حائزة على نوبل تقاطع إسرائيل.. لِمَ قررت آني إرنو دعم نضال الفلسطينيين؟

لا يزال اسم الكاتبة الفرنسية آني إرنو الحائزة على جائزة نوبل للآداب لهذا العام يتصدر عناوين الصحف ومحركات البحث، خاصة في العالم العربي، الذي يعيد القراء فيه اكتشافها. ولا يرجع هذا الحماس فقط إلى وجود عدد من مؤلفاتها مترجما إلى العربية، ما يجعل التعرف إلى عالمها في متناول القارئ العربي، بقدر ما يرجع إلى رابط آخر سرعان ما اكتشف القراء العرب أنه يجمعهم مع الكاتبة الفرنسية.

فبعيدا عن إنجازها الأدبي، اهتم القراء العرب بمواقف إرنو السياسية وانحيازاتها الأخلاقية الواضحة وعدائها المعروف لدولة الاحتلال الإسرائيلي ودعمها المستمر للقضية الفلسطينية، بعد أن أصبحت أول أديبة تفوز بنوبل وتمتلك مواقف واضحة ضد إسرائيل.

هذه المواقف دفعت العديد من الصحف الإسرائيلية لانتقاد فوزها بجائزة نوبل ووصفها بأنها كاتبة معادية للسامية، وانتقاد دعمها المستمر لحركة المقاطعة "BDS"، وهي حركة ذات امتداد عالمي تسعى لمقاومة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، من أجل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة في فلسطين وصولا إلى حق تقرير المصير لكل الشعب الفلسطيني. وتتناول مطالب حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) طموح وحقوق جميع مكونات الشعب الفلسطيني التاريخية من فلسطينيي أراضي عام 1948 إلى قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس، إلى المخيمات والشتات. ويُعبِّر اسم الحركة عن الحروف الأولية لكلمات "مقاطعة" (Boycott)، و"سحب الاستثمارات" (Divestment)، و"فرض العقوبات" (Sanctions).

مواقف سياسية حاسمة

ومن أشهر مواقف إرنو في هذا الصدد، توقيعها عام 2018 بيانا مع ثمانين شخصية ثقافية بارزة من أجل معارضة إنشاء موسم للفعاليات الثقافية من قِبَل الحكومتين الفرنسية والإسرائيلية إحياء للذكرى السبعين لتأسيس دولة إسرائيل المحتلة، وقد اتهم هذا البيان دولة إسرائيل باستخدام الأحداث الثقافية لتبييض جرائمها ضد الفلسطينيين، كما انتقد التمثيل الإيجابي لدولة إسرائيل في وسائل الإعلام الفرنسية، وجاء في نصه أنه "واجب أخلاقي على أي شخص ذي ضمير أن يرفض تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل".

كذلك في مايو/أيار 2019، وقَّعت آني إرنو مع أكثر من 100 فنان فرنسي آخر، من بينهم المخرج الراحل جان لوك جودار، على خطاب يطالب شبكة البث الفرنسية الرسمية بعدم بث مسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن" (Eurovision)، التي أُقيمت ذلك العام في تل أبيب، وتحديدا في منطقة رمات أبيب المقامة على أنقاض قرية الشيخ مونس، وهي واحدة من مئات القرى الفلسطينية التي أُخليت من سكانها ودُمِّرت عام 1948 عندما أُقيمت دولة إسرائيل.

ومؤخرا، وقَّعت إرنو العام الماضي 2021 على خطاب حمل عنوان "رسالة ضد الفصل العنصري: دعما للنضال الفلسطيني من أجل إنهاء الاستعمار"، وجاء في نص الخطاب أن "من التضليل تقديم هجوم إسرائيل على غزة على أنه حرب بين طرفين متساويين"، كما أشار الخطاب إلى الإجماع شبه العالمي حول ممارسة إسرائيل لجريمة الفصل العنصري، مقارنا إياها بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كما ندَّد بالسياسة الإسرائيلية في قطاع غزة وكذلك الهجمات الإسرائيلية على العرب والفلسطينيين.

