الحدادة الفنية والنحت على المعادن.. فن تشكيلي صديق للبيئة يزدهر في الجزائر

بعض أعمال وليد تربيش الذي يحول الخردة لتحف فنية في ورشته (الجزيرة)

الجزائر- تجمعهما ملامحهما التي تبدو قاسية، وربما تشبه صلابة ذلك الحديد أو المعادن التي حولاها إلى فنٍ بات يقتحم تدريجيا مشهد الفنون في الجزائر، هما وليد وعبد الغني -الأول من محافظة سطيف الواقعة شرقي الجزائر، والثاني من العاصمة الجزائر- قصتهما متشابهة في عشق مهنتي أو حرفتي "الحدادة الفنية" و"النحت على المعادن"، إذ صنعا أشكالا ومجسمات إبداعية، لكن لكل منهما طريقته الخاصة ولمسته المتفردة.

عبد الغني شبوش يمارس هوايته في ورشته (مواقع التواصل)

كما أن فترة امتهانهما لفن فريد في الجزائر متقاربة، وهي التجربة التي كانت تنطق طوال 20 عاما، وتأخرت فيها أمانيهما بأن يكون لهذا الفن مكان في البلاد، ولم يُسمع صداه إلا في الأعوام الأخيرة، رغم أنهما يتفقان على أن ذلك الصدى يبقى مُبهما للمستقبِل، لكنهما يواصلان التحدي لأن يكون فنهما مفهوما لمن يجب عليه أن يُخرج هذه الحرفة من المجهول إلى المعلوم.

قطع السيارات تتحول لمجسمات

وليد جعل من الحدادة "مهنة صديقة للبيئة"، فيُحول قطع غيار السيارات لمجسمات حيوانات حديدية وكأنها تتحضر للمشاركة في فيلم للخيال العلمي، في حين أن عبد الغني شبوش ينحت على المعادن ليُخرج منها وجوها لشخصيات مجهولة، رآها البعض من زوار معرضه شبيهة بـ"أقنعة البشر المتلاصقة أو المتساقطة".

قارب من قطع الحديد المعاد تدويرها من أعمال وليد تربيش (الجزيرة)

التقت الجزيرة نت وليد وعبد الغني بالجزائر العاصمة، كل واحد فيهما كان في مكان مختلف، الأول كان عارضا إبداعاته تحت سقف معرض فني، والثاني يتهيأ لأعمال جديدة تزاحم اللوحات التشكيلية، التي سبق لها أن استقطبت جمهورا واسعا، استفزته تلك الأشكال والمجسمات الحديدية الفنية.

تعد الحدادة من بين أقدم المهن في الجزائر، وخلال العقود الأخيرة باتت تواجه "الانقراض" بعد أن تخلى كثير من أصحابها عنها، وهي المهنة التي بقيت صورتها النمطية ملتصقة عند الجزائريين بصناعة الأبواب والنوافذ الحديدية، خصوصا أن هذه المهنة ازدهرت بشكل كبير خلال تسعينيات القرن الماضي، بالتزامن مع الأزمة الأمنية التي عاشتها البلاد، وأجبرت كثيرا من العائلات على حماية منازلها بالأبواب والنوافذ الحديدية.

وليد تربيش يبتكر التحف الفنية ويعرضها للجمهور (الجزيرة)

الحدادة الفنية.. صديقة للبيئة

برواق الفن "مصطفى كاتب" وسط العاصمة الجزائرية، الذي تعوّد الجمهور الجزائري على أن يكون مساحة مخصصة لمعارض الفن التشكيلي والصناعات التقليدية، كان هناك معرض آخر يبدو غريبا للوهلة الأولى.

قبل دخول الجزيرة نت إلى المعرض، كان بعض المارة يتساءلون: "ما هذا؟" وكثير منهم دفعه الفضول لدخوله، كيف لا وهناك "أسد حديدي ضخم" عند مدخل رواق الفن، وخلفه "حصان حديدي ضخم"، يبدوان وكأنهما مجسمات لفيلم خيال علمي.

علامات الفرح والارتباك في آن معا بدت واضحة على وليد تربيش من حجم الحضور الجماهيري لمعرضه، فابن الـ40 عاما قضى نصف عمره "عصاميا" في فن اسمه "الحدادة الفنية".

سيارة من أعمال وليد تربيش  في الحدادة الفنية (الجزيرة)

بدايته مع "الحدادة الفنية" كانت قبل 20 عاما، حين أجبرته الظروف الصعبة التي كانت تعيشها عائلته على الولوج إلى هذه الحرفة "النادرة جدا في الجزائر. فبعد تقاعد والدي الذي كانت لديه ورشة صغيرة للحدادة، وجدت نفسي حينها مضطرا للتوقف عن الدراسة سنة 1999، حتى أساعده، وتعلمت المبادئ الأساسية لهذه المهنة في ظرف عام واحد".

