الجمعيات الاستيطانية "سيف مُصلت" على أملاك الفلسطينيين في القدس

تنفيذا لوعد بلفور (2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917) بدأت عمليات الاستيطان والتهويد في القدس قبل أكثر من قرن مع مجيء الانتداب البريطاني عام 1917، ومع اندلاع حرب 1967 -التي تم خلالها احتلال الشطر الشرقي من القدس- دخلت إسرائيل في سباق مع الزمن من أجل تنفيذ مخططات استيطانية ضخمة تقتلع من خلالها الوجود الفلسطيني في هذه المدينة المقدسة، وتزرع المستوطنين بدلا من الفلسطينيين لتحقيق أهداف ديمغرافية بعيدة المدى.

تجندت الدولة في البدايات وصادرت مساحات شاسعة من أراضي شرقي القدس بهدف بناء المستوطنات، ولاحقا دخلت الجمعيات الاستيطانية المدعومة من جهات مختلفة على خط التهويد، وتمكنت من التغلغل في قلب الأحياء الفلسطينية التي تحولت حياة سكانها إلى جحيم مع استيلاء المستوطنين على العقارات بقوة الاحتلال.

وبعد أن كان السكان الفلسطينيون يشكلون أغلبية عام 1967، باتوا يشكلون ما نسبته 38% عام 2016، وبينما كانوا يسيطرون على 100% من الأراضي، أصبحوا يسيطرون على 13% منها فقط بعد عمليات المصادرة وإقامة المشاريع الاستيطانية وفتح الطرق والبناء ضمن الأحياء العربية، لتأتي مرحلة أخرى من مراحل التهويد ورسم الحدود.

مصادرة باسم الدولة

ولا تقتصر مصادرة أراضي وعقارات المقدسيين على الجمعيات الاستيطانية فقط، بل بدأ الاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين عند احتلال الشطر الشرقي من القدس عام 1967 على صعيد الدولة التي طبقت قوانين مصادرة من زمن الانتداب البريطاني، وما زالت هذه القوانين سارية المفعول حتى يومنا هذا، بالإضافة لقوانين أخرى سنّتها حكومة تل أبيب.

أكثر هذه القوانين أهمية "المصادرة أو الاستملاك لأغراض عامة" الذي سُنّ عام 1943 وبسببه صودرت مساحات شاسعة من أراضي شرقي القدس، وأغلب المستوطنات الكبيرة بنيت على أراض صودرت بموجب هذا القانون، وأبرز هذه المستوطنات "بسجات زئيف، أرمون هنتسيف، جيلو، هار حوماه، التلة الفرنسية".

ومن الجدير بالذكر أن 97% من الاستيطان بالقدس الشرقية بني على أراض صودرت من الفلسطينيين مباشرة بعد الاحتلال والسنوات التي تلته استنادا لقانون المصادرة البريطاني الذي استولى على الأراضي عنوة مع إمكانية تعويض أصحابها الذين رفضوا هذه الفكرة جملة وتفصيلا.

ووفقا لما جاء بكتاب تهويد القدس لمؤلفه مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية خليل التفكجي، فقد تمت مصادرة 24 كيلومترا مربعا بما يعادل 35% من مساحة القدس الشرقية بموجب هذا القانون، وأنشئت على هذه المساحات 15 مستوطنة كما شيدت 60 ألف وحدة سكنية.

أبرز الجمعيات الاستيطانية وأكثرها نشاطا

جمعية عطيرت كوهانيم:

تأسست عام 1978 وتمكنت حتى عام 2018 من السيطرة على 21 بناية في الحيين الإسلامي والمسيحي بالبلدة القديمة، وأغلبها في طريق الواد المؤدية إلى المسجد الأقصى المبارك.

وأشهر البؤر الاستيطانية التي استولت عليها هذه الجمعية ما يعرف بمنزل "أرييل شارون" في طريق الواد.

