية هي الهندية بلهجتها الشمالية مكتوبة بالحروف العربية والفارسية)، وأُغلِقَت آلاف المدارس الحكومية الناطقة بالأُردية. وبدأت تتضاءل فُرَص توظيف المسلمين، وتُجُوهِل تعيينهم عن عَمد في أي مناصب سيادية، حتى بات المسلمون اليوم أقل حظا من كل الفئات الأخرى في الحصول على الوظائف الحكومية والخاصة. وقد بدأ التدخل أيضا في الأحوال الشخصية الإسلامية رغم وجود قانون الشريعة لسنة 1937 الذي يحمي الأحوال الشخصية الإسلامية، وأُلغيت صفة "مؤسسة أقلية" عن جامعة عليغَرْه الإسلامية، وهي صفة منحت المسلمين بعض الامتيازات في السابق.

 

ولكن، لأن حزب المؤتمر اعتمد دوما على أصوات المسلمين للفوز في الانتخابات، ظهر اهتمامه بهم من وقت لآخر، مثل تعيين بعضهم في مناصب رمزية، كرئيس الجمهورية ونائب رئيس الجمهورية وحُكَّام الولايات، وهي مناصب لا يتمتع أصحابها بسلطات تنفيذية واسعة، وكذلك تعيين بعض الوزراء المسلمين في الحكومة المركزية وحكومات الولايات لمقاومة قطار الاضطهاد تارة، مع الرضوخ تارة أخرى لرغبات الشارع الهندوسي خشية فقدان أغلبية الرأي العام الهندي، وهي سياسة اتبعتها "إنديرا غاندي" بصورة مكشوفة عندما عادت إلى الحكم من جديد في أواخر السبعينيات خلفا لحكومة قومية هندوسية قصيرة.

 

في هذه الفترة أظهرت الحكومة اهتمامها بالمسلمين من وقت لآخر، ولكن وعودها بقيت حبرا على ورق، وعلى رأسها برنامج "النقاط الخمس عشرة" الذي أصدرته "إنديرا غاندي" سنة 1975 لتحسين وضع الأقليات وخصوصا المسلمين. وقد جدَّدت الحكومات اللاحقة البرنامج وطوَّرته دون أن يُنفَّذ، كما أنشأت "إنديرا" لجانا لدراسة أوضاع المسلمين، مثل لجنة "غوبال سينغ" سنة 1983، التي لم تُنفَّذ توصياتها. وفيما بعد، خَطَت حكومة رئيس الوزراء "مانموهان سينغ" في مطلع الألفية خطوة كبيرة حين عيّنت لجنة برئاسة القاضي "ساتشر" لدراسة أوضاع الأقلية المسلمة سنة 2005، وقدّمت هذه اللجنة تقريرها في السنة التالية، واستخلصت أن وضع المسلمين بات أسوأ من "الداليت" (المنبوذين في النظام الطبقي الهندوسي).

رئيس الوزراء "مانموهان سينغ" في مطلع الألفية خطوة كبيرة حين عيّنت لجنة برئاسة القاضي "ساتشر"
رئيس الوزراء "مانموهان سينغ" (يسار) والقاضي "ساتشر" (يمين). (مواقع التواصل)

قبلت حكومة حزب المؤتمر على مضض بعض توصيات لجنة ساتشر، مثل بدء برنامج المنح الدراسية للطلاب المسلمين، وإطلاق برامج لتحسين أحوال مناطقهم، وتجديد المدارس الدينية الإسلامية؛ ولكن الحكومة لم تنفذ توصيات مهمة أخرى، مثل سَنِّ قانون لكبح العنف الطائفي يسمح بمسائلة المسؤولين المحليين عند وقوع أي اضطرابات طائفية في مناطقهم، ولم تتحرك الحكومة أيضا لتغيير تخصيص مناطق الأكثرية المسلمة على أنها دوائر خاصة بالمنبوذين أو النساء، وتقسيمها إلى عدة دوائر بهدف تقويض أهمية أصوات المسلمين.

 

ثم أتت حكومة "مودي" قبل 10 سنوات وبدأت تُقلِّص المُخصَّصات المالية لهذه البرامج حتى ألغت معظمها. وبينما أوصت مفوضية القاضي "ميسرا" عام 2007 بتخصيص 10% من الوظائف الحكومية للمسلمين، فإن توصياتها لم تُنفَّذ. وقال وزير في حكومة مودي العام الماضي إن الحكومة لا تنوى فعل شيء بخصوص توصيات "ميسرا". أما حزب "بهارتيا جَنَتا" الذي يتزعَّمه مودي فسرعان ما يبدأ وحلفاؤه في الصراخ حال قُدِّم أي شيء للمسلمين، إذ يعتبرونه "استرضاء" لهم لأجل أصواتهم في الانتخابات.

 

المسلمون.. 200 مليون على هامش الهند

على مستوى التمثيل النيابي، كان ينبغي أن يكون عدد النواب المسلمين نحو 80 أو 90 نائبا في البرلمان الهندي المُنتخَب (الذي يتكون من 543 نائبا) بالنظر إلى نسبتهم بين السكان، ولكن بسبب السياسات المجحفة لم يحصل المسلمون في أفضل الأحوال إلا على نصف هذا الرقم طيلة تاريخ الهند الحديث. ومن أسباب ضعف المسلمين السياسي أنهم مشتتون في كل أنحاء الهند، غير أن هناك جيوبا يُشكِّلون فيها أكثرية، مثل "كشمير" وشمال "كيرالا" وجنوب "آسام" ومدينة "حيدر آباد" ومدينة "رام بور" ومديرية "مرشد آباد". وتبلغ نسبة المسلمين حاليا 14.23% من السكان بحسب آخر إحصاء أجري سنة 2011. وقد وصل التهميش السياسي لمسلمي الهند اليوم إلى حد أن الحكومة المركزية ليس فيها اليوم وزير مسلم لأول مرة في تاريخ الهند، في تجسيد عملي للتهميش ولخطط التيار القومي الهندوسي.

انفوجراف
(الجزيرة)

بالتزامن مع هذا التهميش السياسي، هنالك حرب مستمرة على المِهَن التي لا يزال المسلمون يمتازون فيها، مثل صناعة الجلود واللحوم. وبسبب عدم قبول المسلمين في الوظائف الحكومية، وحتى في بعض وظائف القطاع الخاص، يعمل أغلب المسلمين في مِهَن حُرة أو يفتحون دكاكين صغيرة أو يبيعون السلع على عربات، ولذلك يُعدّ معدل دخل الأسرة المسلمة الأدنى في الهند، وكذا صارت نسبة المسلمين في المهن الحرة الأعلى مقارنة بنظرائهم من الجماعات السكانية الأخرى. هذا وتحسنت أوضاع المسلمين بعد انفتاح دول الخليج على العمالة الهندية منذ أوائل السبعينيات.

 

في غضون ذلك، تعمد السلطات الهندية إلى إلهاء المسلمين عن المطالبة بتمثيل سياسي عادل وتحسين أوضاعهم الاقتصادية، وذلك عن طريق شغلهم بقضايا جزئية على شاكلة مطالبة بعض الحركات الهندوسية بهدم مساجد أثرية بحجة وجود أنقاض معابد هندوسية تحتها هَدَمَها المسلمون في وقت سابق، وبدأ هذا بالمسجد البابري الذي وضعوا فيه الأصنام عام 1949، ثم هدموه في ديسمبر 1992، وأخيرا استولوا على أرضه نهائيا بقرار مجحف من المحكمة العليا في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وقد جاء قرار المحكمة رغم اعترافها في حيثيات الحكم بأن المسجد البابري ظل مسجدا لمدة 5 قرون، وأن وضع الأصنام فيه عام 1949 كان جريمة، وأن هدمه عام 1992 كان جريمة أيضا، ومع ذلك حكمت بإعطاء الأرض للطائفة الهندوسية.

