سيطرة على الجسد والنفس.. كيف جعلت النيوليبرالية الثورة مستحيلة؟

تمهيد

تحاول المقالة التالية من مجلة "فيلوسوفي ناو" فهم النيوليبرالية وتطوّرها عبر اثنين من الفلاسفة، الأوّل هو الفرنسي ميشيل فوكو ومفهومه عن السياسات الحيوية، أو محاولة الضبط والسيطرة على الأفراد عبر شؤونهم الجسدية، أما الثاني فهو الفيلسوف الكوري الألماني بيونغ تشول هان، ومفهوم "السياسات السيكولوجية" القائل إنّ النيوليبرالية انتقلت إلى طور أعمق من السيطرة والضبط يجعل الثورة أمرا مستحيلا لأنّ الأفراد داخل هذا الطور يصارعون أنفسهم بدلا من مصارعة النظام الذي يُولِّد الإحباط والاكتئاب.

نص الترجمة

النيوليبرالية هي مصطلح جامع يُشير إلى تعزيز رأسمالية السوق الحرّة وهيمنة قيمة السوق والخصخصة. يقول خصومها إنّها نتيجة استغلال اليد العاملة واتساع فجوة الدخل من بين أشياء أخرى. ليس هناك تعريف مُبسًّط وواضح للنيوليبرالية بسبب الخلاف الواسع حول معناها، لكن في كتابه بعنوان "موجز في تاريخ النيوليبرالية" الصادر عام 2005، يُعرِّف المفكر الماركسي ديفيد هارفي النيوليبرالية بأنها "نظرية للممارسات السياسية الاقتصادية التي تفترض أنَّ أفضل وسيلة لتحقيق حُسن الحال الإنساني إنّما تكون بتحرير القدرات والمهارات الرياديّة الفرديّة ضمن إطار مؤسساتيّ يمتاز بقبضة محكمة لحقوق الملكيّة الخاصّة وأسواق حرة وتجارة حرّة".

موجز في تاريخ النيوليبرالية
كتاب "موجز في تاريخ النيوليبرالية" للمفكر الماركسي "ديفيد هارفي"

بحسب هارفي، تتعطّش النيوليبرالية لتعزيز مراكمة الثروة والنخب الاقتصادية من خلال خطاب التحرر. في التفكير النيوليبرالي، تضمحلّ الفوارق التي اشتهر هيجل بوصفها في جدليّة "السيّد والعبد"، بما أنَّ الأفراد ليسوا عمّالا مُستَغلّين مضطّهدين لكنّهم روّاد مشاريع يُسيطرون على وسائل الإنتاج الخاصّة بهم. إنَّ العامل هنا متروك لشأنه.

السياسات الحيوية

أحدُ الفلاسفة الذين حاولوا فهم النيوليبرالية ليس فقط ضمن محددات اقتصادية بل بوصفها فلسفة للذوات الإنسانية والمجتمع هو الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984). في سلسلة من المحاضرات التي ألقاها في "كوليج دو فرانس" في نهاية سبعينيات القرن الماضي، قدَّم فوكو تحليلا سياسيا اقتصاديا جديدا لما كانَ آنذاك بواكير الاتجاه نحو السوق الحرة، وقدّم اثنين من المفاهيم، ألا وهُما فكرة الذات الإنسانية بوصفها ذاتا ريادية، وفكرة أنَّ السوق يمكن أن يكون معيارا للحقيقة. بحسب فوكو، فإنَّ الطريقة النيوليبرالية في النظر إلى العلاقات الاقتصادية تتكامل مع وضع جديد من استغلال نشاطات الناس يسمّيه"الحكوماتية".

الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو
الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو"

حكوماتيّة فوكو هي شكل من أشكال الضبط الاجتماعي التي تعتمد على مؤسسات تأديبية مثل الشرطة والمحاكم والمدارس وغيرها، وإنشاء نوع من المعرفة يُروِّج لاستدخال خطابات معيّنة أو طرق معيّنة في التفكير يستطيع الأفراد من خلالها أن يحكموا أنفسهم وفق أسلوب تفكير تلك المؤسسات.