وقَّعت إرنو على بيان يطالب بالإفراج عن اللبناني جورج عبد الله، الذي شارك في تأسيس الفصائل الثورية المسلحة اللبنانية عام 1980. (مواقع التواصل)

وجاء في نص الخطاب: "نطالب بوقف فوري وغير مشروط للعنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وندعو جميع الحكومات التي تسمح بهذه الجريمة ضد الإنسانية لفرض عقوبات وتعبئة هيئات المساءلة الدولية وإنهاء علاقاتهم التجارية والاقتصادية مع إسرائيل". وقد جاء ذلك الموقف في أعقاب حملة إسرائيلية في المسجد الأقصى وقصف استمر 11 يوما على قطاع غزة المحتل، وقُتل خلاله ما لا يقل عن 254 فلسطينيا من بينهم 66 طفلا.

كما وقَّعت إرنو على بيان يطالب بالإفراج عن اللبناني جورج عبد الله، الذي شارك في تأسيس الفصائل الثورية المسلحة اللبنانية عام 1980، وحُكم عليه بالسجن المؤبد عام 1982 لاغتيال الملحق العسكري الأميركي المقدم تشارلز آر راي والدبلوماسي الإسرائيلي يعقوب بار سيمانتوف.

ولا يمكن اختصار مواقف إرنو السياسية في دعم القضية الفلسطينية فقط، فلطالما كانت ملتزمة بدعم العديد من القضايا الإنسانية وقضايا اليسار، ودافعت دائما عن حقوق الطبقة العمالية والنساء والأقليات، متجاهلة اليمين الفرنسي. وعُرف عنها تأييدها لحراك "Me_too"، وحركة السترات الصفراء في فرنسا، كما أشادت إرنو مؤخرا بشجاعة النساء الإيرانيات في احتجاجاتهن ضد النظام، كما أدانت الحرب الروسية على أوكرانيا.(1)

الكتابة الذاتية التي تحمل هم العالم

(رويترز)

ومن اللافت للنظر أنه على الرغم من مواقفها السياسية الواضحة التي تعبر عنها بصراحة وشجاعة سواء في مقالاتها أو لقاءاتها التلفزيونية أو الصحفية، فإنها لم تجعل من كتبها الأدبية دعاية لتلك المواقف، بل على العكس من ذلك، فقد انتمى ما تكتبه دائما إلى عالمها الذاتي. وتُفرِّق إرنو في أحاديثها بين لغة الكتابة ولغة السياسة، فلغة الكتابة كما وصفتها لغة تحريضية تحث على التفكير والحلم والتذكر.

ترى إرنو أن الكتابة فعل سياسي بالمعنى الواسع، لأنها تمنح صورة عن العالم والأفراد، وهي تعتبر نفسها حين تصف مجموعة من التحديدات الاجتماعية والجنسية واللغوية في حوار مستمر مع العالم والزمن، لكنها في الوقت ذاته تستخدم تلك الذاتية أو الفردية في البحث عن آليات أو ظواهر جماعية أكثر عمومية. ولذلك فرغم انطلاق كتاباتها دائما من مواقف ومشاعر وذكريات ذاتية للغاية، فإن نصوصها تتضمن رؤية واعتراضا على الأوضاع الاجتماعية وأوضاع النساء.

على سبيل المثال، في كتابها "المكان"، ورغم كونه كتابا ذاتيا عن علاقتها بأبيها، فإنها في سعيها لتعرية شعورها بالذنب تجاه ما سمَّته خيانتها لطبقتها، قدَّمت نقدا صادقا لنظرة اليسار للطبقة العمالية. كما استطاعت عبر رواية "الحدث" التي انطلقت من تجربة الإجهاض التي تعرضت لها خلال دراستها الجامعية أن تدافع عن حقوق النساء. هكذا تظهر أفكارها ومواقفها تجاه العالم في نصوصها الذاتية جدا دون ضجيج أو افتعال.(2) (3)

