هل يصبح التخاطر لغةَ البشر الجديدة على يد إيلون ماسك؟

انتفضت الأم فجأة، وقامت من نومها العميق على شعور جارف بالقلق، جلست على طرف سريرها واغرورقت عيناها بالدموع؛ فلقد أحسّت بإحساس لم تحسه منذ أعوام، ابنها صاحب العشرين عاما يقف في وسط الظلام ينادي عليها بأعلى صوت وكأنه في مأزق، وهي تسمعه وتشعر بما يشعر به من ضيق صدر، ولكنها لا تستطيع الوصول إليه وإمساك يده لإنقاذه مما هو فيه، دقّت الساعة فوق سريرها مُعلنة الثانية بعد منتصف الليل، فذهب ذلك الإحساس فجأة ليحل محله شعور بحزن شديد على ابنها دون أن تدري ما السبب.

 

"ساعة الوفاة هي الثانية بعد منتصف الليل…"، أعلنها الطبيب بعدما حاول هو ومساعدوه على مدار نصف الساعة إنقاذ ذلك الفتى من آثار الغرق في مياه أحد شواطئ الساحل الشمالي.

 

لا شك أننا سمعنا عن هذا السيناريو من قبل، وعادة ما ينتشر الحديث عنه في كتب الأحداث الخارقة، ويُعرف بالتخاطر (Telepathy)، وهو عملية نقل الأفكار أو المشاعر من عقل شخص إلى عقل شخص آخر يبعد كلٌّ منهما عن الآخر مسافة لا تسمح بالتواصل المعتاد مثل التواصل باللغة أو بالإشارة، ويظل مفهوم التخاطر محل شك من العلماء والباحثين؛ لأنه يفتقر للأدلة العلمية والتجارب اللازمة لإثبات وجوده، واقتصر تصنيف حوادثه على أنها من الماورائيات أو الخيال العلمي.

 

اهتمت جمعية الأبحاث النفسية منذ تأسيسها في لندن عام 1882م بأمور مثل الاستبصار والأشباح والتخاطر، وانقسم أعضاؤها إلى فريق يؤمن بوجود قوة فوق الطبيعة، وفريق آخر ينتهج المنهج العلمي في تحليل الظواهر النفسية، ويُعَدُّ فريدريك مايرز أحد مؤسسي الجمعية هو مَن صاغ مصطلح التخاطر.

 

أتى عالم النفس كارل زينر في أوائل عام 1930م ليُصمِّم بطاقات زينر لتحليل قدرات إدراك خارج الحواس مثل التخاطر، حيث يطّلع شخص على البطاقات، ثم يقوم شخص آخر بتوقُّع الشكل المرسوم على كل بطاقة بناء على ما يقرؤه من عقل الشخص الأول، تحت إجراءات صارمة تضمن عدم وقوع غش أو تلميح من قِبل الشخص الأول لتسهيل معرفة مضمون كل بطاقة للشخص الآخر.

بطاقات زينر

وأثناء الحرب الباردة، أسّست الولايات المتحدة مشروعا تحت اسم "ستار جيت" (Star Gate)، يهدف إلى عمل دراسات وتطبيقات لقدرات مثل التخاطر والتحكم في العقل والرؤية عن بُعد، وذلك لعلم الولايات المتحدة بإنفاق الاتحاد السوفيتي الملايين سنويا في هذا المجال، ولكن أُنهِي مشروع "ستار جيت" عام 1995م نظرا لعدم نفعه في الأعمال الاستخباراتية بحسب تقرير وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA)، وهنا توقّف الأمر.

 

عنوان ميدان

حديثا، مكّنت أجهزة مثل جهاز تخطيط كهربائية الدماغ (EEG)، وجهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وغيرهم، من إجراء الأبحاث والتجارب بشكل يمكن قياسه وملاحظته؛ إذ يُعَدُّ أول استخدام لجهاز تخطيط كهربائية الدماغ (EEG) على إنسان كان عام 1924م، ولكي نفهم آلية عمل ذلك الجهاز دعونا نفهم في البداية آلية عمل أدمغتنا، فلو تأملت هاتفك المحمول وآلية عمله، فعندما تتحدّث في هاتفك، فحديثك يتحول إلى موجات راديوية تنتقل من هاتفك إلى الهاتف الآخر الذي يُترجم هذه الموجات لحديث يفهمه الشخص على الطرف الآخر من المكالمة.