 

بدأت الحركات الهندسية بعدئذ تطالب بمساجد أثرية أخرى، وكانوا في البداية يطالبون بـ3 مساجد، ثم صاروا 300 مسجد، حتى وصلت القائمة إلى آلاف المساجد حول الهند. وقد وضع "مودي" أساس المعبد الفخم الذي بدأ بناؤه على أرض المسجد البابري في أغسطس/آب 2020، فيما عَدّه وأنصاره الانتصار النهائي للقومية الهندوسية على العلمانية، وإيذانا بميلاد هند جديدة وفقا للتعريف القومي الهندوسي. وسيُجرى افتتاح المعبد في أوائل السنة القادمة قبيل الانتخابات العامة في مايو 2024 كي يُفيد حزب "بهارَتيا جَنَتا" من الحدث سياسيا.

Indian Prime Minister Narendra Modi- - UTTAR PRADESH, INDIA - AUGUST 05: (----EDITORIAL USE ONLY – MANDATORY CREDIT - "INDIAN GOVERNMENT / HANDOUT" - NO MARKETING NO ADVERTISING CAMPAIGNS - DISTRIBUTED AS A SERVICE TO CLIENTS----) Indian Prime Minister Narendra Modi performs Bhoomi Pujan at ‘Shree Ram Janmabhoomi Mandir’ (Ram Temple) in Ayodhya, Uttar Pradesh on August 05, 2020.
رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي" يؤدي أداء بومي بوجان في (معبد رام) في أيودهيا، 5 أغسطس، 2020. (الأناضول)

وبحسب الأرقام الرسمية، يوجد في الهند أكبر عدد من الأوقاف الإسلامية (حوالي 600 ألف وقف إسلامي مُسجَّل لدى دوائر الأوقاف الحكومية)، ولكن الحكومة بدأت منذ أيام الإنجليز تستولي على الأوقاف لأغراض مختلفة، ثم استمرت الهجمة على الأوقاف إلى يومنا هذا، إذ استولت الحكومة والسياسيون والأهالي (ومنهم مسلمون للمفارقة) على الأوقاف في كل أنحاء الهند. وفي دلهي نفسها، اعترفت حكومة "إنديرا غاندي" في السبعينيات بوجود أكثر من 900 وقف في حوزة إدارات حكومية في المدينة. وبعد مفاوضات مضنية مع الزعماء المسلمين، رضيت بنقل 123 منها إلى دائرة الأوقاف في دلهي سنة 1984، دون أن يُنفَّذ الاتفاق حتى الآن.

 

تُهَم الإرهاب وتهديدات سحب الجنسية

بعد هدم المسجد البابري سنة 1992، بدأ اعتقال الشبان المسلمين بتهمة "الإرهاب" في خضم الاضطرابات الطائفية آنذاك. وبعد صعود مفهوم الحرب على الإرهاب بالتزامن مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، تزايدت وتيرة فبركة القضايا واختلاق منظمات وهمية وشن حملات اعتقالات للمسلمين. ويُعتقَل سنويا آلاف الشبان المسلمين، ويُفرج عن بعضهم بعد سنوات طويلة قد تصل إلى 20 سنة أو أكثر بعد إجراءات قضائية بطيئة تؤدي إلى تحطيم حياتهم وأسرهم. أما نِسَب الإدانة الفعلية فهي في حدود 2% فقط، وهي معظمها إدانات بسبب تزييف الشرطة وقوات الأمن للأدلة، كما يُجبَر الشباب أحيانا على الإقرار باعترافات كاذبة تحت التهديد بالقتل والتعذيب وانتهاك أعراض أُسَرهم. وتدَّعي المخابرات الهندية وجود أفرع لتنظيمات القاعدة وداعش و"لَشْكَر طيبة" وغيرها في الهند، ومن ثمّ تعتقل الشباب بتهمة الانتماء إلى تلك التنظيمات. وكان "أدواني"، وزير داخلية الحكومة القومية الهندوسية بين عامي 1999-2004، يردد مقولة: "ليس كل المسلمين إرهابيين، ولكن كل الإرهابيين مسلمون".

