الحرب الأهلية الإسبانية.. يوم واجه الجمهوريون الجنرال فرانكو بالسلاح

الحرب الأهلية الإسبانية اندلعت أواسط ثلاثينيات القرن العشرين بين الجمهوريين وأنصار عودة الملكية (غيتي إيميجز)

تصف عبارة "الحرب الأهلية الإسبانية" تلك المرحلة الدامية، في تاريخ المملكة الإسبانية، والتي امتدت على مدار 3 سنوات، الفترة الواقعة بين 18 يوليو/تموز 1936 وحتى الأول من أبريل/نيسان 1939، وراح ضحيتها أكثر من 1.5 مليون إنسان، بين قتيل وجريح وسجين ومشرد.

وتعتبر هذه الفترة من أكثر مراحل التاريخ الإسباني كارثية وسوادا، حيث دفع الشعب -نتيجة الانقسام الحاد بين طرفي الصراع- أثمانا باهظة، تركت ندوبا لا تنمحي في جسد إسبانيا.

وقد دارت رحى هذه الحرب الطاحنة بين الجمهوريين، المدافعين عن الجمهورية، الذين شكلوا تحالفا يضم الحكومة الشرعية المنتخبة في فبراير/شباط 1936، والممثلة في اتحاد أحزاب اليسار تحت راية "حزب الجبهة الشعبية" برئاسة مانويل أزانا، ويساندهم الفقراء والفلاحون وطبقات الشعب المهمشة، وبعض الضباط الذين انشقوا عن الجيش.

وعلى الطرف الآخر كان هنالك القوميون، الذين كانوا يدعمون عودة النظام الملكي، ويستمدون قوتهم من سلطة الكنيسة الكاثوليكية، ويتشكلون من تحالف قوى الجيش بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو، الذي انقلب على الحكومة عام 1936، تسانده الأحزاب اليمينية الفاشية، والأثرياء وملاك الأراضي، ورجال الدين والكنيسة.

وقد تأثرت هذه الحرب الأهلية بالأجواء المحلية والدولية، السياسية منها والاقتصادية، والتي كانت سائدة قبل وأثناء الحرب، وكانت إسبانيا ساحة حرب دولية، خاضت الأطراف المحلية فيها حربا بالوكالة عن اللاعبين الدوليين، على مستوى القارة الأوروبية وخارجها.

وكانت شرارة تصاعُدِ هذه الحرب الدامية انطلقت بسبب أن الانقلاب العسكري عام 1936 أخفق منذ البداية في تحقيق هدفه الأساس، المتمثل في الاستيلاء على السلطة وقلب نظام الحكم الجمهوري. ولأنه، وعلى عكس الحوادث بالجمهوريات الأخرى ذلك الوقت، كانت ثمة مقاومة واسعة النطاق تتصدى لأي محاولة تسعى إلى فرض نسق سلطوي.

أسباب الحرب الأهلية الإسبانية

عند الحديث عن الأسباب التي أدت إلى اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، فيمكن تقسيمها إلى عوامل داخلية وأخرى دولية:

العوامل الداخلية

أدت الهزائم -التي منيت بها إسبانيا في مستعمراتها الأميركية اللاتينية على يد قوات الولايات المتحدة- إلى تدهور سياسي واقتصادي واجتماعي عانت منه إسبانيا منذ نهايات القرن الـ 19، وتحديدا عام 1898.

ويمكن تقسيم العوامل الداخلية زمنيا إلى مرحلتين:

المرحلة من 1902 حتى 1931

عام 1902، تم تنصيب الملك ألفونسو الـ 13 وعمره آنذاك 16 عاما. وقد كان مفتخرا بعرشه محبا للسلطة، يغير الحكومات والوزراء كيفما اتفق، مما سمح بتدخل الجيش في معظم شؤون الدولة. وفتح المجال واسعا لاستبداد الأثرياء وملاك الأراضي على حساب الفقراء والفلاحين.

وعام 1921 تلقى الجيش ضربة قاصمة في مستعمراته بالمغرب، على يد الثائر محمد بن عبد الكريم الخطابي وأنصاره من أهل الريف المغربي، وقتل من الجيش الإسباني في مواجهاته مع الثوار أكثر من 12 ألف ضابط وجندي. وكشفت هذه الهزيمة الكارثية فضائح الجيش وفساد الحكومة ومؤسسة العرش.

وعام 1923 وحتى 1930 تشكلت حكومة دكتاتورية بقيادة الجنرال ريفيرا، والذي حل البرلمان وعطل المؤسسات وضيق الحريات على اليساريين والمعارضين.

كل ذلك أفرز فوضى وعدم ارتياح، نتيجة الظلم والفساد وغياب العدالة، مما هيأ للأحزاب اليسارية كسب الانتخابات المحلية سنة 1931، وتشكلت حكومة برئاسة نيسيتو ألكالا زامورا، والتي قامت بدورها بإعلان النظام الجمهوري ونفي الملك، ومن ثم بدأت تزداد حدة تعارض المصالح بين القوى المختلفة.

المرحلة من 1931 حتى 1936

لم يستطع اليساريون تنفيذ ما وَعدوا به من شعارات، بسبب مقاومة رجال الكنيسة الكاثوليكية وملّاك الأراضي، ومع تنامي الحركة الفاشية، والتي تُوجت بتأليف حزب يميني متطرف، استطاع الفاشيون كسب الانتخابات سنة 1933، وبذلك زاد التناقض بين قوى اليسار من جهة وبين قوى اليمين والجيش من جهة أخرى.

وسادت الفوضى والإضرابات والمظاهرات بتوجيه من اليساريين، ولكن تم قمعهم من قبل الجيش، واستمرت حالة عدم الاستقرار، وفي انتخابات فبراير/شباط سنة 1936 فاز حزب الجبهة الشعبية الممثل لجميع قوى اليسار، ولكن يوم 18 يوليو/تموز 1936 قام الجيش بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو بعمل انقلاب على الحكومة، وكانت تلك بداية الحرب الأهلية.

العوامل الدولية للحرب الأهلية الإسبانية

أما العوامل الدولية فكان على رأسها الأزمات الاقتصادية العالمية، ففي سنة 1929 تفاقمت الأزمة، ودخل الاقتصاد العالمي مرحلة ما سمي "الكساد الكبير" مما أثر على الإسبانيين بشكل سلبي حاد، فزادت نسبة البطالة وتفاقمت مستويات الفقر، وزاد ذلك من حدة التناقضات بين القوى المتصارعة، ورسخ الفرقة بين طبقات المجتمع.

كما كانت هنالك عوامل سياسية دولية أثّرت على الوضع الداخلي الإسباني، فقد تصادف تلك الفترة وجود حراك سياسي وأيديولوجي عالمي كان له تأثير كبير على الحرب الأهلية الإسبانية، حيث قام الاتحاد السوفياتي، الذي يمثل اليسار العالمي، وكذلك المكسيك الاشتراكية، بدعم الجمهوريين، وجاء المتطوعون اليساريون من جميع أنحاء أوروبا للقتال بجانبهم.

ومن جهة أخرى، كانت كل من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية تمثلان أقصى الفكر اليميني المتطرف، فدعمتا القوميين، وكان لذلك الاستقطاب والدعم الخارجي دور أساسي في اندلاع وإطالة فترة الحرب الأهلية الإسبانية وشراستها.

والتزمت كل من بريطانيا وفرنسا الحياد، رغم ميل حزب العمال البريطاني تجاه الجمهوريين، إلا أن الحكومة التي بيد المحافظين آثرت عدم الانحياز لأي طرف، بينما كان الاشتراكيون الفرنسيون يدعمون الجمهوريين في إسبانيا بوسائل غير مباشرة، بل كانت المساعدات العينية تتدفق على الثوار الجمهوريين من فرنسا عبر البرتغال، إضافة إلى الدعم السياسي لحكومة مدريد.

قوات تابعة للجمهوريين تدخل مدينة بورتبو في فبراير/شباط 1939 (غيتي إيميجز)

بداية الحرب

بدأت الأحداث بتململ الجيش الإسباني في 17 يوليو/تموز 1936، بقيادة الجنرال فرانكو، والذي كانت حكومة الجمهوريين أبعدته إلى جزر الكناري. وسرعان ما انتقل حراك الجيش اليوم التالي مباشرة إلى مدريد، وهكذا بدأت الحرب الأهلية الإسبانية.

وكان الجيش يظن أن حكومة الجمهوريين سوف تستسلم سريعا، ولكنها أبدت مقاومة شديدة بسبب وجود كثير من فرق الجيش في صفها، وكذلك الجماهير الناقمة على الحكم الدكتاتوري والملكية وسلطة الكنيسة.

أما العامل الرئيس في إطالة أمد الحرب فكان تدخل القوى الدولية بالصراع؛ فقد دخلت إيطاليا الفاشية وحدَها الحربَ بـ 40 ألف جندي مدعومين بكل أنواع الأسلحة والطائرات، ولم يكن صراع الأيديولوجيات هو العامل الحاسم في التدخل، ولكن أطماع روما في الحصول على جزر البلبار في مواجهة جبل طارق كان له دور كبير بهذا التدخل.

وكانت ألمانيا النازية تطمع في الحصول على امتيازات استغلال المناجم الإسبانية، وكان وجود فرانكو (صديق برلين) في سدة الحكم يضمن لألمانيا استمرار انشغال الجيش الفرنسي على جبهة جبال البرانس، الأمر الذي سيوهن من قوة فرنسا أمام الهجمة النازية العاتية.

ودخل الاتحاد السوفياتي بأطماع أيديولوجية بحتة، تتمثل في محاولة نشر الشيوعية غرب القارة العجوز، وكان يقدم الدعم لحكومة الجمهوريين اليساريين، على شكل مال وأسلحة وعتاد.

أحد شوارع برشلونة عام 1936 حيث حملت النساء السلاح بالحرب الأهلية (غيتي إيميجز)

أهم المعارك والمحطات

أعدم كل من الجمهوريين والقوميين عشرات الآلاف من الإسبان المعارضين لكل منهم في مناطق سيطرة كل فريق، ومن أشهر هذه الإعدامات إعدام الجمهوريين "خوسيه أنطونيو بريمو دي ريفيرا" وهو رئيس ومؤسس الكتائب الإسبانية الفاشية "الفالانج". كما أعدم القوميون الشاعر "فيدريكو غارثيا لوركا" أحد أهم أدباء القرن العشرين.

وانتشرت السجون والمعتقلات في أنحاء إسبانيا تحت قيادة كلا الطرفين، وقد وصل عدد المعتقلين من الجانبين خلال الحرب إلى أكثر من 600 ألف معتقل، مما أدى إلى قمع كل أنواع الحريات، وسادت حالة من الخوف والرعب الشديدين بين المواطنين.

بحوالي 40 طائرة ألمانية وأكثر من 50 طنا من القنابل، قصفت مدينة غرنيكا في 26 أبريل/نيسان 1937، والتي كانت تحت سيطرة الجمهوريين، مما أدى إلى تدمير معظمها، وموت وتشريد سكانها. ويجدر هنا ذكر اللوحة العالمية "غرنيكا" للفنان الإسباني الشهير "بابلو بيكاسو" والتي رسمها تخليدا لذكرى ضحايا هذا الهجوم.

اندلعت معركة إبيرو في أكتوبر/تشرين الأول 1938، ووصلت قوات القوميين إلى منطقة الشمال في فالينسيا، وتقدم حوالي 100 ألف جندي من الجمهوريين لقتالهم ودحرهم، واستمر القتال بدون توقف لمدة 3 شهور، إلى أن انتصر القوميون، وانهزم الجيش الجمهوري الشمالي، وتعتبر هذه المعركة بداية نهاية الحرب.

ظلت برشلونة طول فترة الحرب تحت سيطرة الجمهوريين، ولكنها، وبتاريخ 26 يناير/كانون الثاني 1939، سقطت بدون قتال في أيدي القوميين، نتيجة لهزيمة الجيش الجمهوري الشمالي.

مقاتلون من الجمهوريين بأحد خنادق الحرب ضد الجنرال فرانكو (غيتي إيميجز)

الخسائر البشرية للحرب الأهلية الإسبانية

  • مقتل أكثر من 600 ألف إنسان من المدنيين والعسكريين الإسبان.
  • بلغ عدد السجناء أكثر من 500 ألف سجين.
  • تشريد أكثر من 600 ألف إنسان، حيث قام معظم الجمهوريين بالنزوح خارج البلاد، وخاصة إلى فرنسا.
  • انتشار الخوف والرعب والفقر والاضطهاد، مما ترك آثارا كبيرة، وجروحا في نفوس الإسبانيين لم تندمل، حتى بعد انتهاء الحرب.

النتائج السياسية للحرب الأهلية الإسبانية

بعد انتصار الجيش بقيادة الجنرال فرانكو، وانفراد الأخير بسلطة شمولية دكتاتورية على مقاليد الأمور في إسبانيا، يمكن إجمال النتائج السياسية لهذه الحرب بما يلي

بصفته كان دكتاتورا، لم يقبلْ فرانكو أن يشاركه دكتاتور آخر في مقدَّرات بلاده، وهكذا خابت آمال الزعيم الإيطالي بينيتو موسوليني والزعيم الألماني أدولف هتلر في الأطماع التي كانا يمنّيان نفسيهما بها، وعلى الرغم من مشاركة القوات الإيطالية في الحرب كأنها تدافع عن أراضيها، إلا أن المعاهدة التي عقدت بين إسبانيا وإيطاليا في عهد فرانكو لم تعط الأخيرة أي امتيازات تذكر.

واعترفت كل من بريطانيا وفرنسا بحكومة فرانكو، ورغم أن فرنسا أولت اهتماما كبيرا لجبهة البرانس، إلا أنها لم تكن كلها ضد فرانكو، فقد التزم "ليون بلوم" (رئيس حكومة فرنسا الاشتراكي) الحيادَ، ولم يتخذ خطوات مشددة ضد الجنرال الإسباني.

لاجئون من ضحايا الحرب الأهلية الإسبانية وصلوا حدود الفرنسية عام 1939 (غيتي إيميجز)

بانتصار فرانكو انتصرت الفاشية الجديدة، ومنيت الديمقراطيات الغربية بالهزيمة. لكن إيطاليا خسرت الكثير من مراكزها شرق أوروبا، مقابل مكاسب كبيرة لهتلر في منطقة البلقان.

أعطت الحرب الأهلية الإسبانية الفرصة لإيطاليا وألمانيا لتنسيق مواقفهما، وهو الأمر الذي أدى إلى نشوء تحالف "المحور" والذي تصدّى للشيوعية لاحقا بعد انضمام اليابان إليه.

عقد "اتفاق الجنتلمان" بين إيطاليا وبريطانيا في يناير/كانون الثاني 1937، وبموجبه اعترفت كل من الدولتين بحق الأخرى في مصالح قومية وحيوية بحوض البحر المتوسط.

ضاعت هيبة "عصبة الأمم" وتمزقت نظرية "الأمن الجماعي وحل المشكلات بالطرق السلمية" وظهر بدلا من ذلك اللجوء إلى العنف لتحقيق الأهداف القومية.

كانت نتيجة الحرب الأهلية الإسبانية سببا، بشكل مباشر وغير مباشر، في اندلاع الحرب العالمية الثانية، ومن الطريف أن هذا البلد بقي طرفا محايدا في هذه الحرب.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية