ربيع براغ وإصلاحات دوبتشيك.. حلم تشيكوسلوفاكي سحقته دبابات السوفيات

ربيع براغ أنهته قوات الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو في أغسطس/آب 1968 (أسوشيتد برس)

ربيع براغ هو فترة قصيرة من التحرر عاشها التشيكوسلوفاكيون أثناء تنصيب ألكسندو دوبتشيك سكرتيرا أول للحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا عام 1968، حيث منح حرية أكبر للصحافة لم يكن الحزب الشيوعي يسمح بها وسعى لإصلاحات اقتصادية وسياسية.

ولم تطل تلك الفترة لإخماد قوات الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو ثورة التشيكوسلوفاكيين الراغبة في "حكم اشتراكي بوجه إنساني"، وأخضعت براغ بالدبابات لتكون تحت الحكم الشيوعي حتى الثورة المخملية عام 1989.

الشرارة.. تنصيب دوبتشيك

كان ألكسندر دوبتشيك أحد المنتمين إلى الحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا، وانتخب عام 1949 سكرتيرا أول للحزب، ثم انتخب عضوا في اللجنة المركزية ثم عضوا في البرلمان الوطني.

وفي 1952 انتخب أمينا للجبهة الوطنية التشيكوسلوفاكية، وتولى المناصب الأعلى في الحزب وهو في الـ42 من عمره، وتزامن ذلك مع تدهور أوضاع تشيكوسلوفاكيا الاقتصادية، مما انعكس على حياة المواطنين.

وكان الشارع التشيكوسلوفاكي غاضبًا من عجز أنطونين نوفوتني، الزعيم التشيكوسلوفاكي آنذاك، عن معالجة الأوضاع، وانتخب دوبتشيك أمينا عاما للحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا في الخامس من يناير/كانون الثاني 1968.

وتوجه دوبتشيك بعد تعيينه أمينا عاما للحزب الشيوعي إلى موسكو في إجراء تقليدي لزعماء الحزب، ولكن الأوضاع في تشيكوسلوفاكيا كانت تزداد سوءا، ودفعت دوبتشيك إلى الإعلان عن بعض الإصلاحات عقب عودته من موسكو، آملا أن تمتص غضب الشعب.

وكان ضمن الإصلاحات التي اقترحها ما يتعلق بحرية التعبير والصحافة، كما طرح برنامجا انتخابيا بعنوان "الطريق التشيكوسلوفاكي إلى الاشتراكية"، ونادى بإلغاء وصاية الحزب الشيوعي على المجتمع.

وتعهد دوبتشيك بالحد من سلطة الأجهزة الأمنية على الشعب، وأعلن السماح للتشكيوسلوفاكيين بالسفر إلى الخارج، وهو ما لم يرق لزعماء الاتحاد السوفياتي.

وكان الحديث عن الإصلاحات أمرا مستهجنا وغريبا على الشيوعيين آنذاك، فشنّ الكرملين حملة دعائية ضد دوبتشيك وأنصار الإصلاحات، إلا أنه أصرّ على تطبيق سياسته وما وعد به في برنامجه الانتخابي، وهو ما عدّه الكرملين تمردا.

دور الأدباء في ربيع براغ

يُرجِع بعض من عاصر تلك الأحداث، ومنهم عالمة الاجتماع ييرينا سيكلوفا، أسباب الثورة إلى مؤتمر كُتّاب تشيكوسلوفاكيا المنعقد في عام 1967.

وكان من ضمن المشاركين في المؤتمر الكاتب المعارض ميلان كونديرا الذي ركزت روايته الساخرة "الدعابة" على الحكم الشمولي، والكاتب المسرحي فاتسلاف هافيل الذي أصبح فيما بعد رئيس جمهورية التشيك بعد انقسام تشيكوسلوفاكيا، ومهّد لمزيد من الانفتاح والمطالبة بالحرية.

وفي تلك الفترة كان الحزب الشيوعي يشهد انشقاقا "منذرا بحدوث أمر ما"، حسب قول سيكلوفا وبيتر بتهارت، عضو الحزب الذي صار فيما بعد رئيسا لمجلس الشيوخ التشيكي.

وكان التظافر بين جهود كونديرا ودوبتشيك سببا في التغيير، فألغيت الرقابة وسمح بحرية التعبير التي طالب بها الكتّاب في مؤتمرهم المذكور، وظهرت منظمات جديدة غير شيوعية.

وفي 22 مارس/آذار 1968 استقال الأمين العام للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي أنتونين نوفوتني، إثر فضيحة متعلقة بالفساد، وكان أحد أبرز المتورطين فيها جنرالا مقربا منه يدعى يان سينا، هرب إلى إيطاليا ثم إلى الولايات المتحدة.

الدبابات السوفياتية أثناء تدخلها لإخماد ربيع براغ يوم 21 أغسطس/آب 1968 (أسوشيتد برس)

ربيع الإصلاحات

مع ما كانت تثيره إصلاحات دوبتشيك من غضب لدى الكرملين وقادة الاتحاد السوفياتي، إلا أنها أنعشت الشعب التشيكوسلوفاكي وأحيت فيه روح الثورة والتغيير.

وظهر نادي "كيه 123″، وهو ناد يضم سجناء سياسيين سابقين، و"نادي غير الحزبيين الناشطين"، وحركات الكشافة وغيرها من الحركات المنشقة عن الحزب الشيوعي.

وأحيت تلك الفترة روح التضامن بين أفراد الشعب التشيكوسلوفاكي، ويقول بتهارت "كان يمكن القول إنهم مستعدون للتضحية، كان شعورا طاغيا بالبهجة".

وأعاد دوبتشيك تأهيل ضحايا التطهير السياسي في عهد الزعيم السوفياتي السابق جوزيف ستالين، وأصدر برنامجا إصلاحيا في أبريل/نيسان 1968 شمل ضمانا لحقوق الحريات المدنية، وخططا لإضفاء طابع الديمقراطية على الحكم في تشيكوسلوفاكيا.

واهتمت الإصلاحات بالجانب الاقتصادي الذي كان يعاني التشيكوسلوفاكيون من ضعفه، فقام بإصلاحات صناعية وزراعية طال انتظارها، ولمس المجتمع حرية دينية أيضا فنشطت الكنائس، وجماعات حقوق الإنسان وغيرها من مظاهر الحياة في الفضاء الديمقراطي.

وفي 27 يونيو/حزيران 1968 نشر الكاتب لودفيك فاكوليك وثيقة عرفت ببيان "2000 كلمة"، وحثت هذه الوثيقة الموقعة من قبل كثير من التشيكوسلوفاكيين على العمل الجماهيري للمطالبة بديمقراطية حقيقية.

وطالب موقعو الوثيقة -الذين يمثلون كل فئات المجتمع التشيكوسلوفاكي- بالتقدم الفعلي نحو الحكم الديمقراطي، وكانت إصلاحات دوبتشيك داعمة للحكم الذاتي لبلاده.

وأصبح الحزب الشيوعي ملزما بالدخول مع المنظمات السياسية الأخرى في منافسة ديمقراطية يصوّت فيها الشعب، وكان دوبتشيك مصرا على "عرض الاشتراكية بوجه إنساني" طريقة لحكم بلاده، ومقتنعا بأنه قادر على التحكم في تحول تشيكوسلوفاكيا.

الاتحاد السوفياتي غضب من الإصلاحات التي شهدتها تشيكوسلوفاكيا فأرسل قواته للسيطرة على الوضع (أسوشيتد برس)

موقف السوفيات من الإصلاحات

كان الاتحاد السوفياتي منزعجا مما يحدث في تشيكوسلوفاكيا، كما كان الأعضاء في حلف وارسو (مجموعة دفاع مشترك) أكثر انزعاجا بعد أن رفض دوبتشيك المشاركة في اجتماع خاص لقوى الحلف.