هناك مفهوم واسع الانتشار في كتابات فوكو -وبات يُستخدم على نطاق واسع أيضا في حقل العلوم السياسية- هو مفهوم "السياسات الحيويّة". يُشير ذلك المفهوم بذكاء إلى التعالقات بين الحياة والسياسة والتاريخ. ببساطة، تُشير السياسة الحيوية إلى نوع من السياسة يهدف إلى الضبط عبر الأدوية (انظر كتاب فوكو بعنوان "تاريخ الجنون" الصادر عام 1961) وتنظيم الشؤون الجنسيّة. السياسة الحيوية هي صنف من القوة يهدف إلى الحفاظ على الحياة في حالة صحيّة مثالية، وإنشاء عادات تضمن استقرار نظام الإنتاج أو الهرمية الاجتماعية القائمة وتفكيرها. أمّا الحكوماتية فهي فنٌّ من فنون الحكم يستغلّ تقنيات تترواح من الضبط الذاتي للأفراد إلى ضبط حيوي سياسي للسُّكان كلهم.

تاريخ الجنون

بهذه الطريقة، وسَّع مفهوم الحكوماتية فهمنا للسلطة بحيث تضمن شكلا من الضبط المُمارَس الذي يتعدّى الوسائل السياسية التقليدية (مثل القوّة أو السيطرة على الموارد المادّية) الذي يُمكن أن يفصح عن نفسه بطُرق أكثر خبثا.

جادل فوكو بأنَّ استدخال خطابات الضبط (لنقل، مثلما يحصل عندما يوافق شخص يتعرّض للاستغلال ضمنا على أنَّ السياسات النيوليبرالية عادلة وصائبة) جانب مهم من جوانب الهيمنة النيوليبرالية. لكنّ اللافت أنَّه حافظ على موقف متفائل من تحسين الذات داخل هذا النظام بالقول إنّه يُحقِّق أقصى إمكانيّات المرء والذات. خلال تقديم مصطلح "تكنولوجيا الذات" عبر محاضرة حملت الاسم نفسه في عام 1982، بدأ فوكو يتحدث عن الممارسات الطوعية والسلوكيات التي ينتهجها الناس لتغيير أنفسهم، وجادل بأنَّ ما يبذله الناس في سبيل تحصيل السعادة والحكمة والكمال وخلافهم إنّما هي تعبيرات عن تحقيق الذات (أو التحرر) والاستقلالية حتّى ضمن الثقافات النيوليبرالية. وبحسب فوكو فإنَّ هذه السلوكيات توفّر للفرد الاستقلال الذاتي طالما أنها تتضمن مشروعا لتحقيق الذات يجعل الأفراد أقل اتّكالا على الظروف الخارجية، كما أنّها تعمل بمنزلة أساليب تبعث على السعادة للتفكير في الذات.

لكن هل يُمكن لتحسين الذات أن يكون تعبيرا عن تحقيق الذات في المجتمعات النيوليبراليّة؟ في النتيجة، يستندُ تحسين الذات إلى الحاجة إلى تحقيق الشرعية في المجتمع، إنه يصبح حقيقيا فقط عندما يتعرّف إليه الآخرون. بهذه الطريقة فإنَّ ما يعتبره المرء تحسينا للحياة سيتأثّر جدا بالأعراف التي أسّسها الأقوياء. إننا ننظر إليهم ونشعر بأنّ علينا أن نتعطّش للثراء والشهرة أو الشعبية. بهذا المعنى، فبدلا من أن يكون تحسين الذات فرصة لتوكيد الذات وتحقيق الذات، نراه مثالا آخر على تطبيع (أو مهادنة) نفرضه على أنفسنا: إنه شكل خبيث وفعّال من أشكال الضبط والسيطرة.