وعن سر تطويره لمهنة الحدادة إلى فن قائم بحد ذاته، ذكر وليد أن ذلك يعود إلى موهبة منذ صغره بالعجينة المدرسية، عندما كان يصنع منها مختلف الأشكال، ليجد في الحدادة فرصته الذهبية لتفجير موهبته التي قال إنها "حلم منذ الصغر تحقق من الورشة".

عبد الغني شبوش في ورشته يمارس النحت على الحديد (مواقع التواصل)

ولم يخف وليد "تنمر المجتمع" على مهنته، حيث قال إن "البعض منهم كان يقول في بداياتي إن الإنسان يعمل من أجل المال أما أنت تضيع وقتك في صناعة ألعاب"، قبل أن ينجح في تنظيم أول معرض له بالعاصمة بعد 4 سنوات من الانتظار، ويقر أيضا بأنه أول جزائري يُدخل "الحدادة الفنية" إلى الجزائر، كما قال للجزيرة نت.

من قطع السيارة التالفة يصنع وليد تربيش مجسمات الحيوانات (الجزيرة)

أشكال حيوانات ضخمة وأخرى لسيارات أو لهياكل عظمية بشرية، لم تكن إلا جزءا من مساحة خيال وليد الواسعة، وهو ما يدفع للتساؤل عن طبيعة المواد والوسائل التي يصنع منها كل تلك الأشكال.

يقول وليد، "إن المواد والوسائل التي أصنع منها هذه الأشكال بسيطة جدا، آلة لقص الحديد وأخرى لتلحيمه وبقية الوسائل الأخرى مثل المطرقة وغيرها".

أسد من أعمال وليد تربيش الحديدية في معرضه (الجزيرة)

أما المفاجأة، فهي أن تصاميم وليد مصنوعة من "الخردة المعدنية للسيارات القديمة بالنظر إلى أسعار الحديد الباهظة"، وذكر بأن هذه الأشكال مصنوعة من نفايات الحديد التي يرميها الميكانيكيون "وأعيد تدويرها لأصنع منها هذه المجسمات والمحافظة على البيئة في الوقت ذاته".

ومن أكثر الأشكال التي أصر وليد على شرحها عمل على شكل يد مكبلة، قال إنه "وجد رسمتها في كراس لوالده، عبّر من خلالها عن يده التي كانت مكبلة في السجن خلال فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر".

عمل فني على شكل يد مكبلة عبّر وليد تربيش به عن يد والده التي كانت مكبلة في السجن خلال فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر  (الجزيرة)

النحت على المعادن

"الحدادة الفنية" في الجزائر لا تقتصر على تربيش، فعبد الغني شبوش يصنع مجسمات وجوه حديدية في فن مختلف يعرف باسم "النحت على المعادن" لتبدو وكأنها لوحات فنية تشكيلية، لكن معدنية.

من أعمال عبد الغني شبوش والتي ستعرض للجمهور  خلال الأسبوع الأول من أكتوبر/تشرين الأول المقبل (الجزيرة)

يعد "النحت على المعادن" تقنية فنية جديدة أدخلها عبد الغني للجزائر، مكّنته من صناعة اسم فني زاحم به كبار الفن التشكيلي بمعارض الجزائر بعد 20 عاماً، من وجوه مبهمة لأشخاص مجهولين إلى أشكال رؤوس حيوانات وغيرها.

"هل ما نراه مهنة أم فناً؟" سؤال رد عليه عبد الغني بأنه "مهنة وفن"، وكشف عن أن النحت على المعادن له التقنيات ذاتها المعتمدة في مهنة الحدادة، من عمل يدوي وآلات الحدادة المعروفة باستثناء الآلات الكهربائية.

وليد تربيش يصنع قطع فنية تجسد الطيور (الجزيرة)

هذا ما كان يقوم به عبد الغني في ورشته، النحت على المعادن، ثم تجد في الجهة المقابلة أشكالا أو مجسمات وجوه، بعضها تبدو مخيفة وأخرى مبهمة، وبعضها تبدو هياكل عظمية لوجوه حيوانات.

لكن ما يبعث على الغرابة إن كانت تلك الوجوه لأشخاص معروفة أم من وحي خيال الفنان؟ وهنا يرد عبد الغني -على سؤال الجزيرة نت- بأن "لكل شكل مقصدا خاصا بالنسبة لي، لكن ذلك لا يمنع كل من يشاهدها من أن يترجمها وفق خياله الخاص، مثلما يحدث مع لوحات الفن التشكيلي".

ولعبد الغني طريقته الخاصة في النحت على المعادن، وذكر أنها "تعتمد على اختيار وجه شخصية حقيقية أو خيالية لكنها تكون معبرة، وتستغرق فترة نحت الشكل ورتوشاته الأخيرة يوما أو أكثر".

المصدر : الجزيرة