جمعية العاد

تأسست عام 1986 على يد المستوطن "دافيد باري" المنحدر من عائلة يهودية ذات أصول بولندية، وهي من أغنى الجمعيات غير الحكومية في إسرائيل، وتشرف على أكثر من 75 بؤرة استيطانية في بلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى.

وتمول العاد الحفريات الإسرائيلية بمنطقة سلوان، وتنظم أنشطة تعليمية وجولات ومحاضرات وندوات تهدف لغسل أدمغة اليهود والسياح الذين يزورون "مدينة داود" الاستيطانية في سلوان لتكريس الرواية التوراتية حول المكان.

جمعية نحالات شمعون

نشطت في سرقة الأراضي الفلسطينية ومحاولات السيطرة عليها خلال السنوات الماضية، وحصلت من خلال عملية شراء غير قانونية على تفويض لاستعادة الأراضي في منطقة كرم الجاعوني (الشطر الشرقي من حي الشيخ جراح) لصالح المستوطنين.

ويضاف لهذه الجمعيات أخرى تعمل على مستوى أصغر، وعبر عدة أساليب للمطالبة بما يزعم أنه "أملاك اليهود" شرقي القدس.

صناديق تمويل يهودية ومساعدة قضائية

تقف صناديق تمويل يهودية أجنبية خلف هذه الجمعيات، وتقدر ميزانياتها بمئات ملايين الشواكل (الشيكل عملة إسرائيل) فعلى سبيل المثال تقدر ميزانية جمعية العاد التي تنشط في بلدة سلوان بـ 500 مليون شيكل (حوالي 146.5 مليون دولار).

أما في ما يخص القضاء الإسرائيلي، فيقول الباحث في العيادة القانونية التابعة لجامعة القدس المحامي أحمد أمارة -للجزيرة نت- إن القضاء يملك الأدوات القانونية التي تمكنه من منع مصادرة أراضي الفلسطينيين أو إخلائهم من عقاراتهم لصالح المستوطنين، لكنه والحكومة الإسرائيلية تساهلا بشكل كبير لتمكين الجمعيات الاستيطانية من الاستيلاء على الممتلكات في القدس.

وأضاف أمارة -المختص بقوانين الأراضي في فلسطين- أنه يمكن تطبيق تفسيرات في القانون تسمح للفلسطيني بالبقاء في العقار بسبب التقادم، بمعنى أنه يحق له البقاء في العقار إذا كان يسكن به منذ عام 1948، وإن ثبت أنه كان مملوكا لليهود قبل هذا العام.

وفي حالات كثيرة، كان يمكن للقضاء أن يتخذ قرارات محايدة عبر عدة تأويلات قانونية، إلا أنه اصطف دائما خلف الجمعيات الاستيطانية.

كيف دعمت الحكومة الإسرائيلية الجمعيات الاستيطانية؟

تتعاون كل من دائرتي أملاك الغائبين وأراضي إسرائيل، ووزارة الإسكان وصندوق أراضي إسرائيل وغيرها من الدوائر الحكومية، مع الجمعيات الاستيطانية لتسهيل وضع اليد على أملاك الفلسطينيين في القدس.

ووفقا للباحث فإن الدولة مكنت الجمعيات الاستيطانية من الحصول على قروض بشروط ميسرة من أجل ترميم بعض المباني التي يتم الاستيلاء عليها ليعيش المستوطنون بظروف جيدة فيها.

وشهدت هذه الجمعيات فترة حكم أرييل شارون انتعاشا غير مسبوق، وخلال ولاية إسحاق رابين حاول تغيير الوضع تسعينيات القرن الماضي، لكن بعد اغتياله عادت الجمعيات الاستيطانية للانتعاش فترة حكم بنيامين نتنياهو.

أبرز الأحياء المستهدفة من الجمعيات الاستيطانية

تعمل الجمعيات الاستيطانية على التغلغل في بعض الأحياء المقدسية منذ 30 عاما مثل سلوان والشيخ جراح، ودخلت أحياء أخرى إلى دائرة الاستهداف لاحقا مثل بيت حنينا وشعفاط وبيت صفافا وشرفات ورأس العامود والمصرارة، بالإضافة لشارع صلاح الدين الأيوبي.

وتتعدد الادعاءات التي تدفع الجمعيات الاستيطانية للانقضاض على أحياء فلسطينية في القدس، لكن يتركز معظمها على الروايات التوراتية وما تقول هذه الجمعيات إنه "التاريخ اليهودي" أو محاولة استرداد عقارات يدّعون أنها تعود ليهود قبل عام 1948.

ففي حي بطن الهوى ببلدة سلوان -على سبيل المثال- تدّعي جمعية "عطيرت كوهانيم" الاستيطانية ملكية 5 دونمات و200 متر مربع (الدونم ألف متر مربع). وسُلم الأهالي هناك أوامر إخلاء 86 منزلا يسكن بها 726 مقدسيا.

وبدأ التغلغل الاستيطاني في الحي عام 2004 ببؤرتين استيطانيتين، ثم تصاعد عام 2014 ليصل الآن إلى 6 بؤر تعيش فيها 23 أسرة من المستوطنين.

وتدّعي "عطيرت كوهانيم" أن ملكية المنازل في الحي تعود ليهود من أصول يمنية قبل عام 1948. وافتتحت فيه عام 2018 "مركز تراث يهود اليمن" بادّعاء أن كنيسا يعود لهم كان قائما بالمكان وحمل اسم "بيت العسل".

أما حي البستان في البلدة ذاتها، والذي يمتد على مساحة 70 دونما، ويعيش فيه 1550 مقدسيا يتوزعون على 109 منازل، فيهدد سكانه خطر التهجير القسري، إذ يسعى الاحتلال لتسريع عملية هدم منازل الحي لإقامة "حديقة قومية" باسم "حديقة الملك" لتخليد المكان الذي كان -حسب الرواية الإسرائيلية- "بستانا للملك داود".

ويبلغ عدد البؤر الاستيطانية في سلوان مجتمعة 87 بؤرة يعيش فيها نحو 3 آلاف مستوطن، وفقا لـ فخري أبو ذياب عضو لجنة الدفاع عن أراضي سلوان.

وبشأن "الشيخ جراح" صادق الكنيست عام 1970 على قانون يزعم وجود أراض وعقارات لليهود في هذا الحي، وادعى أنهم تملكوا هذه الأراضي والعقارات قبل قيام إسرائيل، ومنذ ذلك الحين تعاقبت الحكومات الإسرائيلية على زرع البؤر الاستيطانية وإحلال اليهود المتدينين في قلب الحي لمحاصرة الوجود الفلسطيني فيه.

وفي الشق الشرقي من حي الشيخ جراح -المعروف فلسطينيا بكرم الجاعوني- تعيش 28 عائلة ممتدة لاجئة على مساحة 18 دونما، ويبلغ عددهم 500 فرد وهم مهددون بالإخلاء لصالح الجمعيات الاستيطانية التي تدعي ملكيتها للأرض.

أما في الشطر الغربي المعروف بأرض النقاع، فتحاول الجمعيات الاستيطانية ترحيل السكان بادّعاء أن اليهود كانوا يقطنون المنطقة قبل عام 1948، وأجلت بالقوة أسرتين في هذا القسم حتى الآن من أصل 40 أسرة تعيش على مساحة نحو 10 دونمات.

وفي البلدة القديمة بالقدس، يعيش أكثر من ألفي مستوطن بقوة الاحتلال في 77 عقارا استولوا عليها خلال السنوات الماضية، وفقا للباحث المختص في شؤون الاستيطان أحمد صب لبن.

