الرياضة في مواجهة الاستعمار.. كيف واجهت كرة القدم الجزائرية الاحتلال الفرنسي؟

لطالما أثبتت كرة القدم دورها الاجتماعي والسياسي في حشد الجماهير وراء قضايا عامة ومحورية، ولعبت أدوارا بارزة في تشكيل الهويات الوطنية وتوحيد الشعوب في لحظات التمزُّق أو الانحدار السياسي والاجتماعي. على سبيل المثال، لعب المنتخب البرازيلي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين (التي حصل فيها على ثلاث كؤوس عالم أعوام 1958 و1962 و1970) دورا كبيرا في تعزيز الهوية الوطنية وتوحيد الطبقات الغنية والفقيرة، والبيضاء والسمراء، داخل المجتمع البرازيلي، بالإضافة إلى إظهار وجه جديد وقوة ناعمة للبلاد، التي نُظِر إليها بوصفها إحدى الدول المتخلِّفة في ذلك الوقت. [1] وفي ساحل العاج، وبعد سنوات من الحرب الأهلية، وجَّه النجم الإيفواري "ديديه دروغبا" بعد مباراة تأهُّل بلاده لكأس العالم 2006 رسالة إلى الطبقة السياسية في البلاد، مُطالبا فيها بوقف إطلاق النار وانتهاج الحلول السلمية، قائلا: "لقد أثبتنا اليوم أن كلَّ الإيفواريين قادرون على التعايش واللعب معا، رجاء دعونا نُلقِ الأسلحة ونُنظِّم انتخابات جامعة ونزيهة". [2]

على صعيد الكرة العربية، أدَّى فوز المنتخب العراقي بكأس آسيا عام 2007 إلى لمِّ شمل العراقيين، ولو لمدّة بسيطة، الذين مزَّق صفوفَهم الاقتتال الأهلي في أعقاب الغزو الأميركي عام 2003، ومن ثمَّ احتفلوا معا بفوز منتخبهم في لحظة اتحاد وطني نادرة، ولو لوهلة قصيرة. [3] بيد أن النموذج الأبرز عربيا في تقاطع كرة القدم مع مكافحة الاستعمار وتوحيد صفوف الجماهير، بل وصقل الهوية الوطنية وهي قيد التشكُّل، كان من نصيب الجزائر. فقد توهَّج دور كرة القدم في النضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي حين تسلَّحت الثورة الجزائرية بالكرة من ضمن أسلحة أخرى منها الشعر والسينما والأدب، إلى جانب الكفاح المُسلَّح بطبيعة الحال. وكانت الجزائر أول دولة في شمال أفريقيا تقع في قبضة الاحتلال الفرنسي سنة 1830، وظلَّت البلاد على هذه الحال لمدة 132 سنة. وكان استعمار الفرنسيين للجزائر استعمارا استيطانيًّا قسَّم البلاد إلى مُجتمعَين منفصِلَين؛ مجتمع أوروبي احتل الأرض، ومجتمع مُسلِم من الدرجة الثانية رغم أنه صاحب الأرض.

نادي "مولودية الجزائر" عام 1956.

انعكس هذا الانقسام على كرة القدم أيضا، إذ تعرَّضت النوادي الرياضية المُسلِمة في الجزائر لضغوطات عديدة من طرف السلطات الفرنسية، إما بالمنع أو سحب التراخيص، وإما بالقمع والاعتداء. ففي عام 1956 لعب نادي "مولودية الجزائر" مباراة ضد غريمه نادي "سان أوجن" (Saint Eugene) الفرنسي-الجزائري على ملعب "سان أوجن"، والمعروف اليوم بملعب "عُمر حمَّادي" ببلدية "بولوغين" (وحمَّادي قائد سابق للفريق ومن ثوَّار الجزائر الذين أعدمتهم سُلطات الاستعمار). وبعد أن عدَّل "مولودية الجزائر" النتيجة في آخر دقائق المباراة، وهَتفَت جماهير المولودية فرحا، رأى الفرنسيون في ذلك استفزازا لهم. فلم يكن تعديل النتيجة انتصارا رياضيا فحسب، بل انتصار معنوي للجزائريين كذلك، لا سيما أن المباراة لُعِبَت أثناء حرب التحرير بين عامَيْ 1954-1962. ولذا، هاجمت الجماهير الأوروبية الحضور الجزائري، وتدخَّلت الشرطة فألقت القبض على العديد من أنصار المولودية وزجَّت بهم في السجون. [4]

كانت الأندية المسلمة ظاهرة جديدة في البلاد، إذ انحصرت كُرة القدم بين الفرنسيين وحدهم حتى نهاية القرن التاسع عشر، حيث تأسست أندية مثل نادي "أفراح وهران" (Club des Joyeusetés d’Oran) عام 1894، ونادي "حرية وهران" الرياضي (Club Athlétique Liberté d’Oran) عام 1897 من طرف المستوطنين الأوروبيين. وكانت هذه الأندية من أوائل أندية كرة القدم على الصعيد العربي والأفريقي، ثمَّ تلتها نوادٍ أخرى في شتى مدن الجزائر ذات الحضور الأوروبي، مثل الجزائر وقسنطينة وعنابة. [5]

عُدَّ نادي "مولودية الجزائر" أول نادٍ جزائري مُسلِم لحظة تأسيسه في أغسطس/آب 1921.

انتظر الجزائريون حتى عشرينيات القرن العشرين لتأسيس نادٍ خاص بهم، وعُدَّ نادي "مولودية الجزائر" أول نادٍ جزائري مُسلِم لحظة تأسيسه في أغسطس/آب 1921. وقد اجتمع حينها "عبد الرحمن عوف" رفقة أصحابه في حي القصبة (الحي الذي قطنه أهل مدينة الجزائر بعيدا عن المستوطنين الأوروبيين)، وكان الهدف من الاجتماع تأسيس أول نادي كرة قدم مُسلِم في الجزائر. واقترح الحاضرون للاجتماع أسماء عديدة للنادي، على غرار البرق الرياضي الجزائري، والهلال الجزائري، والنجم الرياضي، والشبيبة الرياضية، وقد وجدوا صعوبة في اختيار الاسم المناسب، وفي لحظة لم يتوقَّعها أحد صعد صوت من داخل المقهى من شخص مجهول مُناديا "مولودية" نسبة إلى المولد النبوي الشريف الموافق لذلك اليوم، وهي التسمية التي لاقت تجاوبَ هؤلاء الشبان، فاتُّفِقَ عليها اسما للفريق، وبعدها اختيرت ألوان العلم الوطني ألوانا رسمية للفريق. [6]

صعود الحركة الوطنية.. والكرة الوطنية أيضا

ساهمت نشأة نادي "مولودية الجزائر" في نمو الحركة الوطنية داخل الدوائر الرياضية، وتعزيز الهوية المُسلِمة التي طالما حاربتها السلطات الفرنسية منذ بدء الاحتلال. وتزامن تأسيس الأندية الجزائرية في العشرينيات، مثل "النادي الرياضي القسنطيني"، و"الاتحاد الرياضي الإسلامي لوهران"، و"اتحاد الجزائر"، وغيرها من الأندية المسلمة حديثة النشأة، مع تأسيس حزب "نجم شمال أفريقيا" برئاسة "مصالي الحاج" سنة 1926، وهو أول حركة سياسية مُنظَّمة دعت إلى الاستقلال الكامل للجزائر. وقد لعبت هذه الحركة، والحركات السياسية الأخرى التي تلتها، دورا بارزا في تطوير الوعي السياسي لدى الشبيبة الجزائرية، وخاصة مع بروز المد الثوري وحركات التحرر، التي بدأت تؤتي ثمارها باستقلال دول العالم الثالث عن قبضة الاستعمار الغربي الغاشم.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ومجازر 8 مايو/أيار 1945 التي ارتكبتها السلطات الاستعمارية في الجزائر، وقُتل أثناءها أكثر من 45 ألف جزائري في أيام قليلة، خرج الجزائريون مطالبين بالاستقلال، وتصاعد الضغط على مدار سنوات إلى أن أعلنت جبهة التحرير الوطني اندلاع ثورة التحرير الكبرى في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1954. وقد أوقفت الأندية الجزائرية المُسلِمة حينئذ جميع أنشطتها، وانضم العديد من لاعبيها إلى جيش التحرير، فحملوا البنادق وسلكوا سبيل الكفاح المُسلَّح. أما على الضفة الأخرى من المتوسِّط، فأدَّى لاعبو كرة القدم الجزائريون بفرنسا دورهم الوطني بطريقة مختلفة. فقد نجحت فرنسا طيلة الحقبة الاستعمارية في الاستفادة من المواهب الكروية الجزائرية وضمَّتها إلى أندية الدوري الفرنسي. واستمرت هذه الحال حتى قرَّر "محمد بومرزاق" اللاعب المحترف هناك أن يتواصل مع قادة جبهة التحرير بهدف تشكيل فريق وطني يُمثِّل الجزائر دوليَّا -عُرِف لاحقا بـ"فريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم". [7]

محمد معوش (ويكيبيديا)

في كأس العالم سنة 1958 بالسويد، الذي خسرت فرنسا مباراته النهائية أمام البرازيل، استدعى المدرب الفرنسي "بول نيكولا" أربعة لاعبين جزائريين إلى تشكيلة المنتخب الفرنسي قبل البطولة، وهُم "رشيد مخلوفي"، الهدَّاف التاريخي وأسطورة نادي "سانت إتيان"، و"مصطفى زيتوني" مدافع نادي "موناكو"، و"محمد معوش" مهاجم نادي "رَيمس"، و"عبد العزيز بن طيفور" مهاجم نادي "موناكو". ولكن قبل شهرين فقط من انطلاق المنافسات، فرَّ اللاعبون الأربعة ومعهم 30 محترفا جزائريا في الدوري الفرنسي الأول، واتجهوا جميعهم إلى تونس. وقد تواصلت جبهة التحرير الوطني مع هؤلاء اللاعبين بالتنسيق مع "محمد بومرزاق"، وأقنعتهم بفكرة تشكيل فريق يُمثِّل الجزائر في المحافل الدولية ويساند قضيتها عالميا. وكانت خلايا جبهة التحرير منتشرة في فرنسا آنذاك، ونظَّمت هروب جميع اللاعبين من فرنسا عبر الحدود السويسرية والإيطالية إلى تونس. واستطاعت السلطات الفرنسية القبض على لاعبَين اثنَين وهما يحاولان الهروب، هما "حسان شاربي" و"محمد معوش"، حيث سُجِنا بعدئذ سنة كاملة.

كان "رشيد مخلوفي" ابن مدينة سطيف إحدى أبرز المواهب الصاعدة في فرنسا وأوروبا حينذاك، وكان من المفترض أن يقود الهجوم الفرنسي في كأس العالم 1958 وعُمره 22 عاما فقط، بيد أن مخلوفي قرَّر الالتحاق بالثورة مُضَحيا بمستقبله الكروي في أوروبا قائلا: "لم أتردَّد لحظة واحدة في تلبية النداء، فلم يكُن أغلب الفرنسيين على علم بما يجري في الجزائر، ولكن بعدما التحقنا بجبهة التحرير تبيَّنت لهم الحقيقة". [8] وقد تصدَّر فريق جبهة التحرير الصحف الفرنسية والعالمية، وسرعان ما قدَّم الاتحاد الفرنسي لكرة القدم شكوى لمنع هؤلاء الجزائريين من اللعب في أي فريق، ومنع فريق جبهة التحرير من المشاركة في أي بطولة دولية، وهو ما حصل بالفعل، إذ هدَّد الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" كل الدول التي ستستقبل فريق جبهة التحرير الجزائرية، غير أن هذا الوعيد لم يمنع الدول الجارة والحليفة من اسقبال منتخب الثوار.

الكرة الجزائرية في زمن مقاومة الاستعمار

لُعِبَت أول مباراة لفريق جبهة التحرير مع الشقيقة تونس، الدولة الحاضنة للفريق والحكومة الجزائرية المؤقتة، وفاز المنتخب الجزائري في المباراة وأكمل مسيرته نحو العديد من المدن الأفريقية والآسيوية والأوروبية، مثل "بكين" و"بلغراد" و"بوخارِست" و"هانوي"، وهي كُلُّها مُدن محسوبة إمَّا على المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، وإما على دول حركة عدم الانحياز التي تزعَّمتها مصر والهند ويوغوسلافيا حينئذ. وقد أدركت تلك الدول الحليفة كافة أهمية الدور السياسي لفريق جبهة التحرير، فلم يكن مجرد فريق كرة قدم، بل كان جزءا من قضية سياسية عالمية في خضم موجة مكافحة الاستعمار الكاسحة في ذلك الوقت. ففي فيتنام مثلا، استقبل رئيس فيتنام الشمالية "هو تشي مِنه" طاقم الفريق الجزائري، وهو أشهر قادة الثورة الفيتنامية ضد الاستعمار الفرنسي، وكذلك جرى استقبال الفريق في الصين تحت حُكم الحزب الشيوعي من جانب رئيس الوزراء "شو إن لاي".

رُفع العلم الجزائري وعُزف النشيد الوطني "قَسَمًا" للمرة الأولى في افتتاحية مباراة فريق جبهة التحرير مع المنتخب العراقي ببغداد سنة 1959، وفاز حينها الفريق الجزائري بثلاثة أهداف لصِفر. ولم يكتفِ فريق جبهة التحرير بإيصال رسالته الثورية للعالم فحسب، بل أكَّد أيضا لعب كرة قدم جميلة وممتعة. ففي حين انتهجت الكثير من المنتخبات الأسلوب الدفاعي في اللعب، لعب فريق جبهة التحرير بخطة 4-2-4 الهجومية التي منحت اللاعبين مرونة ومساحة أكبر للإبداع والفنيات. وقد أدَّى هذا الأسلوب الهجومي إلى فوز الفريق بنتائج كبيرة، مثل الفوز على تونس 8-0، والفوز على يوغوسلافيا 5-1، والفوز على المغرب 8-0، وزاد في الوقت ذاته من شعبية الفريق عالميا ومن تعاطف شعوب كثيرة مع القضية الجزائرية. [9]

 

قال "رشيد مخلوفي" واصفا سنوات اللعب باسم فريق جبهة التحرير: "كنا نُكمِّل بعضنا بعضا، لكنَّ عاملا واحدا كنا نتشارك فيه جميعنا: الوطنية المُتجذِّرة فينا، وحبُّنا اللا مشروط لوطننا الجزائر". (مواقع التواصل)

لعب فريق جبهة التحرير الوطني ما يفوق التسعين مباراة منذ تأسيسه إلى أن استقلَّت الجزائر عام 1962، واعتُمِد فريقُها الوطني رسميا من طرف الفيفا عام 1963. وقد رجع لاعبو فريق جبهة التحرير الوطني إلى اللعب في الأندية المختلفة، إما في الدوري المحلي وإما في الدوريات الأوروبية. واستفادت الكرة الجزائرية من لاعبي فريق جبهة التحرير حتى بعد اعتزالهم، فكان اللاعب "رشيد مخلوفي" عضوا بالطاقم التدريبي الذي قاد المنتخب الجزائري للمشاركة في كأس العالم عام 1982 في إسبانيا، وفازت الجزائر على ألمانيا الغربية 2-1 في تلك البطولة، ثمَّ حازت الجزائر أول لقب أفريقي عام 1990 تحت قيادة المدرب "عبد الحميد كرمالي"، الذي كان لاعبا في فريق جبهة التحرير أيضا ومن قبله في نادي "أوليمبيك ليون" الفرنسي.

وقد قال "رشيد مخلوفي" واصفا سنوات اللعب باسم فريق جبهة التحرير: "كنا نُكمِّل بعضنا بعضا، والأكيد أن كلَّ واحد منا كانت له خصوصياته ونقاط قوته ومهاراته، لكنَّ عاملا واحدا كنا نتشارك فيه جميعنا: الوطنية المُتجذِّرة فينا، وحبُّنا اللا مشروط لوطننا الجزائر. هذه العوامل هي التي صنعت قوتنا ومَكَّنتنا من لعب كرة جميلة بشهادة الجميع. وكم كانت فرحتنا كبيرة حينما أدركنا أن رسالتنا الحقيقية تمثَّلت في الدفاع عن ألوان العلم الوطني في المقام الأول". [10]

________________________________________

المصادر

  1. Brazilian Futebol and the 1958 World Cup. Brown University Library. 
  2. How the World Cup Stopped a War. Copa90 Stories.
  3. Football’s Greatest Ever Underdog Story. Tifo Football 
  4. "11 مارس 1956.. يوم تمرَّدت الملاعب الجزائرية على فرنسا الاستعمارية"، أصوات مغاربية.
  5. Club de football de Oran. Footballogue. 
  6. "تاريخ الكرة الجزائرية، الحلقة الأولى: أندية رياضية بأهداف سياسية"، العربي الجديد. 
  7. "كيف هرب اللاعبون الجزائريون من فرنسا للالتحاق بالثورة قبل 60 عاما؟"، BBC
  8. المصدر السابق.
  9. Peter Alegi. (2010). How a Continent Changed the World’s Game. Ohio: Ohio University Press. P. 48.
  10. "كيف هرب اللاعبون الجزائريون من فرنسا للالتحاق بالثورة قبل 60 عاما؟"، BBC
المصدر : الجزيرة