 

الدماغ كذلك يُرسل إشارات ضوئية صغيرة وموجات كهرطيسية، لكنها تختلف عن الهاتف المحمول في أربعة اختلافات، فالإشارات صغيرة جدا، كما أنها مشوشة قد لا نستطيع تمييزها من الضوضاء التي حولها، ولا يوجد جهاز في أدمغتنا لاستقبال الإشارات المُرسَلة من أدمغة غيرنا، وأخيرا فلا يوجد جهاز بداخل الدماغ لترجمة تلك الإشارات، لكن ذلك قد يكون ممكنا عن طريق توصيل أقطاب على الرأس.

الدماغ

في تجربة نُشرت في دورية "بلوس وان"، وجد باحثون في علوم الأعصاب سنة 2014م أن هناك إمكانية للتواصل ونقل الأفكار بين عقل وآخر يفصلهما مسافة نحو 8 آلاف من الكيلومترات، فقد نُقِلت كلمات مثل "مرحبا" من عقل أحد المشاركين بالتجربة في الهند إلى عقل مشارك آخر في فرنسا بدون تحدُّث أو كتابة بمعدل خطأ من 1% إلى 11% فقط لاغير.

 

تمت التجربة عن طريق تركيب جهاز المحفزات المغناطيسية عبر الجمجمة (Transcranial magnetic stimulation) ويُعرف اختصارا بـ (TMS) والذي يُستخدم لعلاج بعض الأمراض مثل التوتر والاكتئاب، وُضِع الجهاز فوق مركز البصر في دماغ الشخص المُرسِل الموجود بالهند، حفّز الجهاز الخلايا العصبية بالمخ لإرسال إشارات كهربائية بالنظام الثنائي (0،1)، واستقبل جهاز تخطيط كهربائية الدماغ (Electroencephalography) (EEG) تلك الإشارات، ثم أُرسلت عن طريق البريد الإلكتروني إلى أشخاص آخرين في فرنسا، هؤلاء الأشخاص الذين لديهم جهاز المحفزات المغناطيسية عبر الجمجمة موصل بمركز البصر لديهم، استقبلوا الإشارات الكهربية المُرسَلة ثم قاموا بترجمتها إلى كلمات، ووُجِد أنها الكلمات نفسها المُرسَلة من الشخص الموجود في الهند.

 

أضف إلى ذلك أن باحثين من جامعة واشنطن قد تمكّنوا، في عام 2014م، من الربط دماغيا بين شخصين على مسافة نحو كيلومتر، وتمكّن أحدهما من دفع الآخر، عبر إشارات دماغية فقط، للضغط على زرٍّ بلون محدد، ثم تمكّن فريق بحثي آخر من الجامعة نفسها في عام 2019م من إيجاد طريقة تُمكِّن ثلاثة أشخاص من حل مشكلة معا باستخدام التواصل العقلي فقط؛ حيث يساعد شخصان الشخص الثالث في حل مشكلة محددة باستخدام الإشارات الكهربية فقط التي تنتقل من عقولهما إلى عقل ذلك الشخص، ويأمل الباحثون في المستقبل القريب أن يتعاون البشر لحل المشكلات الصعبة التي تواجههم بمثل هذه الطرق والتي قد لا يستطيع حلها عقل بمفرده.

 

عنوان ميدان

لا شك أن بعض خصائصنا البيولوجية تغيّرت مع مرور الوقت، فعبر آلاف السنين استطاع البشر تنمية قدرات لم تكن عند أسلافهم، فمنذ نحو ثلاثة آلاف سنة مكّنت طفرة جينية الجنس البشري من القدرة على التنفس على ارتفاعات عالية مثل هضبة التبت، كذلك أصبح شخص واحد من أصل أربعة أشخاص لا يظهر لديهم ضرس العقل بداخل الفك، والذي قد يكون نتيجة اعتماد الإنسان على طهي الطعام وتسويته جيدا قبل الأكل، أيضا وُجِد أن درجة حرارة الجسم تقل بمعدل 0,029 درجة مئوية كل عشر سنوات، وغيرها وغيرها من الخصائص، وقد يمر جنسنا البشري خلال المئة عام القادمة بتطور بيولوجي جديد على مستوى التواصل.

درجة حرارة الجسم

يتوقع مجموعة من الباحثين من جامعة كاليفورنيا ومن المعهد الأميركي للتصنيع الجزيئي أن في المستقبل قد يستفيد البشر من الكم الهائل من المعلومات على الإنترنت عن طريق تصنيع واجهة حاسوبية تربط القشرة المخية لدى البشر بالإنترنت، فتدمج الذكاء الاصطناعي والتفكير الجمعي لملايين البشر معا؛ مما يُتيح للبشر التجوُّل بعقولهم فقط في ملايين من المصادر والمراجع وتحميل ما يريدونه فوريا على الذاكرة، مُطوِّرين بذلك القدرة على التعلُّم والذكاء البشري، كذلك القدرة على حل العقبات والمشكلات المختلفة.

