متطوّعون مغاربة يبلسمون "جروح" الفقراء في رمضان

- صورة من داخل مخزن تبرعات فريق "المتطوعون الرحل" بمدينة سلا
بعض أعضاء فريق "مهندسو الغد" في أثناء إعداد وجبات الإفطار (الجزيرة)

الرباط – مواطن يتجول في السوق وكأنه يتفرّج داخل متحف، ودموع تغالب وجوها بائسة تتقلب نظراتها بحثا عن مواد غذائية رخيصة الثمن لإعداد مائدةِ إفطار رمضان الذي يرتفع فيه استهلاك المغاربة، والذي يتزامن هذه السنة مع موجة غلاء أرهقت المواطنين بسبب ارتفاع الأسعار في الأسواق المحلية.

وسط هذه الأزمة غير المسبوقة في المغرب، تنتشر مبادرات العمل التطوعي التي تنتعش خلال رمضان، وتُجسد صورًا متنوعة من التضامن والتكافل الاجتماعي وهي تَطرق قلوب مواطنين كُثر في أرجاء المملكة لمشاركتهم فرحة الصيام.

"لقد ضاقت بنا الحال في هذا الشهر"، يقول حمزة، المستفيد من إحدى المبادرات الخيرية، مستدركا خلال حديثه للجزيرة نت "لكن الحمد لله، بفضل قدوم المتطوعين، نستطيع الفرح وسد جانب من حاجاتنا الأساسية. الناس أحوج إلى التضامن في هذا الوقت".

تسعى جمعيات ومتطوعون ذوو إمكانات محدودة إلى إدخال الفرحة على قلوب عائلات فقيرة في رمضان، عبر مبادرات إنسانية تتنوع بين تنظيم موائد إفطار لعابري السبيل، وتوزيع الوجبات وسلات المؤونة قبل الشهر وخلاله، بالإضافة إلى جمع وتقديم المساعدات الغذائية.

- صورة من داخل مخزن تبرعات فريق "المتطوعون الرحل" بمدينة سلا
فريق "مهندسو الغد" في أثناء إعداد وتوزيع الوجبات وسلات المؤونة خلال شهر رمضان (الجزيرة)

للمشرّدين نصيب

في مدينة تطوان (شمالي المغرب)، كان محتاجون على موعد مع الناشطة أميمة أكدي وزملائها في مجموعة "مهندسي الغد" لنيل حصصهم من وجبات الإفطار التي يوزعها الفريق المكوّن من طلاب في المدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية في تطوان، منذ بداية الشهر الكريم على المشرّدين في المدينة.

تقول أكدي للجزيرة نت إن "ردود فعلهم كانت صادمة ومؤثرة"، وتوضح أن العلب التي يجري توزيعها "تبدو مجرد وجبات بسيطة مقارنة بالموائد التي تُعد في منازلنا، لكن الفرحة التي نلمحها في أعينهم كبيرة جدا، كأننا حققنا لهم هدفًا في حياتهم"، لافتة إلى أن هذا الانطباع يحفّز الفريق كي يجتهد أكثر، ويشجع الناس على المساهمة في المبادرات.

اختار الفريق "نفطرو جميع" (لنُفطر جميعًا) شعارا لمبادرته الإنسانية التي دأب على تنظيمها منذ سنتين، بهدف تخفيف المعاناة عن المشرّدين في شهر الصوم. وتوضح أكدي أن الشعار من شأنه "تحسيس المواطنين بأن هؤلاء الأشخاص جزء لا يتجزأ من المجتمع، وفئة مهمّشة تحتاج إلى التفاتة طيبة" هم أحوج إليها في رمضان "بسبب مكابدتهم جوع الصيام وحر الشمس وبرد الليل"، وفق تعبيرها.

ولم تسلم مبادرات التضامن من تأثير غلاء الأسواق، إذ ارتفع ثمن السلة الغذائية كثيرا، في وقت تراجع فيه عدد المتبرّعين، حسب أكدي التي أشارت إلى أن "لوائح المواطنين الذين ينتظرون المساعدات في مبادرتهم بدت طويلة جدا هذا العام"، بعدما أضيف إليها أشخاص جدد كانوا حتى الأمس يعيشون حياة عادية.

وتلفت الناشطة الاجتماعية إلى أنه في هذا الشهر الذي يتميز بالجود والكرم والعطاء ويعرف إقبالا على الصدقة "لم يستطع كثير من الناس، للأسف، تحقيق رغبتهم في مساعدة الآخرين بسبب موجة ارتفاع الأسعار"، وهو ما جعلهم يجدون صعوبة في جمع التبرعات، "الأمر الذي عرقل -نوعا ما- عمل المبادرات الخيرية"، التي حاولت الاستمرار ولم تتوقف على الرغم من الظروف الاقتصادية المستجدة.

- صورة من داخل مخزن تبرعات فريق "المتطوعون الرحل" بمدينة سلا
إعداد الوجبات داخل مخزن تبرعات فريق "مهندسو الغد"  (الجزيرة)

إلى الرُّحل وسكان الجبال

بعيدا عن أزقة الأحياء، اختار فريق "المتطوعون الرُّحّل" شق طريقهم بين الجبال والكثبان الرملية، من مدينة سلا صوب قبائل المغرب النائية في الأطلس والصحراء، في رحلة إنسانية بدأت حكايتها من عطلة سياحية.

يقول رئيس الفريق محمد العبودي للجزيرة نت "بينما كنا نمضي عطلتنا في صحراء مرزوكة (جنوب شرقي البلاد)، مررنا بقبائل الرُّحل وتعرفنا على أناس يعيشون حياة مختلفة في الخيام. شَعرنا بتأنيب الضمير، لأنه لم نحضِر معنا هدايا تفرحهم، فكانت فكرة المساعدات الغذائية، وبدأنا حملات لجمع تبرعات كانت آخرها لمناسبة شهر رمضان الحالي".

ودفعت موجة الغلاء التي يعيشها المغرب، حاليًا، فريق "المتطوعون الرحل" إلى تكثيف نشاطهم بغية تخفيف المعاناة اليومية لأسر المحتاجين في الأماكن النائية، خصوصا في دواوير، بمنطقة ايت تامليل، في جبال الأطلس وخيام منطقة المرداني في مرزوكة، بمبادرات يرى العبودي أنها "على الرغم من أنها لا تحد من معاناة الأسر والمرضى، فإنها تخفف من حدتها، لا سيما في رمضان الذي ترتفع فيه نسبة الاستهلاك لدى المواطنين".

ويضيف أنه "في النهاية، تظل سلة الغذاء مساعدة رمزية لن تحل مشكلاتهم المادية، إلا أنها قد تكفي المواطن ليمضي شهر رمضان من دون الاضطرار إلى التسول أو الاقتراض"، ويستطرد قائلا "إنهم يشعرون بالسعادة".

وإلى جانب حمل المساعدات الإنسانية إلى المناطق النائية، يشرف العبودي وزملاؤه على تنظيم حملات توزع "قفة (سلة) رمضان" داخل المدن أيضا، مثل الدار البيضاء وسلا، بالإضافة إلى مشاريع إفطار عابري السبيل.

: توزيع المساعدات في دواوير منطقة ايت تامليل بجبال الأطلس
توزيع المساعدات في دواوير منطقة ايت تامليل بجبال الأطلس (الجزيرة)

موائد الرحمن

وخلال الشهر الكريم، تنتشر في مدينة الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمغرب، كثير من المبادرات لإفطار عابري السبيل تُسمى "موائد الرحمن" داخل أحياء شعبية، بينها حي سيدي مومن.