ربما لذلك تصف إرنو ما تكتبه بأنه يقع في منطقة ما بين الأدب وعلم الاجتماع والتاريخ، وترفض أن تُصنِّف نصوصها في قوالب الرواية أو السيرة الذاتية أو حتى الخيال الذاتي (Autofiction)، وتتعمَّد تجاوز المعتاد من الجماليات والاستعارات لتعتمد على لغة مكثفة تقوم على جمل قصيرة للغاية، كي تصل إلى ما أطلق عليه رولان بارت "الكتابة في درجة الصفر". يتجلى ذلك بشكل كبير في كتابها "السنوات" الذي رُشِّح لجائزة البوكر، حيث تمزج فيه بين الحكايات والتجارب الذاتية وعلم الاجتماع، في محاولة لفهم التاريخ السياسي والثقافي والحراك النسوي الفرنسي على مدار 60 عاما. (4)

السياسة حاضرة منذ الصغر

رغم أن والدي آني إرنو لم ينخرطا في أحزاب سياسية مباشرة، فإنها تصف انتماءاتهما أو رؤيتهما للعالم بأنهما "أدركا السياسي من خلال الاجتماعي". (مواقع التواصل الاجتماعي)

في حديث لها مع الناقد الفرنسي ألكسندر غيفن، تحدثت إرنو عن علاقتها بالسياسة ومواقفها السياسية، التي أرجعتها إلى وعيها السياسي المبكر الذي يعود لولادتها في منطقة النورماندي شمال غرب فرنسا في الأربعينيات وفي أوج الحرب. ونتيجة لطبيعة لنشأتها مع أبوين يديران مقهى ومحلا للبقالة، كانت السياسة دائما حاضرة بقوة في أحاديث ونقاشات زبائنهما من العمال، مما أدى إلى تفتح وعيها المبكر على قضايا النضال العمالي والصراع الطبقي والعدالة الاجتماعية.

ورغم أن والديها لم ينخرطا في أحزاب سياسية مباشرة، فإنها تصف انتماءاتهما أو رؤيتهما للعالم بأنهما "أدركا السياسي من خلال الاجتماعي". وقد أشارت في الحديث نفسه إلى أنها شهدت خلال فترة الطفولة والمراهقة أحداثا سياسية مهمة، من بينها إضراب صيف 1954، وحرب الجزائر، والنقاشات حول الجمهورية الخامسة التي أرادها ديغول. في ذلك الوقت ومن خلال النقاشات الدائمة نما حسها السياسي، وحين كانت في التاسعة عشرة من عمرها كانت إرنو من معارضي سياسات ديغول ومن مؤيدي استقلال الجزائر.

وفي الحديث نفسه تصف إرنو أيضا تأثير قراءاتها الأولى على مواقفها السياسية، وتتحدث عما سمَّته هزة قوية أصابتها عند قراءة رواية "عناقيد الغضب" لجون شتاينبك، وكذلك عن تأثرها بالقراءات الماركسية التي وفَّرتها لها أستاذتها لمادة الفلسفة في المرحلة الثانوية، الأستاذة التي أولت العناية اللازمة لتدريس 25 تلميذة جزائرية كن يعشن في حي صُنعت منازله من القصدير بمدينة "روان" في منطقة نورماندي نفسها، ومن بين أوائل هذه القراءات كتاب "الحياة اليومية للعوائل العمالية" (La Vie Quotidienne Des Familles Ouvrieres) لعالم الاجتماع الفرنسي بول هنري شومابار دولاو (Paul-Henry Chombart de Lauwe).

غلاف كتاب "الحياة اليومية للعوائل العمالية" (La Vie Quotidienne Des Familles Ouvrieres) (مواقع التواصل الاجتماعي)

بعد ذلك، وخلال دراستها الجامعية عاشت إرنو في مجتمع قامع لحرية النساء في التصرف في أجسادهن، وعانت بعد ذلك من شعورها بالخيانة الطبقية بعد أن ساهم التعليم ثم عملها بالتدريس في الانسلاخ عن طبقتها الاجتماعية الأصلية. كل تلك العوامل التي استطاعت أن تحللها بروية فيما بعد في أعمالها شكَّلت وعيها ومواقفها الأخلاقية والسياسية الحاسمة.

وفي مقابلتها مع التلفزيون السويدي بعد الإعلان عن فوزها بنوبل، وصفت إرنو الجائزة بأنها شرف عظيم ومسؤولية كبيرة في الآن نفسه، كي تواصل الشهادة على ما سمَّته شكلا من أشكال الإنصاف والعدالة فيما يتعلق بالعالم.

____________________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة