هل طغى العلاج الروحاني على الطب النفسي في العراق؟

الاستشارية النفسية والسلوكية الدكتورة إبتهار الطائي (الجزيرة 1)
المستشارة النفسية والسلوكية ابتهار الطائي: تراجع ثقافة الصحة النفسية زاد من ظاهرة الانتحار (الجزيرة)

بغداد- سجّل "المعالج الروحاني" في العراق بعد عام 2003 حضورا قويا على حساب تراجع الصحة النفسية، من دون أن تغيب عنه حالة "الاستغلال" في تقديم الخدمات مقابل أموال طائلة، فضلا عن تسجيل "اعتداءات جنسية" على المرضى من النساء، وفقا لمتخصصين.

عوامل عدة ساهمت في تراجع الصحة النفسية في العراق، منها الحروب والأزمات المتعدّدة، لكنّ النظرة المجتمعية تأتي في مقدمتها، ويُضاف إليها تجاهل الحكومات المتعاقبة منذ 2003 تطوير هذا القطاع في برامجها الصحية، حتى أصبح حجم الإنفاق على قطاع الصحة النفسية في البلاد نحو 2% فقط، وفق بيانات منظمات دولية.

ووفق منظمة الصحة العالمية، فإن واحدا من كل 4 عراقيين يُعاني من هشاشة نفسية، مع وجود 3 أطباء نفسيين لكل مليون شخص، في حين تشير تقارير أخرى إلى أن نحو 18% من العراقيين يعانون من اضطرابات نفسية، إلا أن خبراء يؤكدون أن النسبة تفوق ذلك بكثير.

ويربط خبراء نفسيون بين تراجع الصحة النفسية وازدياد حالات الانتحار، فكلما تراجع مستوى الأولى تفاقم عدد حالات الثانية التي بلغت 772 حالة في عام 2021، وفق إحصاءات وزارة الداخلية، بزيادة نحو 100 حالة عن العام 2020 الذي سجل 663 حالة انتحار.

علاج أم استغلال؟

بعد 2003، انتشرت ظاهرة مكاتب "المعالجين الروحانيين" في العراق، وجاءت العاصمة بغداد في طليعة المحافظات العراقية، بالإضافة إلى الترويج لهم عبر وسائل إعلام وقنوات عراقية بظهورهم في برامج خاصة يومية وأسبوعية، فضلا عن وجود الكثير من الصفحات التي تروّج للظاهرة على مواقع التواصل الاجتماعي.

الإستشارية النفسية والسلوكية الدكتورة إبتهار الطائي (الجزيرة 2)
الطائي: غياب "الاحتواء العائلي" وسلبيات مواقع التواصل الاجتماعي زادا نسبة الأمراض النفسية (الجزيرة)

وترى المستشارة النفسية والسلوكية الدكتورة ابتهار الطائي أن تراجع ثقافة الصحة النفسية في العراق يعود إلى طغيان ظاهرة المعالج الروحاني الذي بدأ يسجل حضورا سلبيا بعد عام 2003، بسبب الأموال الطائلة التي يأخذها هؤلاء من "الزبائن".

ولا تنفي الطائي، في حديثها للجزيرة نت، تسجيل حالات "اعتداءات جنسية" كثيرة بحق النساء على يد "المعالجين الروحانيين" واستغلالهن ماديا ومعنويا.

وتؤكد أن تراجع ثقافة الصحة النفسية زاد من ظاهرة الانتحار كثيرا خلال السنوات الماضية، وأرجعت الأمر إلى غياب ما تُسميه "الاحتواء العائلي"، لا سيما من الوالدين، وسلبيات مواقع التواصل الاجتماعي على الأفراد.

وقدّرت إحصاءات سابقة غير رسمية نسبة الأمراض النفسية في العراق بأنها تصل إلى نحو 18%. لكن الطائي تعتقد أن النسبة أعلى من ذلك بكثير، وربما تصل إلى أكثر من 25% من السكان.

وواقعيا، يعني ذلك أن نحو 10 ملايين عراقي -حيث تجاوز عدد سكان البلاد 40 مليونا وفق إحصاء حكومي- يعانون من اضطرابات نفسية.

الأكاديمي والباحث الاجتماعي الدكتور وعد ابراهيم (الجزيرة 3)
لا ينكر الدكتور وعد إبراهيم خليل أن "غالبية" المعالجين الروحانيين ينحصر هدفهم بالكسب المالي (الجزيرة)

غياب الوعي

وتبدو ظاهرة تراجع الصحة النفسية في العراق طبيعية لدى الأكاديمي والباحث الاجتماعي الدكتور وعد إبراهيم خليل، معتبرا أنها نتيجة طبيعية للظروف غير المستقرّة والصعبة التي مرّ بها البلد من أزمات وحروب ونكبات مختلفة ومُتعدّدة.

ويرى أن توجه الناس إلى "المعالج الروحاني" أكثر من الطبيب أو المعالج النفسي يعود إلى غياب الوعي بأهمية الطب والعلاج النفسي، ما "جعل ثقافة المجتمع بسيطة جدا"، وفق تعبيره، مضيفا إلى ذلك اعتقاد الناس بأن مراجعة الطبيب النفسي أمر مُعيب سيجلب لهم الوصم بأنهم "مجانين أو مختلون عقليا"، مُعتبرا ذلك بأنه اعتقاد "خاطئ" كبير.

ولا ينكر أن "غالبية" المعالجين الروحانيين ينحصر هدفهم بالكسب المالي، واصفا إياهم بـ"الدجالين" لتستر بعضهم تحت غطاء الدين. وهو يتفق، أيضا، مع ما جاءت به منظمة الصحة العالمية في عام 2021 بأن حجم الإنفاق على الصحة النفسية في العراق لا يتعدى 2%، عازيا الأمر إلى ضعف الوعي لدى المجتمع والجهات الحكومية على حد سواء.

وفي حديثه للجزيرة نت، يتأسف الباحث الاجتماعي لعدم الاهتمام بالتخصصات الإنسانية، مثل علمَي الاجتماع والنفس، وهما من أهم الاختصاصات التي يحتاجها المجتمع، كونهما يساهمان في إعادة التوازن النفسي لدى الأفراد.

ويتوقع الأكاديمي العراقي وجود أكثر من شخص واحد من بين كل 4 عراقيين يعانون من هشاشة نفسية، مقترحا من أجل معالجة ذلك إعداد مرشدين أو متخصصين نفسيين وتفعيل وجودهم في المدارس والجامعات لتقديم النصائح والمساعدات للطلبة، لضمان اهتمام الأجيال المقبلة بهذا الاختصاص، وابتعادها عن "الدجل والشعوذة والمعالجين الروحانيين"، وفق تعبيره.

ويُشدد إبراهيم على ضرورة أن تقوم المؤسسات الحكومية وعلى رأسها وزارات الصحة والتعليم العالي والثقافة، ووسائل الإعلام أيضا، بتوعية المجتمع عن أهمية الصحة النفسية وأنها علم ضروري، وأن العلاج النفسي ليس عيبا، كما يظن بعضهم.

المعالج النفسي يونس المرشد (الجزيرة 2)
المرشد يؤكد أهمية العلاج النفسي والسلوكي للقضاء على ظاهرة "العلاج الروحاني" (الجزيرة)

تفاؤل وتحذير

ويبدو المعالج النفسي يونس المرشد متفائلا بارتفاع نسبة لجوء الناس إلى المعالج النفسي أكثر من الروحاني في السنوات الأخيرة، مؤكدا أنه استطاع أن يُعالج نحو 50 شخصا خلال العام الماضي، كانوا يُعانون من اضطرابات نفسية.

ويعزو المرشد تخوّف الناس من عدم مراجعة المُعالج أو الطبيب النفسي إلى النظرة المجتمعية التي تنظر إلى مَن يعانون من ضغوط نفسية، بسبب البطالة والأزمات الأخرى، بـ"نظرة دونية".

ويرفع المرشد من سقف أهمية العلاج النفسي والسلوكي، مقارنة بـ"العلاج الروحاني"، إذ يكون الأول عبر جلسات نفسية تعتمد على الأساليب التنموية الحديثة من دون اللجوء إلى الأدوية أو بعض الوصفات "الزائفة" التي يعتمدها "المعالجون الروحانيون"، ومن دون أن تكون لها أي انعكاسات إيجابية.

ويُحذر المرشد من انتشار ظاهرة "المعالج الروحاني"، بسبب الترويج لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف استقطاب أكبر عدد من النساء والأطفال ومن يصفهم بـ"ضعفاء النفوس" واستغلالهم ماديا ومعنويا.

المصدر : الجزيرة