 

كان التواصل البشري قبل مئات الآلاف من السنين يقتصر على التواصل الجسدي، مثل تنظيف الأفراد بعضهم بعضا مما يعلق بأجسادهم من حشرات أو قاذورات، وكان هذا التواصل يُعزِّز من العلاقات الاجتماعية والتحالفات بين بعضهم بعضا، وذلك بحسب افتراض العالم روبين دنبار، ثم طوّر الإنسان اللغة لكي يستطيع التواصل مع جماعات أكبر بشكل أكثر فعالية، وتطوّرت اللغات على مر العصور حتى وقتنا هذا، وفي ضوء الدراسات السابق ذكرها، قد تتطوّر وسيلة التواصل بيننا نحن البشر لشكل أكثر تعقيدا ألا وهو التواصل المباشر عبر الأفكار.

 

عنوان ميدان

أطلَّ علينا إيلون ماسك في التاسع والعشرين من أغسطس/آب الماضي في مؤتمر لشركة "نيورالينك" لكي يُعلن عن شريحة بحجم العملة المعدنية تتدلى منها حزمة من الشعيرات تُزرع في الجمجمة، بواسطة روبوت في عملية دقيقة للغاية لا تحتاج إلى تخدير كلي، ويستطيع الشخص المصاب الخروج من المستشفى في اليوم نفسه. بعد ذلك تتصل الشريحة بتطبيق على الهاتف المحمول أو أي جهاز آخر من خلال البلوتوث، ويستطيع حينها الإنسان التحكُّم فيما حوله عن طريق دماغه، مثل التحكُّم عن بُعد في الأجهزة الإلكترونية، كأن تُشغِّل أغنية معينة أو أن تتحكّم في سيارة تسلا المرتبطة كذلك باسم إيلون ماسك.

يأتي ذلك تماشيا مع هدف شركة "نيورالينك" الذي أعلنه إيلون ماسك في بداية مؤتمره وهو حل مشكلات المخ والعمود الفقري، مثل فقدان الذاكرة والاكتئاب والإدمان والشلل وغيرهم، عن طريق زرع جهاز في دماغ الشخص المصاب.

 

قد يكون الطريق إلى الأحلام التي طالما تخيلناها قديما، وحكى عنها إيلون ماسك، مثل قراءة الأفكار والتخاطر طريقا إلكترونيا، قائما على أساس علمي ومليئا بألفاظ مثل شريحة وموجات وبلوتوث، بدلا من الاعتماد على قوة خارقة وهمية لا تفسير لها، فالمخ مليء بالأعصاب التي تتحدث مع بعضها بعضا عن طريق النبضات الكهربائية، تلك النبضات تُترجَم إلى أفعال وسلوكيات الشخص، إذن فإن المخ يحتوي على شيء قابل لقياسه والتحكُّم فيه وليس غموضا لا نعلم ماهيته.

 

لو دخل أحدنا آلة زمن وحدّد موعدا للظهور بعد خمسين عاما، فسيرى أولئك الأشخاص جالسين على مقهى ينظرون لبعضهم بعضا فقط، فيما يبدو أنهم يتحدثون في موضوع ما ويفهمون بعضهم دون أدنى مشكلة، إنه حقا شيء يعجز اللسان عن وصفه، فقد تكون شريحة نيورالينك الجيل العاشر المزروعة في أدمغة أغلب البشر سببا في ذلك، فالصمت يعمّ المكان، لا تسمع إلا الهدير الخافت لمحركات المواصلات، أو صوت طفل يبكي بكاء يُذكِّرك بعالمك القديم، فيومض في عقلك فكرة أن القدرة على تحمل زرع الشريحة في الدماغ لم تنضج بعد عند هذا الطفل.

 

كيف سيكون شكل هذا العالم؟! تتناقل فيه الأفكار في سرعة مدهشة، ولا يحدث فيه أي سوء تفاهم أو خلط في المفاهيم، هل انخفضت حِدّة العنف بين البشر لأن التواصل أصبح أفضل أم زادت لأن هناك تنافسا شديدا بين كائنات خارقة؟ هل ظهرت فرص عمل جديدة في مجالات التدريب على صياغة الأفكار وتوصيلها للآخرين؟ هل ظهرت كذلك شركات حماية من اختراق الأفكار التي يُنفِّذها بعض الخارجين عن القانون أو بعض الدول التي تريد التأثير على أفكار الشعوب؟ ما يمكن تأكيده أن ملامح ذلك الكوكب ستتغير كثيرا، ونحن كذلك، لكن السؤال الأهم هو: هل سنظل بشرا أصلا؟!