وفي زيارة لخيمة إحدى موائد هذا الحي، يروي حميد نعناع للجزيرة نت قصة المشروع الذي بدأه مع أصدقائه عام 2012 بهدف إفطار الصائمين لمدة أسبوع واحد فقط، قبل أن تتحول الفكرة إلى مبادرة سنوية يستفيد منها عشرات الصائمين؛ معظمهم من عمال الشركات والمواطنين الفقراء.

ويعزو نعناع نجاح المبادرة إلى "تضامن سكان الحي والأحياء المجاورة الذين يسهم كل واحد منهم بجزء من المال أو الطعام، بينهم مواطنون مرضى يفضلون إرسال فدية فطرهم إلى هنا".

لكنه يشكو ارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى إعراض السلطة المنتخبة في حيه "ورفضها دعم المبادرة ولو بالخيام والوسائل اللوجستية"، التي يسهم في توفيرها حاليا منظمو الحفلات وبعض شركات الغذاء. ويضيف "سنستمر في مبادرتنا لمساعدة الناس في الأزمة".

من داخل مخزن تبرعات فريق "المتطوعون الرحل" بمدينة سلا (الجزيرة)

مجتمع متماسك أمام الأزمة

يرى الباحث في الفلسفة السياسية وعلم الأخلاق فؤاد هراجة أن تزامن "شهر رمضان هذه السنة مع موجة غلاء غير مسبوقة على الإطلاق يضع الأسر المعوزة والواقعة تحت خط الفقر في أزمة مضاعفة".

ويستطرد قائلا "لكن تعودنا في كل رمضان أن تبعث نفحاته قيم ومظاهر الكرم والإحسان في المجتمعات الإسلامية، فتجد الناس فرادى وجماعات يتنافسون على فعل الخير وسد حاجات المعوزين، مما يبعث في نفوس هؤلاء الأمن على قُوتِهم والاستبشار بقدوم الشهر الفضيل".

ويعتبر هراجة، في حديثه للجزيرة نت، أن "ما تبذله المنظمات والمؤسسات غير الحكومية والأفراد المتطوعون يكون له وقع على المحتاجين وإن في دائرة ضيقة"، مشيرا إلى أن هذه الدائرة قد تتسع مع توظيف وسائل التواصل الاجتماعي التي تكتسي أهمية بالغة في تنظيم حملات لجمع التبرعات العينية والمالية لهؤلاء المعوزين.

ويشدد الباحث في علم الأخلاق على أن هذا الشهر "سيبقى متنفسا لكل الأسر المعوزة التي أصبحت تنتظره بفارغ الصبر، لأنها تتلقى خلاله حاجاتها المعيشية، وتشعر بأن ثمة جهودا كثيفة تُبذل من أجلها، وتنقلها من الهامش إلى محور الاهتمام، مما يُشعرها بالاحتضان الاجتماعي المفقود طوال السنة، وما يجعلها تتمنى لو كان العام كله رمضان".

ويلفت هراجة إلى أنه قد تعاني الأسر المتوسطة والميسورة أيضا غلاء الأسعار في شهر رمضان، "لكن الطبقة الفقيرة تفتقر إلى القدرة الشرائية، وهو ما يجعل العمل التطوعي ذا أهمية قصوى في التخفيف من وطأة الفقر".

ويؤكد أن المغاربة دأبوا على تطويق ظاهرة الفقر إبان رمضان، من خلال تضافر جهود السكان داخل الحي الواحد على تغطية إفطار إمام ومؤذن المسجد والفقراء، وإفطار الطلاب والعمال الذين يسكنون بعيدا من أسرهم.

ويعتبر هراجة أن هذا التلاحم الاجتماعي "يوطّد العلاقات ويرفع منسوب التعاضد بين المواطنين، مزيلا كل مظاهر الكراهية والحقد والحسد، كما يزيد المجتمع تماسكا، ويؤَمِّنه من الآفات التي سببها الفقر"، وفق تعبيره.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية