تنوع مواقيت الصلاة بمراكش.. ذكاء اجتماعي وعلاقات إنسانية تميّز "المدينة الحمراء"

صلاة الجمعة بمسجد الجزولي
مسجد سيدي ابن سليمان الجزولي بمراكش المغربية تؤخر فيه صلاة الجمعة (الجزيرة)

تشير الساعة إلى الثالثة والنصف زوالا من يوم الجمعة، يندهش العم صالح وهو سائح عربي من سماع صوت الأذان، بالرغم من أن الوقت ليس وقت صلاة، لكن مرشده السياحي حميد أومزدو الذي يرافقه طيلة مقامه بمدينة مراكش المغربية، يشرح له أن مسجدا بالمدينة يؤخر الصلاة إلى ما قبيل العصر من أجل تمكين من فاتته الصلاة من الجماعة.

يتوجهان إلى مسجد سيدي ابن سليمان الجزولي بحومة رياض العروس، فيلاحظان توافد المصلين من كل حدب وصوب، بأعمار مختلفة، يستمعان إلى خطبة قصيرة بصوت إمام شجي، يعود بهم إلى تاريخ المدينة التليد.

يقول حميد للجزيرة نت "يكون صوت الأذان واختلاف مواقيته، وتكراره 3 مرات يوم الجمعة، وزيادة بعض العبارات في أذان الصبح، دائما محل تساؤل زائري المدينة الحمراء، سواء كانوا من المسلمين أو غيرهم، لذلك يجب دائما أن يجدوا عندك المعلومة الصحيحة بعيدا عن كل فلكلورية".

ويضيف "كما لا يمكن أن تذكر مواقيت الصلاة، دون ذكر عدد من رجال المدينة الذين نبغوا في تحديد وقت الصلاة بدقة، مثل ابن المؤقت المراكشي، وابن البناء المراكشي".

صومعة مسجد سيدي بن سليمان الجزولي
صومعة مسجد سيدي ابن سليمان الجزولي بمدينة مراكش المغربية (الجزيرة)

تفرد مدينة مراكش

تنفرد مدينة مراكش، وخاصة المدينة القديمة، بتنظيم وقت الصلوات بشكل خاص، فيعرف عن مساجد تأخير وقت صلاة الصبح والظهر وكذلك صلاة الجمعة، لإتاحة الفرصة للجميع لأداء الصلاة جماعة.

ويقول الأستاذ الباحث أحمد متفكر للجزيرة نت إن صلاة الظهر في بدايته يسمى "لعلام" (الإعلام بدخول وقت الصلاة)، وهي تصلى خاصة في المساجد الصغيرة المتواجدة بكثرة في الأحياء الشعبية، فيما تنفرد مساجد أخرى خاصة الكبيرة منها بتأخير هذه الفريضة حوالي ساعة ونصف.

ويبرز أن كل ذلك مرتبط بعادات المراكشيين في تقديم الطعام، وعمل الحرفيين في الأسواق ممن لا يرغبون في إغلاق محالهم وقت الصلاة.

الباحث أحمد متفكر
أحمد متفكر: عادة تأخير وقت صلاة الجمعة موجودة أيضا في مسجد الحارة بحومة باب دكالة أيضا (الجزيرة)

ويشرح أن هناك مساجد صغيرة جدا تقام فيها الصلاة بمجرد نزول المؤذن من الصومعة، وغالبا ما يقصدها أصحاب الحوانيت الصغيرة، والذين لا تستدعي الصلاة تغيير ملابسهم، على خلاف بعض الحرفيين الذين يستغرقون بعض الوقت من أجل الاستعداد للصلاة قبل التوجه إلى المسجد الكبير.

وتستمر عادة قديمة بالرغم من التقدم في العمران، وهي رفع بعض الصوامع لأعلام بيضاء للإعلام بدخول وقت الصلاة، وأخرى زرقاء خاصة بصلاة يوم الجمعة، كما يبرز الأكاديمي متفكر، مضيفا أن هذه الصوامع غالبا ما تحتوي على غرفة بها معدات لمعرفة وقت الصلاة، كما أن عادة تأخير وقت صلاة الجمعة موجودة أيضا في مسجد الحارة بحومة باب دكالة.

أسواق مراكش
من عادات أهل مراكش أن يبيع التاجر لزميله وقت غيابه لأداء الصلاة (الجزيرة)

تضامن اجتماعي

من بين ما يميز مدينة مراكش، تأخير وقت صلاة الصبح بجامع حومة المواسين إلى اقتراب بزوغ الشمس، والذي أقرها العالم المغربي محمد بن سعيد المرغيتي كما يوضح الباحث متفكر، وذلك رفقا بالمرضى والضعفاء والمسنين والمسافرين، مبرزا أن هذه العادة عرفت أيضا في المدينة المنورة.