وأرسل حلف وارسو رسالة إلى دوبتشيك يقول فيها إن بلاده "على وشك الدخول في ثورة مضادة، ومن واجب الحلف حمايتها"، إلا أن دوبتشيك كان مقتنعا بإمكانية مواجهته أي صعوبات قد تعترضه.

وفي الثالث من أغسطس/آب 1968 التقى كل من ممثلي الأحزاب الشيوعية السوفياتية والألمانية الشرقية والبولندية والبلغارية والمجرية والتشيكوسلوفاكية في براتيسلافا (عاصمة سلوفاكيا الآن).

وأصدر المجتمعون بيانا فيه انطباع بأن الضغط سيخفف على تشيكوسلوفاكيا، مقابل تشديد السيطرة على الصحافة إلى حد ما.

القمع العسكري لربيع براغ

أثار خروج دوبتشيك عن الالتزام بقوانين قادة الحزب الشيوعي والكرملين مخاوفهم من تكرار ربيع براغ في بقية الجمهوريات التابعة للاتحاد السوفياتي، فقرروا التدخل بالقوة العسكرية لقطع طريق تشيكوسلوفاكيا نحو الحكم الذاتي.

وفي ١١ أغسطس/آب 1968 اقتحم ما يقارب 200 ألف جندي من قوات حلف وارسو والاتحاد السوفياتي تشيكوسلوفاكيا، رغم أنها عضو في الحلف.

حثت الحكومة التشيكوسلوفاكية شعبها على الهدوء وعدم مقاومة جنود الاقتحام، لكن السكان خرجوا إلى الشوارع محاولين إيقاف الدبابات، كما خرجوا في مظاهرات تحمل في مقدمتها علم تشيكوسلوفاكيا ملطخا بالدماء.

ألكسندر دوبتشيك قاد حملة إصلاحات في تشيكوسلوفاكيا وغير سياسة الحزب الشيوعي (شترستوك)

وفي مساء يوم 20 أغسطس/آب 1968، انطلقت وحدات عسكرية سوفياتية بدعم من قوات تحت راية حلف وارسو إلى براغ، واحتلتها بـ4500 مدرعة و400 طائرة في أكبر عملية عسكرية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

واحتلت قوات المظلات مقر الحكم الشيوعي في براغ، واعتقلت ألكسندر دوبتشيك زعيم الإصلاحات وسيرنيك وغيره من القادة ونقلوا إلى موسكو، فاحتشد التشيكوسلوفاكيون أمام مقر الحزب متظاهرين غاضبين، لكن القوات فرضت طوقا أمنيا على المبنى لإرغامهم على التراجع.

وقام الشعب التشيكوسلوفاكي بردود أفعال عفوية على غزو السوفيات وقوات حلف وارسو، فأزالوا لافتات الطرق في محاولة لتضليل الجيش الغازي، واستمروا في حياتهم اليومية على الرغم من تعطيل الإمدادات وانقطاع الاتصالات.

وفي 23 أغسطس/آب ذهب الرئيس جوزيف سفوبودا إلى موسكو للتفاوض على إنهاء الاحتلال، ولكن بحلول 27 أغسطس/آب رضخ التشيكوسلوفاكيون لمطالب السوفيات في اتفاقية عرفت بـ"بروتوكول موسكو".

وعاد سفوبودا ومعه دوبتشيك وبقية القادة إلى براغ، ومعهم أنباء ببقاء القوات السوفياتية في البلاد، وفرض رقابة مشددة على الأنشطة السياسية والثقافية.

وعزل دوبتشيك في أبريل/نيسان 1969 وطرد من الحزب الشيوعي، وتخلت تشيكوسلوفاكيا عن مطالب الانفتاح لمدة عقدين من الزمن، حتى تمكنت الثورة المخملية من إرساء الديمقراطية.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية