أبطال السترات البرتقالية.. الجنود المجهولون في ملحمة الإنقاذ بقطاع غزة

أبطال السترات البرتقالية يعيشون يوميات متخمة بالجراح والموت في ظل القصف المتواصل على قطاع غزة

مع تصاعد وتيرة العدوان على قطاع غزة يظهر أبطال لم يتركوا مواقعهم في الميدان بحثا بين الركام والمباني المهدمة عن شهيد أو جريح، إنهم أبطال السترات البرتقالية رجال الدفاع المدني والإسعاف في أرض غزة والمسؤولون الوحيدون عن إجلاء الشهداء والجرحى من تحت الأنقاض.

تواصلت الجزيرة نت معهم على مدار يومين بين تصريح وقصف وإجلاء، ليرووا لنا كيف تركوا خلفهم أسرهم وأطفالهم ليقوموا بإسعاف الجرحى وإخراج الشهداء من تحت الأنقاض.

يعملون بسترات برتقالية كتب عليها "قيادة وسيطرة"، يعلنون سيطرتهم على الموقف وقيادتهم عمليات الإنقاذ الاستثنائية، يحفرون الأنقاض ليرى الجرحى نور الحياة من جديد على أيديهم، إنهم أبطال السترات البرتقالية طواقم الدفاع المدني والإسعاف.

كيف تعمل فرق الدفاع المدني؟

تمكنت فرق الدفاع المدني في قطاع غزة منذ بداية العدوان الغاشم من انتشال الشهداء والجرحى فور القصف مباشرة، حيث تتوجه مباشرة إلى البيوت المهدمة لتقوم برفع الأنقاض حتى تكشف عن الشهداء أو الجرحى وتقوم بنقلهم من خلال طواقم الإسعاف إلى المستشفيات لإجراء التقييم الطبي اللازم.

تواجه فرق الدفاع المدني العديد من أنواع المباني المهدمة بين مصانع ومنازل مستهدفة بقنابل وأسلحة معتادة أو بأسلحة محرمة دوليا، الأمر الذي يتطلب تعاملا مختلفا بحسب نوع المادة التي أطلقت مع القصف.

تستمر عمليات البحث في كل موقع لعدة ساعات، وقد يستغرق الفريق 10 ساعات تحت الأنقاض بحثا عن شهيد أو جريح أو أشلاء، حيث تقوم الفرق برفع الأنقاض -التي تحتوي بطبيعة الحال على العديد من القطع الخرسانية- بحذر شديد تفاديا لتفاقم إصابات الجرحى، ولا يغادر أفراد الدفاع المدني المكان قبل التأكد من أنهم أخرجوا كافة أفراد المنزل وساكنيه شهداء أو جرحى.

أفراد الطواقم لا يبرحون مواقعهم إلا بعد إخراج العائلة كلها (الجزيرة)

أبطال الدفاع المدني لا يعودون إلى منازلهم

وقال مدير الدفاع المدني في شمال غزة حسن جماصي للجزيرة نت إن "العديد من أفراد الطواقم لا يبرحون مواقعهم إلا بعد إخراج العائلة كلها حتى لو كانوا أشلاء".

وأضاف أن القصف لم يشمل البيوت والمناطق الزراعية والمصانع فقط، بل استهدف أيضا أفراد قوات الدفاع المدني، مثل محمد حمد نائب مدير الدفاع المدني بشمال غزة الذي لم يبرح موقعه طوال أيام العدوان، وذهب لدقائق معدودة ليطمئن على أهل بيته، ليصاب بشظايا قصف في فناء منزله وينقل على الفور لإسعافه بالمشفى، وبعد تلقي الرعاية الأولية غادر مباشرة ليستأنف العمل في الميدان.

كل هذا وأكثر دفع جماصي للتصريح متأثرا "نستغيث بالله وفي ما بعد كل ضمير حي، ليست هذه مذبحة فقط، بل إنها خطيئة، سوف يُسأل كل إنسان لديه ذرة ضمير أو إنسانية عن كل من ساهم مع بني صهيون ولو بصمته في قتل الأطفال، وستلاحقكم أرواح هؤلاء الأطفال وأمهاتهم والثكالى منهم إن لم تغيثونا منهم بعد الله".

وأضاف "نطالب كل من لهم ضمائر إنسانية بفتح المجال لمدنا بالمواد والمعدات وآليات وسيارات إطفاء وإنقاذ وأسطوانات أكسجين وملابس إنقاذ يمنعها عنا الاحتلال بحجج أمنية واهية".

وتابع "رسالتنا إنسانية تسمح بها كل اتفاقيات جنيف وكل اتفاقيات حقوق الإنسان بالعالم، ضربت قذائف حول سيارات الإخلاء لتعطيلنا وإرهابنا وإرهاب الأطفال وتعطيل السيارات بسبب القصف بـ"إف-16″ (F-16) الذي يخلف حفرا في الشوارع بعمق 8 أمتار وطول 15 مترا، وهو ما يعيق الوصول إلى البيوت التي تم قصفها ويوجد جرحى وشهداء تحت أنقاضها".

لحظات قليلة لالتقاط الأنفاس وسط جهد متواصل لقوات الدفاع المدني (الجزيرة)

أبطال الإسعاف

لم يسع الحديث مع أفراد الطاقم بشكل كامل لكثرة عددهم وشدة انشغالهم بعمليات الإنقاذ، ولكن تواصلت الجزيرة نت مع رئيس قسم الإسعاف في مجمع كمال عدوان شمال غزة فارس عفانة، وقال "قامت فرق الإنقاذ -التي تشمل طواقم الدفاع المدني والإسعاف- بالعمل على أكثر من 45 غارة في منطقة الشمال الغربي فقط، من بينها شارع الوحدة الذي استغرق فيه أبطال فرق الإنقاذ 48 ساعة متواصلة من العمل تحت الأنقاض وأسفر عن إنقاذ العديد من الجرحى والمصابين، بالإضافة لجثامين الشهداء".

وأضاف "قصفت المنطقة الشمالية بشكل جنوني في المنطقة الشمالية الغربية بمنطقة بيت لاهيا، وكالمعتاد استلمت إشارات واستغاثات من مدنين عزل في بيوتهم ما زلت أتذكرها، كانت عشية أول أيام عيد الفطر المبارك، تحركت بحذر شديد بين القصف الذي استمر أكثر من 40 دقيقة من الطيران الحربي على محيط المنازل وقمنا بمساعدة المدنيين الذين قاموا بالنزول والنزوح من المكان خوفا من القصف، توجهنا مرة أخرى للبحث لنجد الأطفال هاربين من المنازل، حيث احتموا في الجامعة بالجوار، ولكن فوجئنا باستهداف الجامعة واستشهاد جميع الأطفال وأسرة كاملة، لم تستطع فرق الإنقاذ إجلاء الشهداء إلا في اليوم التالي، وسوف نقوم بتوثيق كل شيء بالصور، لقد استهدفوا أطفالا وشيوخا ونساء".

وبعد فترة طويلة من انقطاع الاتصال عاد مستأنفا الحديث "لقد قمنا بالتوجه لإنقاذ طفلة وأبيها وأمها، قاموا بالتوجه لأحد الأبراج مقابل أبراج زايد، وبعون الله أخرجناهم من المكان بصعوبة، وظلت الطفلة تلاحقني "يا عمو بديش أموت"، ظلت كلماتها تلاحقني، وما كان مني أن أفعل شيئا في ظل هذه الحرب الشنعاء التي لو جمعت قوة القنابل التي قصفت علينا لكانت قنبلة ذرية".

وأثناء حديثه مع الجزيرة نت تم قصف المنزل المجاور له وانقطع الاتصال لفترة طويلة، ورغم مرور الوقت لكنه عاد وأكمل "بفضل الله بحثنا عن ناجين، وقد وجدنا امرأة وابنتها وحفيدتها الصغيرة وشابين، وفي ذات الاستهداف أنقذنا طبيبا بينما استشهد والده".

قصص بطولية

ومن بين مئات القصص البطولية، التي يرويها جنود الدفاع المدني بغزة، قصة خميس نبيل، شاب رياضي يعمل في طواقم الدفاع المدني شمال غزة، ذهب لتلقي استغاثة قصف ليلا، وعند البدء بالنزول تحت الأنقاض تقدم نبيل لإغاثة الضحايا، إلا أنه استشعر أن أحد الضحايا ما زال حيا، ومع تراكم القطع الخرسانية الضخمة وتعقيد عملية الإغاثة والانتشال، اضطر  لقضاء ليلته بالكامل تحت الأنقاض حتى ظهر اليوم التالي؛ ليستطيع أن ينتشل الجريح وينقذه من الموت المحقق.

استطاع نبيل إخراجه؛ لكن أصابته حالة إعياء شديد وهستيريا، فانهار  تماما فور عملية الإخلاء الدقيقة، وسطر  رقما قياسيا جديدا في سجل بطولات طواقم الدفاع المدني، الذين يقضون أوقاتهم تحت الأنقاض باحثين عن بصيص أمل حياة يحيي داخلهم طاقة البحث من جديد، بعد أن بددتها المشاهد المفجعة لأشلاء الشهداء، التي تغلب على كافة عمليات الإنقاذ.

ومن بين أبطال السترات البرتقالية أحمد أبو فول، ويعرف بأبو يوسف، الذي استُهدف وطاقم الإنقاذ الخاص به مرتين متتاليتين بالقصف المدفعي، أثناء عملية إنقاذ ضحايا أحد المنازل، التي تم قصفها.

روى أبو يوسف للجزيرة نت كيف عانى خلال الأيام الماضية رغم عمله في هذا المجال لسنوات مضت؛ إلا أنه لم يستطع أن ينسى طفل بيت العطار الشهيد، الذي لم يتجاوز عمره 10 أشهر، وأخرجته فرق الدفاع المدني بصعوبة من تحت الأنقاض، حيث يقول "رأيت في هذا الطفل ابني".

أضاف أنه قام بإخلاء منزل قصف به أحفاد أحد قادة رجال الدفاع المدني، وبه 3 أطفال شهداء أعمارهم تتراوح بين أشهر وعشر سنوات، ووجدهم مختبئين في مكان "يحاولون تفادي القصف فيه؛ لكن فاضت أرواحهم إلى بارئها إثر القصف" وفق وصفه.

ويشعر أبو يوسف أن كل الأطفال أبناؤه، ورغم أنه يخرج من المنزل ولا يعرف ما إن كان سيعود أو لا؛ إلا أنه مصمم على استئناف عمله حتى آخر نفس.

يعمل أبطال السترات البرتقالية بأياديهم العارية في إخراج الجرحى والشهداء من بين الركام، وقليلا ما تُستدعى المعدات الثقيلة المسؤولة عن رفع الأنقاض، وتعاني الطواقم من فقر شديد في المعدات بسبب التضييق الأمني الإسرائيلي الذي يعتبر تلك الأدوات والآليات مصدر تهديد أمني.

المصدر : الجزيرة