 

أتت أخطر خطوات حكومة "مودي" في هذا الصدد بتغيير قانون الجنسية سنة 2019 وإعلان عزمها إجراء مسح شامل في كل أنحاء الهند لنزع الجنسية عمّن لا يملك أوراقا كافية لإثبات هويته، مع وجود باب خلفي للهندوس دون غيرهم ممن ليست عندهم هذه الأوراق إن قدّموا إقرارات بأنهم جاؤوا من أفغانستان أو باكستان أو بنغلاديش، وقد كان القانون اعتداءً صارخا على نص الدستور الهندي وروحه الذي يقول بعلمانية الدولة والمساواة بين المواطنين، وتسبب ذلك في حركة معارضة عارمة، حيث استمرت المظاهرات ليل نهار في المئات من مدن الهند لأكثر من 3 أشهر من ديسمبر/كانون الأول 2019 إلى مارس/آذار 2020، ولم تتمكن الحكومة من كبحها إلا بعد إعلان الإغلاق التام بسبب جائحة كورونا.

Demonstrators try to remove police barricades during a protest against a new citizenship law outside the Jamia Millia Islamia university in New Delhi, India, January 30, 2020. REUTERS/Danish Siddiqui
متظاهرون يحاولون إزالة حواجز الشرطة خلال احتجاج على قانون الجنسية الجديد خارج جامعة الجامعة الإسلامية في نيودلهي، الهند، 30 يناير 2020. (رويترز)

توقف العمل بقانون الجنسية الجديد بسبب المظاهرات، لكن الحكومة الهندية لا تزال تكرر من وقت لآخر أنها ستُنفِّذه لطرد "الدخلاء" (من المسلمين على الأغلب) بحسب تعبير "أميت شاه"، وزير داخلية "مودي"، الذي وصفهم بـ"النمل الأبيض" ووعد بإلقائهم في بحر البنغال. ويُعتَقَد أنه لو نُفِّذ القانون فإن نحو 30-40 مليون مسلم سيفقدون جنسيتهم الهندية في ضوء إجراء مماثل جرى في ولاية "آسام" سنة 2019، حيث فَقَد نحو مليونَي شخص جنسيتهم من أصل 34 مليونا هم سكان الولاية. وردّا على المظاهرات، بدأت السلطات في استخدام البلدوزرات لهدم بيوت قادة الحراك في الولايات التي حكمها حزب "بهارَتيا جَنَتا". وقد توسعت السلطات لاحقا في هدم بيوت المسلمين ومتاجرهم والمدارس الإسلامية والمساجد بحجة أنها "غير مرخصة"، رغم أن الهندوس يملكون معظم المباني غير المرخصة في البلاد دون التعرض لهم.

 

أخيرا، جرى فجأة وبدون مؤشرات سابقة إلغاء الحكم الذاتي لولاية جامو وكشمير في أغسطس/آب 2019، وحُوِّلت إلى منطقة تابعة للحكومة المركزية مباشرة، وسُجن معظم السياسيين بها أو فُرضت الإقامة الجبرية عليهم، وقُطعت خطوط الإنترنت والهواتف المحمولة في الولاية كلما قامت مظاهرة أو حركة احتجاجا على سياسات الحكومة، حتى أصبحت كشمير أكثر مناطق العالم انقطاعا عن الإنترنت، وتحولت فعليا إلى أكبر سجن مفتوح في العالم.

 

المسلمون والهِندوتڤا

تنبع معظم مشكلات المسلمين والأقليات الدينية في الهند من الحركة القومية الهندوسية والأيديولوجيا الخاصة بها المعروفة بالهِندوتڤا (Hindutva)، التي ترى أنه لا مكان للمسلمين والمسيحيين في الهند، وأن عليهم أن يعيشوا فيها ضيوفا لأن لهم مقدسات خارجها (في المنطقة العربية)، على عكس الهندوس الذين يدينون بالولاء الوطني والديني معا لأرض الهند المقدسة. وقد عمل تنظيم السانغ (RSS) الأكبر في البلاد، الذي يعتنق هذه الفكرة، بجهد ودأب منذ تأسيسه عام 1925 لنشر أفكاره وزيادة أتباعه، حتى وصل ذراعه السياسي (حزب "بهارَتيا جَنَتا") إلى الحكم لأول مرة بين عامي 1999-2004، بيد أنه لم يتمتع بالأكثرية في البرلمان آنذاك، وحكم على رأس ائتلاف من 23 حزبا، ومن ثم لم تكن له الحرية الكاملة في سياساته. وقد تغيّر هذا الوضع حين فاز الحزب بأغلبية مقاعد البرلمان في انتخابات 2014، ثم مرة أخرى في انتخابات 2019 بزعامة "مودي".

BENGALURU, INDIA - FEBRUARY 23: Protestors affiliated with various Hindu organizations wave flags and placards during a demonstration against the killing of Harsha, a member of a Hindu group, on February 23, 2022 in Bengaluru, India. The murder of Harsha, 28, a member of the right-wing organization Bajrang Dal, in Shivamogga (Shimoga) in Karnataka, has created deep fissures in the state already reeling under instances of communal disharmony, with the latest flare up occurring when several colleges in the state barred Muslim students from attending classes while wearing the hijab. (Photo by Abhishek Chinnappa/Getty Images)
الحركة القومية الهندوسية. (غيتي)

منذئذ بدأ تنفيذ برامج الحركة الهندوسية بلا هوادة، فبدأ التضييق على المسلمين، وإلغاء بعض البرامج التي بدأتها حكومة حزب المؤتمر بعد توصيات لجنة ساتشر، وإطلاق العنان لميليشيات السانغ للهجوم على المسلمين بتهمة أكل لحم البقر وذَبْحه. وقد أخذت الدائرة تتسع في السنوات التِسع الماضية، حتى صار عاديا الآن أن يُعتدى على المسلمين في الشوارع والأوتوبيسات والقطارات، وأن تُمنع الطالبات المسلمات من ارتداء الحجاب في أماكن كثيرة، ومنع اللحم الحلال أثناء الأعياد الهندوسية، ونشر تعليقات مسيئة للمسلمين والإسلام على شبكات التواصل الاجتماعي وفي أدبيات غلاة الهندوس.

 

يحدث كل هذا بصفة يومية ولا يُتّخَذ أي إجراء ضد المجرمين، وحتى حين يتحرك القضاء بعد احتجاجات وشكاوى، سرعان ما يُفرَج عن المجرمين بعد أيام أو أسابيع قليلة، بما في ذلك القَتَلة منهم. وفي الوقت نفسه، يُعتقل أي مسلم أو مسيحي متَّهَم بإغراء هندوسي لاعتناق الإسلام أو المسيحية. كما يَجري على قدم وساق إجبار المسلمين والمسيحيين الجدد من الطبقات الدنيا وسكان الأرياف، الذين اعتنقوا الإسلام والمسيحية هربا من النظام الطبقي الهندوسي، على ترك ديانتهم و"العودة إلى البيت"، أي اعتناق الهندوسية من جديد، وذلك بإغرائهم بمكتسبات مادية ووظائف حكومية. ومنذ ديسمبر/كانون الأول 2021 هناك حديث متكرر على لسان غلاة قادة الهندوس عن بدء حرب إبادة على المسلمين والاستعداد لها، ويقول خبير الإبادة الجماعية الأميركي "غريغوري ستانتون" إن الهند أكملت كل المراحل التسع التي تُمهِّد الطريق لوقوع إبادة جماعية، ولم يبق منها إلا التنفيذ الفعلي. وهناك مخاوف من حدوث جرائم كبرى في أوائل السنة القادمة قبيل الانتخابات العامة، وللاستفادة من الاستقطاب والحصول على أصوات أكثر.

 

لقد تردَّت طيلة العقود السبعة الماضية أوضاع مسلمي الهند بعد أن كانوا نخبة العالم الإسلامي وقادته قبل استقلال البلاد سنة 1947، إلى وضع فقدوا فيه زمام السيطرة على حياتهم اليومية، وصارت الحركة القومية الهندوسية تعبث بالبلاد وبمصير الأقليات فيها كيفما شاءت، ولذا بدأت نخبة مسلمي الهند تهاجر من جديد إلى خارج البلاد في تكرار للطامة الكبرى التي تعرّضوا لها عند تقسيم البلاد، وهي هجرات ستترك فراغا كبيرا يستفيد منه غلاة الهندوس بلا شك، ويعينهم على تنفيذ خططهم مع الحد الأدنى من المقاومة.

المصدر : الجزيرة