وسائل الجمعيات الاستيطانية للسيطرة على عقارات المقدسيين

تتعدد الأساليب المباشرة والملتوية التي تستخدمها الجمعيات الاستيطانية للسيطرة على أملاك الفلسطينيين في القدس، ومنها:

قانون أملاك الغائبين

سُنّ عام 1950 لتسهيل الاستيلاء على أملاك فلسطينية وأوقاف مسيحية وإسلامية غاب سكانها العرب عام 1948.

ويطبق هذا القانون على أملاك الفلسطينيين شرقي القدس بشكل واسع، ويقضي بمصادرة عقارات المقدسيين المقيمين في الضفة الغربية أو خارج البلاد ومنحها لعائلات يهودية بهدف تغيير الواقع الديمغرافي بالمدينة المقدسة.

وتعتبر الحكومة الإسرائيلية الفلسطينيين بالضفة لاجئين في وطنهم بحكم الغائبين، تمهيدا لوضع عقاراتهم وأملاكهم تحت تصرف ما يسمى "الوصي على أملاك الغائبين" لتوظيفها في تعزيز الاستيطان والتهويد.

أملاك يهودية قبل عام 1948

يُخول الوصي العام في وزارة القضاء الإسرائيلية بإدارة كافة الأملاك التي كانت تعود لليهود قبل عام 1948، وذلك وفقا لقانون الشؤون الإدارية والقانونية الصادر عام 1970، والذي يطالب الوصي بإعادة أي أرض أو ملك لصاحبه اليهودي أو وريثه أو خليفته.

وحسب المحامي أمارة، فإن هذا القانون فتح المجال لكل من يدعي أنه صاحب ملك أو اشترى ملكا بأن يتوجه للوصي العام لاسترداده عبر تقديم لوائح ودعاوى إخلاء ضد الفلسطينيين.

وتعمل الجمعيات الاستيطانية وفق هذه الآلية في كل من حي الشيخ جراح وحي بطن الهوى في بلدة سلوان، الذي تدعي الجمعيات الاستيطانية أنه أقيم على وقف لليهود اليمنيين.

التسريب عبر السماسرة

تحاول الجمعيات الاستيطانية السيطرة على عقارات المقدسيين من خلال سماسرة يشترون العقارات، ويسربونها لها لاحقا.

وفي حالات نادرة، تستدرج هذه الجمعيات بعض ضعاف النفوس من سكان المدينة لدفعهم لبيع عقاراتهم للمستوطنين.

وسائل المقدسيين لحماية عقاراتهم

يعد تسجيل العقارات والأراضي كوقف "ذري" وسيلة جيدة لحمايتها من التسريب بشكل عام، لكنها تبقى غير محصنة.

ووفقا للباحث أمارة، فإن من يريد أن يوقف أملاكه وقفا ذريا يجب أن يثبت ملكيته لها، وفي حال سجّل هذا الوقف بدائرة الأوقاف الإسلامية أو المحكمة الشرعية الأردنية، فإنه من غير المؤكد أن تعترف المحكمة الشرعية الإسرائيلية به، وبالتالي فإن عملية التسجيل معقدة وتتخللها الكثير من العقبات في ظل وضعية القدس الاستثنائية.

إمكانية استرداد العقارات من المستوطنين

أكد الباحث أمارة أن الحالات القضائية -التي نجح الفلسطينيون فيها باسترداد عقاراتهم من المستوطنين- نادرة جدا، واقتصرت على قضايا تزييف الملكيات.

أما في حالة أملاك الغائبين وأملاك اليهود قبل عام 1948، فلم تسجل حالات استرداد حتى الآن، باستثناء أمرين قضائيين فتحا نافذة ضوء صغيرة في قضية حي كرم الجاعوني بالشيخ جراح وقضية عائلة دويك في حي بطن الهوى، لكن هذين القرارين جمدا وأجّلا الإخلاء ولم يلغياه.

المصدر : الجزيرة