اتفاقية باريس الاقتصادية.. قيود تكبل السلطة الفلسطينية وتمنع تطور الاقتصاد

اتفاقية باريس هي الاسم الدارج للبروتوكول الاقتصادي الملحق باتفاقية أوسلو (الأناضول)

تواجه السلطة الفلسطينية إحدى أسوأ أزماتها المالية منذ تأسيسها بموجب اتفاقية أوسلو عام 1994، والتي لم تستطع معها الإيفاء بفاتورة رواتب موظفيها في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وأرجع رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتية في جلسة الحكومة -الأسبوع الماضي- سبب هذه الأزمة إلى إسرائيل، وقال إن "إسرائيل تستمر في الاقتطاع من أموالنا المستحقة، مما يضعنا في وضع مالي صعب".

واضطرت حكومة اشتية إلى خفض رواتب موظفيها المقدر عددهم بنحو 140 ألفا في الضفة وغزة بنسبة 25% عن نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

ويقول خبراء ومختصون للجزيرة نت إن أزمات السلطة المتكررة خلال العقدين الماضيين تعود لسببين أساسيين، هما قيود اتفاقية باريس الاقتصادية، وسوء الأداء المالي والاقتصادي للسلطة.

اتفاقية باريس الاقتصادية

اتفاقية باريس هي الاسم الدارج للبروتوكول الاقتصادي الملحق باتفاقية أوسلو، ووقعتها السلطة الفلسطينية وإسرائيل في باريس في 29 أبريل/نيسان 1994.

وتتكون الاتفاقية من 82 بندا بهدف تنظيم العلاقات الاقتصادية عبر "اللجنة الاقتصادية المشتركة" بين الطرفين خلال 5 سنوات هي عمر المرحلة الانتقالية من اتفاقية أوسلو التي انتهت فعليا عام 1999، غير أن هذه اللجنة لم تجتمع سوى مرات قليلة، قبل أن تجمدها إسرائيل كليا عقب اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.

وجوبهت مطالبات سابقة للسلطة بإجراء تعديلات على بعض بنود الاتفاقية -التي مضى أكثر من ربع قرن على توقيعها- برفض إسرائيلي.

ووصفت دراسة للاتحاد العام للاقتصاديين الفلسطينيين بعنوان "الاقتصاد الفلسطيني المجني عليه باتفاقية باريس الاقتصادية" هذه الاتفاقية بأنها "مصيدة" دخلتها منظمة التحرير الفلسطينية جراء عدم خبرة المفاوض الفلسطيني بالقضايا الاقتصادية والمالية والفنية، ولم تستطع الفكاك من هذه المصيدة حتى الآن.

في المقابل، امتلكت إسرائيل القرار النهائي بكل ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية الفلسطينية التي قيدتها الاتفاقية بالموافقات الإسرائيلية السياسية والأمنية والمهنية.

وبحسب الدراسة، فإن اللجنة الاقتصادية المشتركة بين الطرفين والمشكّلة من عدد متساوٍ من الأعضاء وأي لجان فرعية أخرى يمكن تشكيلها تحولت إلى اسم فقط وأدخلت إلى "الثلاجة"، ولم تعد لها أي سلطة أو تأثير على مجمل العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية بين الجانبين.

حامد جاد: اتفاقية باريس تحاصر الاقتصاد الفلسطيني وتجعله محاطا بدائرة إسرائيلية محكمة (الأناضول)

قيود وتبعية للاقتصاد الإسرائيلي

وقال الكاتب الصحفي المختص في الشؤون الاقتصادية حامد جاد -للجزيرة نت- إن الاتفاقية تحاصر الاقتصاد الفلسطيني وتجعله محاطا بـ"دائرة إسرائيلية محكمة"، وتحول دون انطلاقته نحو التنمية الحقيقية، بفعل قيود الاتفاقية التي ربطته بالاقتصاد الإسرائيلي وجعلت الانفكاك عنه غاية في الصعوبة.

وبموجب هذه الاتفاقية، فإن إسرائيل تتحكم في أدق تفاصيل الحياة الاقتصادية الفلسطينية من خلال سيطرتها المطلقة على الموانئ والمعابر، وربط الموافقات الاقتصادية بالبعد الأمني، وضمن الغلاف الجمركي الموحد من دون اعتبار لمستوى النمو والتطور في الاقتصاد الفلسطيني الناشئ مقارنة بالإسرائيلي، وفقا لجاد.

وتابع أن الاتفاقية وضعت قيودا مشددة على حركة الصادرات والواردات باشتراط عدم تعامل الاقتصاد الفلسطيني مع دول لا تقيم علاقات سياسية أو تجارية مع إسرائيل أو في حالة حرب معها.

وأضاف جاد أن التاجر الفلسطيني وجد نفسه مقيدا باشتراطات من حيث الكميات والمواصفات، وتعقيدات الموافقات الأمنية الإسرائيلية، فاضطر إلى التعامل المباشر مع الاقتصاد الإسرائيلي لتجاوز متطلبات التعامل الخارجي المعقدة.

ويعتقد جاد أن الاقتصاد الفلسطيني لن يشهد نموا وتقدما حقيقيا في ظل وجود هذه الاتفاقية، وعدم توفر البيئة الجاذبة للاستثمار، كالأمن والاستقرار، وعدم امتلاك الجانب الفلسطيني منافذه التجارية مع العالم الخارجي.

ما المقاصة؟

وإضافة إلى تأثير قيود الاتفاقية على نهضة الاقتصاد ونموه فإنها في جانب مهم منها يتعلق بالمقاصة (عائدات الضرائب) كانت سببا في أزمات السلطة المالية المتكررة، فضلا عن استخدام إسرائيل أموال الإيرادات الجمركية التي تحصلها نيابة عن السلطة "كورقة ضغط وابتزاز سياسي"، وتعمد إلى حجزها وعدم تحويلها لخزينة السلطة رغم أنها تحصلها في مقابل 3% كرسوم تحصيل وإدارة.

وأموال المقاصة التي تقدر شهريا بنحو 188 مليون دولار تشمل الضرائب التي تفرضها إسرائيل على السلع الواردة لأراضي السلطة الفلسطينية من الخارج، و75% من ضريبة الدخل التي تحصلها من العمال الفلسطينيين الذين يعملون داخل إسرائيل، وكل قيمة الضريبة المحصلة من العمال الفلسطينيين في المستوطنات، إضافة إلى رسوم معاملات أخرى.

وشرعنت إسرائيل الاستيلاء على هذه الأموال في مارس/آذار 2018 عندما صدّق الكنيست على مشروع قانون باحتجاز مبالغ تعادل قيمة المخصصات المالية التي تدفعها السلطة لعائلات الشهداء والأسرى.

وفي مايو/أيار من ذلك العام ردت السلطة بوقف التنسيق الأمني ورفض استلام المقاصة منقوصة، غير أنها لم تصمد طويلا لتقرر في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 استئناف التنسيق الأمني، وقالت -في حينه- إن قرارها جاء بعد تحويل إسرائيل كامل المستحقات المالية وتقدر بـ3 مليارات و768 مليون شيكل (الدولار يعادل 3.10 شيكلات).

غير أن تصريح اشتية الأخير يؤكد أن إسرائيل لم تلتزم بتحويل هذه الأموال، ولا تزال تقتطع منها، الأمر الذي وضع السلطة في أزمة مالية جديدة ومتكررة.

ويقول مختصون إن السلطة لا تقوى على الصمود ماليا من دون أموال المقاصة التي شكلت نحو 68.4% من إجمالي إيرادات السلطة عن السنة المالية 2017، بحسب بيانات وزارة المالية الفلسطينية.

أموال المقاصة تشمل الضرائب التي تفرضها إسرائيل على السلع الواردة لأراضي السلطة الفلسطينية من الخارج (الجزيرة)

أسباب وحلول

بدوره، يؤمن أستاذ الاقتصاد الدكتور معين رجب بأن الجزء الأكبر من المآسي والأزمات المالية الفلسطينية ترجع أسبابها إلى اتفاقية باريس، لكنه في الوقت نفسه يحمّل السلطة -بسوء وضعف أدائها- جزءا من المسؤولية.

وقال رجب للجزيرة نت "لسنا مع هذه الاتفاقية، ولكنها قائمة، والسلطة لم تحسن التعامل معها بالقدر الذي يحقق الفائدة للاقتصاد الوطني".

ويتفق مع المنادين بضرورة تعديل الاتفاقية بما يتماشى مع التطورات بعد 27 عاما على توقيعها، وقال "لا يكفي أن تطلب السلطة التعديل، بل يجب عليها أن تلح في الطلب وتضغط في المحافل الدولية لإجبار إسرائيل على ذلك".

وأضاف أنه "من الطبيعي أن ترفض إسرائيل إجراء تعديلات، فالاتفاقية ضمنت لها الكثير في مقابل الفتات القليل الذي تمنحه للسلطة".

وتساءل "هل يعقل بعد كل هذه السنوات أن تستمر إسرائيل في فرض شروطها وقيودها التي تضمن لها توريد حوالي 65% من احتياجات السوق الفلسطيني، فيما لا تزيد نسبة التجارة الفلسطينية مع الدول العربية على 4%".

المصدر : الجزيرة