السياسات السيكولوجية

في كتابه بعنوان "السياسات السيكولوجيّة: النيوليبرالية وتكنولوجيات السلطة الجديدة" الصادر عام 2017، يُقدِّم الفيلسوف الكوري الألماني بيونغ تشول هان مفهوما آخر لتحليل أشكال الهيمنة في المجتمعات النيوليبرالية وهو "السياسات السيكولوجية". ويُشير المصطلح إلى صنف من السيطرة تمارسه المجتمعات عبر استخدام البيانات الشخصية. بحسب هان، فإنَّ الشبكة ووسائل التواصل الاجتماعي والبيانات الضخمة هي أدوات أساسية للنيوليبرالية الحديثة، بما أنها تُتيح شكلا أكثر فعالية واستقرارا من أشكال الضبط. يُمارس هذا الضبط بأسلوب جِدّ مختلف عن الأساليب السلطوية أو الشمولية التقليدية في السيطرة، فهوَ بدلا من تقييد الاتصال [كما تفعل السلطات الشمولية عادة] يُحفّزه.

"السياسات السيكولوجيّة: النيوليبرالية وتكنولوجيات السلطة الجديدة" الصادر عام 2017، يُقدِّم الفيلسوف الكوري الألماني بيونغ تشول هان
"السياسات السيكولوجيّة: النيوليبرالية وتكنولوجيات السلطة الجديدة" للفيلسوف الكوري الألماني "بيونغ تشول هان"

"إنَّ مجتمع السيطرة الرقمية يستغلّ الحرّية أكبر استغلال، فبفضلِ كشف الذات وتعريتها الطوعييْن لا يحدث إفشاء البيانات بالإكراه وإنما استجابة لحاجة داخليّة" (ص 18). في هذا الشكل من النيوليبرالية "ليس الهاتف الذكي وسيلة من وسائل المراقبة الفعّالة، لكنّه أيضا حجرة اعتراف متنقّلة. فيسبوك هو الكنيسة" (ص22).

إننا نُسهِّل عملية المراقبة بعزمنا على مشاركة معلوماتنا. وعلى سبيل المثال، فالبيانات الضخمة أداة سيكوسياسيّة فائقة القوة توفّر تبّصرات إلى ديناميكيات التواصل الاجتماعي وأنماط السلوك الإنساني، وبالتبعية إلى تطوير تقنيات الضبط أو التأثير. على سبيل المثال، بالعبور إلى أفكارنا أو رغباتنا المنثورة عبر الإنترنت، تحوز تقنيات الضبط القدرة على دراسة استجاباتنا العاطفية واستغلالها. وبدلا من التعرُّض للهيمنة بالتأديب والتعنيف، يُهيمَنُ على الأفراد بالجذب الحسي أو العاطفي والإدمان.

ينتفع النظام النيوليبرالي من تعبئة الانفعالات لأنّها بوابة إلى ردود الفعل السريعة، إنّها تُسهِّل التغيير السريع، كما أنها تفتح الباب على حاجات جديدة ومجالات للاستهلاك. فالانفعالات سهلة التحفيز ويمكن أن تخلق استجابات سريعة [لدى المستهلك]، فعبر تحفيز الانفعالات، تجد الأفكار طريقها إلى ذاكرتنا بسهولة. ليس ذلك وحسب، لكنَّ الانفعالات أيضا تحفّز ردود أفعال غريزيّة لا يمكننا ضبطها أو فهمها على نحو واعٍ. إننا لا نعي الأسباب وراءَ الكثير مما نفعله أو نختاره، لكننا نقبل بانفعالاتنا ونثق بها أشدَّ الثقة لكي تُوجِّه ردود أفعالنا.

الفيلسوف الكوري الألماني "بيونغ تشول هان"
الفيلسوف الكوري الألماني "بيونغ تشول هان"

ويكتب هان:

"المشاعر أدائية بطريقة تستدعي سلوكيّات معيّنة، سنضرب مثلا بالميول وهي تمثّل بنية حسّية مفعمة بالطاقة تحفّز السلوك، إنها تؤلّف السلوك المرتجل شبه الواعي والغريزيّ الذي يجهل كثيرا مما يفعل. إنّ السياسات السيكولوجية النيوليبرالية تستحوذ على الانفعالات وتؤثر على سلوكياتنا على المستوى الارتجالي. وباستخدام العاطفة، تدس نفسها عميقا داخل الشخص، وبالتبعية تُمثِّل وسيطا فعّالا جدّا للضبط السيكولوجي السياسي للأفراد"

(السياسات السيكولوجية، ص 59).

كما أن السياسات السيكولوجية تبتكر أدوات جديدة، مثل الورشات التدريبية العديدة لتدريبنا على إدارة أنفسنا، وأنشطة أخرى متنوعة يفترض بها أن تُعزِّز فعاليتنا. حسب هان، فإنَّ الهيمنة النيوليبرالية لا تتوقّف عند استغلال الفرد خلال ساعات العمل، لكنها تحاول أن تُهيمن على جوانب حياته كافة، وتُضحّي بها في سبيل تحصيل قوّة عمل أكثر إنتاجية من أي وقت مضى.

ويعمل المواطنون على تحسين أنفسهم طوعا محاولينَ باستمرار رفع مستوى الأداء داخل المجتمع. كل نقطة ضعف ينبغي القضاء عليها، أي الشفاء منها، الشفاء في المجتمع النيوليبرالي إنمّا يعني التعامل الناجع مع الإرهاق بهدف تجنُّب الاحتراق النفسي المصاحب لاستغلال المرء جسده وروحه باستمرار لكي يكون مُنتِجا. تُرى عملية التشافي هذه في ذاتها بوصفها شيئا يرفع مستوى الإنتاجية ولا تُرى عموما ضمن محددات الحياة الجيدة. إنَّ تحسين الأداء هو الغاية الأساسية من ورائها.

work hard

داخل أروقة هذا النظام، التفكير الإيجابي يقود عملية تحسين الذات، ويسهّل بطريقة ما الوهم القائل إنّك إن عملت بجدّ كفاية فستضمن تحقيق حياة تُرضيك. التشكيك بهذا الافتراض خطير، بما أنّه قد يقضي على لازمة تحسين الذات، أو بكلمات أخرى على واجب تحقيق أداء أكبر في كل مرة. وتوشك أيديولوجية تحسين الذات النيوليبرالية أن تُمثِّل نوعا جديدا من الديانة:

"إنَّ العمل اللا متناهي على الأنا يُمثِّل الرقابة الذاتيّة والتفحص الذاتي في الديانة البروتستانتية، وهي بالمقابل تُمثِّل تقنيّة من تقنيات الإخضاع والهيمنة. بدلا من البحث عن الخطايا نبحث عن الأفكار السلبية، تتصارع الأنا مع نفسها كما لو كانت عدوا"

(السياسات السيكولوجية، ص 41).

الشكل الجديد من السياسات السيكولوجية أكثر فعالية من الأساليب التقليدية للسيطرة، لأنه يجعل الثورة مستحيلة تقريبا. أولئك الذين يفشلون داخل النظام النيوليبرالي يعيشون فشلهم كما لو أنّه مسؤوليتّهم وحدهم، وفي أحسن حال، يُحوِّلون إحباطهم إلى زيادة في الإنتاجية (تصحيح ذاتي). في أسوأ حال، يُصيبهم الإحباط جراء الفشل في تحصيل الثروة أو الشهرة لأنفسهم بالاكتئاب والتدمير الذاتي، لكنه لا يُوجِّه هذا الإحباط نحو النظام الذي كان يرعى الاكتئاب والتدمير الذاتي.

لقد أُسِّست السياسات السيكولوجية على مبدأ الحريّة، وهذا ما يجعلها فعالة جدا. النيوليبراليّة الحديثة تستغل كل شيء يُمكن أن يُستغل في ممارسة الحريّة، مثل المشاعر والتواصل. داخل النظام النيوليبرالي، تولد الحريات، التي ينبغي أن تكون بمقتضى التعريف حرية من الإكراهات، إكراهات جديدة. مأساة السياسات السيكولوجية تكمن في أنها تخدع الذات لاستعباد نفسها بنفسها.


ترجمة: فرح عصام

هذا المقال مترجم عن Philosophy Now ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : مواقع إلكترونية