ومن طريف ما يقع خلال اليوم، كما يقول عبد الصمد أبو الثقة للجزيرة نت، وهو رئيس جمعية التجار بسوق السمارين (القريب من ساحة جامع الفنا المشهورة)، أن يؤثر "المعلم" (صاحب الدكان) الصناع العاملين لديه، بأول وقت الصلاة، فيما هو ينتظر رجوعهم للحاق بالمسجد في الصلاة المتأخرة.

سوق السمارين
سوق السمارين في مراكش حيث من طريف العادات أن يؤثر المعلم صنّاعه في أداء الصلاة أولا (الجزيرة)

كما إنه من جميل ما يحافظ عليه في السوق، بتعبير "أبو الثقة"، التآزر والتعاون بين التجار وقت الصلاة، حيث يستمر البيع والشراء، دون توقف، لوجود فرص لأدائها في أوقات ممتدة في جوامع مختلفة لمدة تصل إلى حوالي نصف ساعة، إذ يمكن لتاجر أن يحل محل زميله في المحل لبيع سلعة في غيابه، ويضع ثمنها في محله إلى حين رجوعه، وهي عادة محمودة يحافظ عليها تجار الأسواق القديمة، وتزرع بينهم الألفة والثقة والتعاون.

ذكاء اجتماعي

من يتجول في أسواق المدينة القديمة بمراكش، يقف على استمرار تدفق الحياة في شرايينها دون توقف، حتى يخيل للمرء أن لا أحد ذهب إلى أداء الصلاة في وقتها، ومن يدخل مسجدا قريبا يجده مليئا بالمصلين حتى يخيل له أيضا ألا أحد بقي في السوق، كما يلاحظ المرشد السياحي أومزدو.

منظر من مسجد سيدي بن سليمان الجزولي
اختلاف مواقيت الصلاة بمساجد مراكش يعكس شكلا من الذكاء الاجتماعي عند المغاربة (الجزيرة)

ويذهب الأكاديمي المغربي الباحث في التراث والتاريخ عبد البر حدادي إلى أن اختلاف مواقيت الصلاة بمساجد مراكش، وغيرها في بعض مدن المغرب مثل فاس، وتازة وغيرهما، يعكس شكلا من الذكاء الاجتماعي عند المغاربة، ونوعا من التيسير في التعاطي مع بعض الشعائر والعبادات الدينية، وخاصة من قبل بعض الفئات الاجتماعية التي لا تسعفها ظروفها المهنية أو الصحية أو الاجتماعية في تأدية بعض الكلف الشرعية كالصلوات الـ5 أو صلاة الجمعة.

وينوه حدادي في حديثه للجزيرة نت إلى أن "هذا الذكاء لا يترجم من خلال تقديم أوقات الصلوات أو تأخيرها فحسب، بل نجده حتى في العمارة الدينية على سبيل المثال كذلك، إذ نجد أن عرض المسجد أكثر من طوله، والقصد من ذلك هو تمكين أكبر عدد ممكن من المصلين من تحصيل فضل صلاة الجماعة في الصفوف الأولى الأمامية".

حميد
زوار المدينة، يلاحظون ورود عبارات أو تكرار آذان الجمعة (الجزيرة)

أصبح ولله الحمد

ما يلاحظه زوار المدينة، مع ورود عبارات أو تكرار آذان الجمعة، يشرحه الباحث حدادي، إذ يشير إلى أن بعض عبارات الأذان تعود إلى الفترة الموحدية، من قبيل عبارة "أصبح ولله الحمد" في أذان الفجر، وكذا عبارة التوسيع "اللهم يا واسع المغفرة"، أضف إلى ذلك تكرار الأذان 3 مرات يوم الجمعة، والتي ذاعت في المغرب منذ ذلك الحين، اللهم إذا استثنينا بعض الجهات التي كانت تقتصر على أذان واحد، مثلما هو الأمر في الزاوية الناصرية بتمكروت، وبعض فروعها، قبل أن يتغير الأمر فيما بعد.

مسجد سيدي بن سليمان الجزولي
مسجد سيدي ابن سليمان الجزولي في مدينة مراكش المغربية (الجزيرة)

ويبرز الأكاديمي نفسه أن مواقيت الصلاة تختلف باختلاف العلامات التي نصبها الشارع لهذا الغرض، فمن كان قادرا على تحديد مواعيد الصلاة بناء على العلامات الشرعية فذاك، وإلا فلا صلاة حتى يتيقن المرء، أو يغلب على الظن أن وقت الصلاة قد دخل، فهناك من يصلي الصلاة في أول وقتها منفردا، أو يؤخرها عن أول وقتها ليصليها مع الجماعة.

ويضيف أن الأعمال التي يتوصلون بها إلى معرفة أوقات الصلاة والصوم عددت عند المؤلفين الميقاتيين (الفترة المرينية نموذجا)، وساروا في ذلك على 3 طرائق، يعتمد في اثنتين منها على الظلال من غير آلة، والثالثة الأخذ بالآلات مثل الربع المُجَيّب والربع المقنطر والكرة والإسطرلاب.

رفع الأعلام

ومن بين ما تعرف به مساجد مراكش رفع الأعلام البيضاء في الصوامع تبعا لمسجد ابن يوسف بالمدينة القديمة، مع دخول وقت الأذان في "العلام" وإنزالها مع نهاية الأذان، في حين تبقى مرفوعة حتى أذان الظهر في المساجد التي تؤخر صلاة الظهر، حسبما يؤكد الأكاديمي المغربي محمد البندوري.

ويضيف -في حديث للجزيرة نت- أنه في العصر ترفع الأعلام مع الأذان ولا تنزل إلا بعد أن يُنزل مسجد ابن يوسف العلم الأبيض وترديد: "احضروا للصلاة، يا عباد الله، احضروا للصلاة، يرحمكم الله! احضروا للصلاة، يغفر لي ولكم الله".

ويبرز الباحث في التاريخ أنه في يوم الخميس بعد أذان صلاة العشاء، يُرفع العلم الأزرق في كل صوامع مراكش، ولا يتم إنزاله إلا في الساعة الحادية عشرة صباحا، ويوجه النداء من الصوامع: "احضروا للصلاة، يا عباد الله! احضروا للصلاة، يرحمكم الله! احضروا للصلاة، يغفر لي ولكم الله"، وهو لتذكير المصلين بيوم الجمعة وحثهم على أن يذروا البيع ويذهبوا إلى المساجد لقراءة القرآن جماعة حتى دخول وقت الصلاة.

الباحث عبد البر حدادي
الباحث عبد البر حدادي (الجزيرة)

أضواء الفجر

وتعوض الأعلام البيضاء في المغرب والعشاء والصبح بالإنارة، وتتخذ الأضواء في الفجر طقوسا خاصة، إذ تتبع جميع مساجد مراكش مسجد ابن يوسف حيث يوقد المؤذن 3 مصابيح، معلنا بدء التهليل والأذكار: "لا إله إلا الله" يكررها مرات عديدة بألحان شجية، ويتبعها بقوله "محمد رسول الله"، ويشرع في الصلاة على الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ثم ينتقل إلى الأذكار، وأحيانا إلى بعض القصائد التوسلية والابتهالات، مثل: "يا من يرى ما في الضمير ويسمع، أنت المعد لكل ما يتوقع"، إلى آخر القصيدة.

ويشير المتحدث ذاته إلى أنه عندما يطفئ مسجد ابن يوسف المصباح الثاني يشرع المؤذنون في التوسيع: "اللهم يا واسع الرحمة والمغفرة ويا جبار القلوب المنكسرة ويا رحمن الدنيا والآخرة، اغفر لنا وارحمنا وتب علينا برحمتك يا أرحم الراحمين"، يكررها مرات عديدة حتى اقتراب دخول وقت الفجر، فيطفئ مسجد ابن يوسف المصباح الأخير، وتطفئ كل الصوامع المصابيح ويشرعون في الأذان الذي يبتدئ أولا بـ: "ذهب الليل بظلامه، وأقبل الصبح بنوره وضيائه، ذهب الليل وأقبل النهار بقدرة العزيز الجبار، وهذا سر من الأسرار"، ويشرع في الأذان: "الله أكبر، الله أكبر" إلى آخره مع ذكر الصلاة خير من النوم.

ويختم بأن "هذه الشعائر كانت تجعل من الثلث الأخير من الليل ملجأ لكل التائبين وكل المتوسلين، وكنت تشاهد الناس في المساجد يبكون ويبتهلون إلى الله في خشوع، لأن السماء في مراكش كانت تتلاءم فيها أصوات المؤذنين وتتلاقى إلى درجة تقشعر منها الجلود".

المصدر : الجزيرة