فبركة التاريخ الإسرائيلي.. المؤرخون الجدد

خدمة كمبردج بوك ريفيو
يشن أستاذ الدراسات المتوسطية في كنغز كوليج بجامعة لندن إفرايم كارش في هذا الكتاب حملة شعواء على مجموعة "المؤرخين الإسرائيلين الجدد" الذين قدموا وما زالوا يقدمون طروحات تأريخية تخالف الأطروحة السائدة والرسمية في الوسط الإسرائيلي الرسمي والشعبي.


undefined


– اسم الكتاب:
 فبركة التاريخ الإسرائيلي
 المؤرخون الجدد
– المؤلف: إفرايم كارش
– عدد الصفحات: 263
الطبعة: الثانية 2000
الناشر: فرانك كاس –   لندن

وتكمن أهمية ما يطرحه هؤلاء المؤرخون الجدد -أو ما يطلق عليهم أحياناً مدرسة "التأريخ الإسرائيلي الجديد"- من أفكار في تحديها لكثير من الأساطير التي بنيت عليها المخيلة الإسرائيلية تجاه عدد من القضايا الأساسية سواء أكانت قبل تأسيس الدولة أو بعدها.
 
ومن هذه القضايا تفكيك الصورة المثالية والرومانسية للتجمعات الاستيطانية في فلسطين في العشرينات والثلاثينات التي رسمتها الرواية الرسمية، حيث زرعت في عقول أجيال الإسرائيليين صورة بطولية لمهاجرين مثابرين لا هم لها إلا إصلاح الأرض اليباب(!), وحيث كانت علاقة هذه التجمعات فيما بينها غاية في التعاون, وعلاقتها مع جيرانها العرب غاية في التسامح, لكن العرب لم يبادلوها إلا العدوان والعداء. هذه التجمعات تظهر في كتابات المؤرخين الجدد -وتحديداً كتابات أعمال سمحا فلابن وتوم سيغف- عدائية تجاه بعضها البعض وتجاه العرب واستفزازية قائمة على الكراهية.


انصبت بحوث المؤرخين الإسرائيليين الجدد على إثبات أن المنظمات العسكرية الصهيونية -التي شكلت الجيش الإسرائيلي قبيل الحرب- انخرطت في برنامج تهجير واعٍ للفلسطينيين يستهدف طردهم من فلسطين، انسجاماً مع الفكرة الصهيونية الأساسية حول الترانسفير بضرورة إخلاء الأرض للمهاجرين اليهود وعدم إمكانية وجود شعبين في البقعة ذاتها
ويعتبر التهجير الذي وقع فعلاً قبيل وخلال وبعد تلك الحرب القضية السجالية الثانية التي يثيرها المؤرخون الجدد, وينتقدهم في معالجتها كارش. فهؤلاء تنصب بحوثهم على إثبات أن المنظمات العسكرية الصهيونية التي شكلت الجيش الإسرائيلي قبيل الحرب, انخرطت في برنامج تهجير واعٍ للفلسطينيين يستهدف طردهم من فلسطين انسجاماً مع الفكرة الصهيونية الأساسية حول الترانسفير بضرورة إخلاء الأرض للمهاجرين اليهود وعدم إمكانية وجود شعبين في البقعة ذاتها. وهذا الطرح -المتفاوت من مؤرخ لآخر- يناقض الرواية الإسرائيلية الرسمية التي يدافع عنها كارش وتقول بأن الفلسطينيين هاجروا بمحض إرادتهم, ونزولاً عند طلب الحكومات العربية لهم كي يخلوا المناطق التي ستتعرض للعمليات الحربية العربية التي ستقضي على الجيش الإسرائيلي ومن ثم يعودون بعد النصر.
 
أما آخر أطروحات المؤرخين الجدد فيقدمها آفي شلايم في كتابه الهام "الجدار الحديدي"، وتتعلق بمسؤولية إسرائيل عن إضاعة فرص السلام مع العرب على عكس الدعاية الإسرائيلية الرسمية بأن العرب هم المسؤولون عن ذلك, وهذا عملياً يسحب التأريخ الجديد ليشمل كل عقود الصراع العربي الإسرائيلي بعد أن ظل هذا التأريخ محصوراً في فترة التأسيس والسنوات القليلة التي أعقبتها.

يربط كارش بين تطور أفكار المؤرخين الجدد وتيار ما يعرف "ما بعد الصهيونية"، والمراجعات النظرية والفكرية المنسوبة إليه والتي تدور في مجملها حول ضرورة انتقال إسرائيل إلى "مرحلة النضج" بعد الانتهاء من مرحلة التأسيس، ونبذ الكثير من مكونات الفكرة الصهيونية التقليدية مثل تفرد القومية اليهودية ونقاء الشعب اليهودي, وسياسات التوسع القائمة على مبدأ "الأرض" وليس "الدولة"، واعتماد "الدين" كمعيار للانتساب للدولة وليس المواطنة العلمانية. وأيا ما كان الأمر فإن الشيء الأكيد المؤطر لنقاشات ما بعد الصهيونية -وكذا التأريخ الجديد- هو بلوغ المشروع والدولة الصهيونية مرحلة من الثقة بالنفس والاطمئنان على "الوجود" تقبل "ترف" إخضاع المقولات الأساسية و"المقدسة" في بعض الأحيان للمساءلة البحثية والأكاديمية. بل والأهم منه في موضوع المؤرخين الجدد، أن الخلاصات النهائية والاكتشافات التي تنفض ما كان سائدا من معرفة، لا يترتب عليها أكلاف راهنة على الصعيد السياسي إلا إذا افترضنا أن هذه الخلاصات سوف يتم تبنيها من المؤسسة الحاكمة بحيث تصير الرواية الإسرائيلية الرسمية، وهو افتراض بعيد عن الواقعية إذا نظرنا إلى ما تتبناه المؤسسة الرسمية الحالية من استراتيجيات هجومية. ويأتي بعد مسألة بلوغ مرحلة الثقة في تأطير بروز ظاهرة التأريخ الجديد، عدد من العوامل الإجرائية أهمها نزع السرية عن العديد من الوثائق في الأرشيفات الإسرائيلية والبريطانية والأميركية ذات العلاقة بمرحلة تأسيس الدولة وما تلاها، أي عقود الأربعينات والخمسينات.

هناك كتابات كثيرة تنسب الآن لمدرسة المؤرخين الإسرائيلين الجدد, مثل أعمال إيلان بابيه حول الطبيعة الاستعمارية للمشروع الصهيوني, وبني موريس حول سياسة الترنسفير, وزئيف ستيرنهيل حول دعاوى إسرائيل الليبيرالية والديمقراطية, وآفي شلايم حول التواطؤ الصهيوني الأردني قبل حرب 1948 ثم حول إجهاض إسرائيل لكل محاولات السلام مع العرب, وتوم سيغيف حول عنصرية وبشاعة المهاجرين الأوائل (اليشوف) وغيرهم.

لكن إفرايم كارش يختار من بين هؤلاء بني موريس مثالاً على "تدليس" المؤرخين الجدد، ويناقش طروحاته حول فكرة التهجير في المشروع الصهيوني وعند بن غوريون. والواقع أن كارش لم يغفل بقية المؤرخين في الكتابات التي نشرها بعد صدور كتابه هذا، فقد انتقد إيلان بابيه وآفي شلايم بقسوة أيضا على صفحات فصلية "ميدل إيست كوارترلي" ومؤخراً في ملحق التايمز الأدبي.


يطعن المؤلف في أهلية المؤرخين الإسرائيليين الجدد الأكاديمية وأساليبهم البحثية وطرقهم في تفسير الروايات والوثائق التاريخية ويعتبرها انتقائية، كما يتهمهم بعدم الاطلاع على كافة المصادر
بالنسبة إلى كارش لا تمثل المراجعات الجديدة سوى تشويه لتاريخ إسرائيل ولا علاقة لها بالعمل الأكاديمي. وهو يسعى في نقده لهم إلى تحطيم ما يسميه "أسطورة المؤرخين الجدد الإسرائيليين"، حيث يشن عليهم حملة شعواء ولا يترك اتهاما جارحا إلا ويلصقه بهم. وهو يطعن في أهليتهم الأكاديمية وأساليبهم البحثية وطرقهم في تفسير الروايات والوثائق التاريخية ويعتبرها انتقائية، كما يتهمهم بعدم الاطلاع على كافة المصادر.
 
وينتهج كارش نهجا اتهاميا وغاضبا، فضلا عن أنه تعميمي لا يترك أحدا من المؤرخين الجدد المذكورين أعلاه أو العديدين الأقل شهرة إلا و"ينتقي" من أعماله ما يصلح للنقض والتفنيد, مع التركيز على بني موريس تحديداً. فهنا يتوسع كارش في نقض أطروحة موريس عن "تهجير الفلسطينيين". ورغم أن موريس نفسه لا يذهب إلى آخر الشوط في إثبات أن التهجير والطرد كانا مكونا أساسيا من مكونات المشروع الصهيوني، وينزع نحو تحميل وزر التهجير لـ "أعمال الحرب" وما يمكن أن ينشأ خلال العمليات العسكرية وأثر ذلك على السكان المدنيين، فإن ذلك لا يقيه هجومات كارش الشديدة. فكارش يقرأ في كتابات موريس "تلميحات" إلى احتمال وجود فكرة الترانسفير في قلب المشروع الصهيوني من خلال استخدام موريس لاقتباسات عن بن غوريون تؤيد "الترانسفير" باعتباره الحل العملي الوحيد للحصول على دولة يهودية غالبيتها الكاسحة من اليهود. فموريس ينقل عن بن غوريون في خطاباته أمام الوكالة اليهودية والمؤتمرات الصهيونية -خاصة عام 1937 وبعد نشر تقرير بيل لتقسيم فلسطين- قوله "بأننا لا نريد تبديل مكان سكن الفلسطينيين ولكننا نريد تهجيرهم"، مشيرا إلى أن هناك مساحات واسعة من الأرض عند العرب ويمكنهم أن يستقبلوا الفلسطينيين فيها. وفي عام 1938 يقول بن غوروين بوضوح إنه يدعم فكرة التهجير الإجباري ولا يرى أي شيء غير أخلاقي فيها. مقابل ذلك فإن كارش يدافع عن بن غوروين ويحاول أن يثبت أن ما ورد عنه من مقولات بشأن "التهجير" هي مقولات منقوصة ومجزوءة لم ينقلها موريس بأمانة، وأن حقيقة موقف بن غوريون أنه نظر إلى أن الحل الوحيد للحصول على دولة ذات أغلبية يهودية كاسحة هو هجرة مليون ونصف مليون يهودي من أوروبا، وهي الهجرة التي يجب أن تكون لها مغريات ودوافع قوية.
 
وحديثا أعاد كارش الهجوم على موريس لجهة تحليله نصوص بن غوريون، متهما إياه بخمس تهم من العيار الثقيل في تعامله مع الوثائق هي: سوء التفسير، والاقتباس المجتزأ، وعدم الإشارة إلى البراهين، والوصول إلى تأكيدات خاطئة، وإعادة كتابة الوثائق الأصلية.
 
ومن الملاحظ هنا أن حيزا كبيرا من سجال كارش موريس يتمركز حول دور بن غوريون وآرائه، ليس فقط إزاء فكرة الترانسفر بل وإزاء قضايا أخرى لاحقة خلال عقدي الأربعينات والخمسينات. وهذا يستوجب الإشارة إلى أن بن غوريون -رغم شخصيته القيادية وآرائه النافذة- كان جزءا من كل، وأن بقية هذا الكل كانت ذات تأثير موازٍ أيضا في صوغ السياسات والقناعات إن قبل إنشاء الدولة وإن بعدها. ويواجه موريس بالنقد جراء إعطائه بن غوريون دورا طاغيا في توجيه السياسة الإسرائيلية حتى أوائل الستينات، وتهميشه لآراء وأفكار آخرين مثل موشيه شاريت وزير خارجيته مثلا.

يبقى القول بأن موريس من طرفه دافع عن نفسه ضد كارش في أكثر من مقالة وعلى صفحات أكثر من فصلية، ففي مجلة الدراسات الفلسطينية مثلاً (الطبعة الإنجليزية، واشنطن، شتاء 1998) أرجع موريس تهمة الانتقائية إلى كارش متهما إياه بأنه قد نسي وتجاهل كل الأطروحات الأكاديمية المدعمة بالوثائق في كتابه وانتقى بضعة صفحات أفرد لها فصولا في كتابه، وهو أمر يمكن ملاحظته بسهولة في كتاب كارش. وقد نعى على كارش أهليته الأكاديمية أيضا مذكرا إياه بماضيه في العمل بجهاز الاستخبارات العسكري الإسرائيلي، وبأن "إنجازاته" الأكاديمية لا تتعدى بضعة دراسات في الاستراتيجيات العسكرية مصادرها الأساسية هي قصاصات الصحف، وذلك لا يؤهل كارش للدخول إلى ميدان التاريخ الذي هو أرقى من أن يصل إليه كارش!

المصدر : غير معروف