الانتحار في العراق.. موت يعلمه الجميع ويحاط بالكتمان

جسر الجادرية في بغداد والذي يعد وجهة لكثير من المقدمين على الانتحار
جسر الجادرية في بغداد الذي يعد وجهة لكثير من المقدمين على الانتحار (الجزيرة)

مروان الجبوري-بغداد

بصعوبة بالغة وفي اللحظات الأخيرة استطاعت مجموعة من المارة على جسر الجادرية في بغداد إنقاذ الشاب مصطفى، بعد أن قرر إنهاء حياته انتحارا برمي نفسه في نهر دجلة ليلا.

مصطفى البالغ من العمر 21 عاما قادم من عائلة تعاني التفكك والفقر، وقد قرر إنهاء حياته بهذه الطريقة هربا من واقع لا يستطيع تغييره أو تقبله، فيما يبدو أنها باتت طريقة عشرات الشباب العراقيين الذين أصبحوا غير قادرين على التعايش مع مشاكلهم وظروفهم الخاصة والعامة.

وحتى سنوات قليلة لم يكن مألوفا أن تسمع في مجتمع شرقي كالعراق عن حالات انتحار، باستثناء حوادث متفرقة على مدار سنوات عدة، لكن الأمر لم يعد كذلك اليوم، فالمستشفيات العراقية أصبحت تستقبل بانتظام جثثا لمنتحرين أو أشخاص حاولوا الانتحار، في ظاهرة يبدو أنها تتزايد يوما بعد آخر.

وتتداول صفحات مواقع التواصل الاجتماعي باستمرار قصصا جديدة عن شبان وفتيات قرروا إنهاء حياتهم بالقفز من فوق جسر أو تناول السم أو قطع الأوردة أو شنق أنفسهم أو الحرق، والقاسم المشترك بينهم جميعا هو ظروف اجتماعية قاسية وصعبة قادتهم إلى هذا.

الجزيرة نت اتصلت بوزارة الصحة العراقية للحصول على إحصاءات دقيقة حول حجم الظاهرة، لكنها رفضت الإدلاء بأي تفاصيل، دون إبداء أسباب واضحة لذلك.

‪دائرة الطب العدلي التي تستقبل الجثث لتحديد سبب الوفاة‬  (الجزيرة)
‪دائرة الطب العدلي التي تستقبل الجثث لتحديد سبب الوفاة‬  (الجزيرة)

تفاوت الأرقام
وتقول المفوضية العليا لحقوق الإنسان إنها رصدت نحو 3000 حالة انتحار في الفترة بين 2015 و2017 لدوافع مختلفة، كما أن مستشفى الشيخ زايد في بغداد أعلنت عن إنقاذ نحو 18 حالة انتحار خلال أغسطس/آب الماضي.

وتتصدر محافظة ذي قار نسب المقدمين على الانتحار في العراق، تليها ديالى ثم نينوى وبغداد والبصرة، إضافة إلى الحالات الموجودة في إقليم كردستان، التي غالبا تحاط بالسرية والكتمان.

وقد بلغ عدد الذين قرروا إنهاء حياتهم خلال عام 2017 في ذي قار 119 شخصا و76 وفي ديالى و68 وفي نينوى و44 في بغداد و33 في البصرة، وفقا لتقرير المفوضية.

ويتحول انتحار البعض إلى حوادث عرضية، كما يقول المتحدث السابق باسم وزارة حقوق الإنسان كامل أمين، والذي يوضح أن عشرات حالات الانتحار تسجل على أنها حوادث تفاديا للحرج الاجتماعي، ثم تكتشف السلطات الأمنية بعد ذلك أنها كانت انتحارا.

ومكمن الصعوبة هنا أن الجهات المختصة تضطر أحيانا للبحث بسجلات المرضى في المستشفيات الحكومية للتأكد من حجم الظاهرة لأنها تحاط بالكتمان عادة، على حد قوله.

وقد اتخذت وزارة الصحة قبل بضع سنوات قرارا باستحداث وحدات في المراكز الصحية لمعالجة الاضطرابات والأمراض النفسية، وافتتحت بالفعل تسع وحدات منها داخل بغداد، لكنها توقفت بعد تغيير الوزير لاحقا.

أسباب مختلفة
ويرى أستاذ علم النفس بجامعة بغداد حيدر الدهوي أن العوامل السياسية والضغوط الاجتماعية والاقتصادية ولدت عدم اتزان لدى الكثير من العراقيين أدى إلى فقدان السيطرة على الذات، مما يدفع بعضهم للإقدام على هذه الخطوة.

وحسب الدهوي فإن أكثر الحالات المسجلة هي في أوساط النساء، لأن المجتمع ما زال "ذكوريا عشائريا" يضغط على المرأة ولا يمنحها حقوقها كاملة، فبعضهن فقدن المعيل ولم يحصلن على شيء من الدولة، وهن يخضعن لضغوط اجتماعية كثيرة ومعقدة.

‪إحدى ردهات الانتظار في مستشفى اليرموك ببغداد الذي يستقبل العدد الأكبر من ضحايا الانتحار في العاصمة‬  (الجزيرة)
‪إحدى ردهات الانتظار في مستشفى اليرموك ببغداد الذي يستقبل العدد الأكبر من ضحايا الانتحار في العاصمة‬  (الجزيرة)

ويضرب مثالا بحالة حصلت قبل عدة أسابيع، لامرأة كانت تعيل خمس بنات بعد أن قتل زوجها، وعاشت بعده لسنوات حالة من الفقر المدقع الشديد، مما دفعها للانتحار خوفا من المستقبل وهربا من واقعها المزري، بحسب تعبيره.

وهناك أيضا حالات بسبب تعاطي المخدرات والبطالة، وعدم الإحساس بقيمة الحياة أو جدواها، والضغوط التي يتعرض لها بعض الطلبة من قبل أسرهم.

ويضيف الدهوي أن الأمراض النفسية قد تكون دوافع مهمة للانتحار، لأن العائلة العراقية ليس لديها بشكل عام ثقافة تفهم واستيعاب الاضطرابات النفسية، مما قد يؤدي إلى تفاقمها.

وهذه الأمراض تتمثل غالبا بالاكتئاب واضطراب "ثنائي القطب"، والذي يؤدي إلى تقلبات مزاجية مفرطة، تصل بالمصابين إلى الهوس والغرق في الحزن والمشاعر السلبية لفترات طويلة، والإفراط بتناول بعض العقاقير، مما يولد الرغبة بالانتحار في أحيان كثيرة.

ويعتقد الدهوي أن توفير فرص عمل للشباب والقضاء على العنف والتمييز الطائفي ودعم قطاع التعليم من شأنه أن يسهم في الحد من هذه الحوادث، "إضافة للدور الذي يمكن أن تمارسه منظمات المجتمع المدني والمساجد في التصدي للظاهرة".

المصدر : الجزيرة